لا تُـلقـوا قُدْسَـكم للكـلاب !

أهلا وسهلا بالأخت سهى

سأَلت الأخت سُهى تقول :” ما المقصود بالآية ” لا تُعطوا الكلاب ما هو مُقَّدَس ، و لا ترموا دُرَرَكم إلى الخنازير، لئلا تدوسَها بأرجُلِها وتلتفتَ إليكم فتُمَّـزقُكم “. متى 7 : 6

الكلاب والخنازير !

لقد جاء في الأنجيل ذكرُ الكلاب والخنازير. وقد حَرَّمت الشريعة الموسوية أكلَ لحم كليهما ، لأنَّهماَ لا يجتَّران وبالإضافة ظفرُهما مشقوقٌ (لا11: 1-7؛ تث14: 8). وهما إذًا خارج قائمة الحيوانات الطاهرة. إنها ” نجسة ٌ” حسب الشريعة اليهودية وتُدَّنس من يتعاملُ معها، يحويها في البيت أو يلمسُها أو يأكلُ من لحمها. وشعبُ الله المختار كان مدعُوًّا إلى التحَّلي بالقداسة مثل إلَهِهِ القدوس (لا11: 44-45؛ 19: 2؛ 1بط1: 16). وبالمقابل إعتبرَ اليهودُ بقيّةَ الشعوب نجسين، لأنهم خارج شعب الله القدوس، فلم يترددوا في نعتِهم بـ ” البهائم “. لذا لم يُرَّبوا في بيوتهم لا خنازيرَ ولا كلابًا. كانت تعيش في العراء في الأوساخ. وإذا آقتنى أحدٌ كلابًا لحراسةِ قطعانه إحتفظَ بها خارج الدار وأقاتَها بعدَ أفراد الأسرة ، لا معهم، ومن فضلاتِ طعامِهم.

  • الكلاب !

إلتقى يسوعُ مرَّةً، في إحدى جولاتِه في صورَ وصيدا، يقطنها وثنيون، بآمرأةٍ كنعانية من تلك البلاد إسترحَمتهُ من إجل إبنتها التي فيها شيطانٌ يُعَّذبُها. ماذا كان ردُّ يسوع؟ :” لا يليقُ أن يُؤْخذَ خبزُ البنين ويُرمى إلى الكلاب. أجابت : نعم. والكلاب تأكلُ من الفضلاتِ الساقطة من موائد أربابِها” (متى15: 26-27). المسيح جاء يكشف الحقيقة لمن هم داخلَ بيت الله فيُصلح أولاً أمر” إبن الله ” (شعبِه) ويَشفيَه من دائه ليعود فيُؤَّديَ رسالةَ الإنارةِ والخلاص لكل الأمم. لكن نورَ الحق والخلاص لن ينحصرَ داخل الجدران بل يشُّع حول البيت.

وكتب بولس لأهل فيلبي :” إحترسوا من الكلاب، إحترسوا من عُمّال السوء” (في3: 2) ناعتًا بالكلاب الناسَ الأشرار والرسلَ الكذّابين الذين ينافسونه في البشارة محاولين تشويهَ تعليمه بل وحتى إزاحتَه. أما سفرُ الرؤيا فينعت الأشرارَ الهالكين، خارج المدينة السماوية المقدَّسة، بـ” الكلاب والسحرةِ والفجَّارِ والقتلةِ وعبدةِ الأوثان وكلِّ من يكذب ويُحِّبُ الكذبَ” (رؤ22: 15).

  • الخنازير !

إلتقى يسوع على ضفافِ بحيرةِ طبرية برجلٍ فيه شياطين. ولما أخرجها منه إنتقلت إلى قطيعِ خنازيرَ ترعى في المنطقة “فآندفعَ القطيعُ الى البحيرة وغرق فيها ” (لو8: 27-33). والخنازيرُ تقتات عادةً من الفضلات في المزابل. فصارت رمزًا للوسخ والدنس الذي يرمز بدوره الى الخطيئة والفساد. ولما آنغمس الأبنُ الضال في الفساد إنتهى به المطافُ إلى أن يرعى الخنازير(لو15: 15). ورعايةُ الخنازير بالنسبة الى اليهود هي ” نهايةُ الإنحطاط الخلقي”. وأصبح الأبن الضال يقتات مع الخنازير فكاد أن يموتَ جوعًا وفسادًا. لكنه قام من غفلته وآستدرك ضلاله فأصلحه بالتوبة: ” كان مائتًا فعاش وضالًّا فوجد” (لو15: 24). فأصبحت الخنازيرُ والكلاب في التقليد اليهودي رمزًا للناس الأشرار المُفسدين والمُسيئين!.

لا تلقوا قُدسَكم للكلاب .. ولا درركم للخنازير !

إنَّ أولَ تفسير لهذه الآية جاء في كُتَيِّبِ” ديداخى” (تعليم الرسل) الذي حررَهُ مؤمنٌ مسؤول عايشَ الرسلَ في نهاية القرن الأول الميلادي، ويُبَّلغُ ما تعَلَّمه منهم. كتبه بين سنة 90 و 130م. إنه وصايا وتعليمات. وتختَّصُ الوصيةُ التاسعة بالأوخارستيا، كسر الخبز. وفي الفقرة 5 منها جاء ما يلي :” إنتبهوا ألا يأكلَ أحدٌ ولا يشربَ من قربانكم إلا من كان قد إعتمد بآسم الرب. لأنه هذا هو ما قاله الرب ” لا تُعطوا للكلاب ما هو مُقَدَّس” . فالحذر يبدو هنا مقتصِرًا على الوثنيين بمنعهم من تناول القربان المقدس.

لم يتطَّرق الكاتب الى الجزء الثاني من الآية. وبما أن الوحيَ بعد المسيح يشملُ الأسفار الـ 27 { 4 أناجيل+ سفرالأعمال+ 14 رسالة لبولس+ 7 رسائل عامة+ سفر الرؤيا } فقط ، وبما أنَّ الربَ أكَّدَ أنَّ الروحَ القدس سوف يُرشدُ الكنيسة، عبر الأجيال، الى الحَّقِ كله (يو 16: 13)، فبابُ الأجتهادِ في التفسير يبقى مفتوحًا. وعليه يرى دارسو الكتابِ المقدس بعد خبرةِ عيشِه آلافَ السنين أنَّ المُقَدَّسَ في المسيحية لا يقتصرُ على القربان المقدس، لاسيما و يستمرُ الحديثُ عن دُرَرٍ ودَوسِها وتمزيقِ أصحابها. ثمَّ إنَّ جميعَ أسرار الكنيسة مقدَّسة. و كلُّ الحقائق الألهية مقدَّسة. ورأوا عند بولس ما يساعد على توسيع قاعدة الحذر.

قال بولس للكورنثيين:” أُكلمكم مثل أناس جسديين هُم أطفالٌ بعدُ في المسيح. فغَذَّوتُكم باللبن الحليب لا بالطعام، لأنكم لا تُطيقونه. أنتم جسديون بعد ” (1كور3: 1-3). و للعبرانيين يكتب :” إنكم بحاجة الى تعَّلمِ المبادئ الأولية لأقوالِ الله. أنتم بحاجة الى لبن لا الى طعام قوِّي… الطعام القوي هو للكاملين الذين تدَّربت حواسُهم بالممارسةِ على التمييز بين الخير والشّر” (عب5: 12-24). وعَلَّق العلامة الخوري بولس الفغالي على النص الأول : ” يرى بولس أن سبب الخلافات داخل الجماعة هو نقصٌ في النضج. توقَّفَ إيمانُ الكورنثيين عند شخص المُبَّشر وما بلغوا الى يسوعَ وتعليمِه “. وعلَّق على النص الثاني:” الطعامُ القوي هو التعليمُ الناضج . والكاملون هم الناضجون في الأيمان. فقد نموا في الحياة الروحية وصاروا أصحابَ حُكْمٍ صائبٍ وتمييز بين الخير والشر”(العهد الجديد، قراءة رعائية). يستنتج علماء الكتاب المقدس أن الرب يسوع حذَّر من إعطاء الحقائق الأيمانية كلَّها دفعةً واحدة منذ البداية. قد لا يستوعبُها المؤمن السامع لها على حقيقتها. وإذا لم يستوعبها جيّدًا يمكن أن يُشَّوهَ تعليمَ الرب بل وينقلبَ على الكنيسة وعلى المسيح، وعندئذ يؤذي ويُسيء. و عليه علق الفغالي على متى7: 6 قائلاً:” وُصِمَ الوثني بالكلب لأنه ليس من شعب الله ولا يعرفُ الأشياءَ المُقدَّسة في شعب الله. والـ ” مُقَدَّس” يعني أولا التقادم المقدسة. وعلى المستوى المسيحي إشتراك الوثني في عشاء الرب… والمقصود النهائي ألا يُعطى التعليمُ قبل الأوان.. لهذا ما كان آباءُ الكنيسة يُسَّلمون الموعوظين أسرارَ الكنيسة دفعةً واحدة ” (المصدر أعلاه نفسُه).

القس بـول ربــان