الكتاب المقَدَّس : بين الواقعـية والرمـزية !

أهلا وسهلا بالأخ نهاد شامايا

سمع الأخ نهاد عن تفسيرٍ لقول يسوع :” أوليكم سلطانًا تدوسون به الحيَّات والعقارب، وكُلَّ قُوَّةٍ للعدو، ولن يضُّرَكم شيءٌ” (لو10: 19)، أنَّ” الحيات والعقارب” رمزٌ فقط للشر الذي يُحاربُ تلاميذ المسيح. فتساءَلَ :” كيف نستطيعُ التمييز بين الرمزية والحقيقة التأريخية في الكتاب المقَدَّس؟. إذا كانت الحَّيات تعني قِوَى الشر فقد يعني { خبرُ} إحياء لعازرمن الموت “إنقاذُه من حياة الخطيئة إلى حياة القداسة!. وهكذا بالنسبة لكل الأحداث المذكورة في الكتاب المقدَّس “؟.

الحيات والعقارب !

جاء يسوع وكمَّل كلَّ النبوءات (متى26: 54)، كما أعلن ذلك على الصليب:” ليتم الكتاب”، ثم أضاف: ” تمَّ كلُّ شيء” (يو19: 29-30). ويسوع ذكَرَّ بحادثة الحيات النارية التي لدغت بني إسرائيل وشفوا منها بالنظر الى حية موسى النحاسية (عدد21: 4-9) وقال بأنه يجب أن يُرفع مثلها على الصليب ليشفي البشر(يو3: 14). كان الحدث على يد موسى واقعًا وفي نفس الوقت رمزًا للخلاص على يد يسوع من شر الخطيئة. ونتذكَّرُ أن ابليس عدو الأنسان تنَكَّر بجلد الحية فأغوى الأنسان وأساءَ إليه (تك3: 1-5). وكذلك ذكر يسوع بأن إيَّ أب، إذا طلب منه إبنُه سمكًا أو بيضًا ليأكل ويعيش (لو11: 12)، لن يُعطيه ” حَيَّةً أو عقربًا ” يُسَّممُه فيموت. فالحية والعقرب يلدغان فيقتلان. فأصبحا رمزًا للسوء والشر. و نعتَ يوحنا المعمدان الأشرار التائبين بـ” أولاد الأفاعي” (متى3: 7-8). وشبَّهَ سفرُ الرؤيا عذاب الهالكين بـ” لدغات العقارب”. وتمرُّدُ بني إسرائيل وقساوتهم قادتهم الى أرض سيئَّة و”مخيفة حيثُ الحيات الهرمة المُسّنة والعقارب ” (تث8: 15). وقد ذكَّر بها حزقيالُ النبي في السبي ونعتَ أَذيتهم بلدغات ” القُرَّاص والشوك والعقارب” (حز2: 3-6).كما هدَّدَ رحبعام قبائل إسرائيل بالإساءة إليهم قائلا:” أبي حمَّلكم نيرًا ثقيلا، أنا أُزيد على نيركم. أبي أدَّبكم بالسياط، وأنا بالعقارب ” (2أخ10: 11)، أي يُوَّجِعُهم أكثر. فالحيات والعقارب، وإن كانت زواحف حَيَّة في الواقع، إلا إنها تشتهرُ بسَّمها القاتل. وسمها أصبح بالتالي رمزًا للخطيئة والشر، ثمَّ قوَّة للإساءة. والحَيَّة حاذقة لتشخيص الخطر المحدق بها والتخَّلص منه، وهي حكيمة في آختيار لحظة الهجوم فتقوى على فريستها. وقد طلب يسوع من تلاميذه أن يكونوا حاذقين و فطنين مثلها، إنما لا للإساءة بل للحماية وتجنب الشر، فقال:” و ودعاء كالحمام ” (متى10: 16).

أُوليكم سُلطانًا تدوسون الحيات والعقارب !

ليست الحيات والعقارب سيِّئة في ذاتِها؛ فقد ” رأى الله أنَّ كلَّ ما صنعه حَسَنٌ جِدًّا” (تك1: 31). ولم يخلقها ليُعاقبَ بها البشر، بل جعلها كلَّها تحتَ سلطانه ولمنفعته (تك1: 28). إنَّ سمَّ الحَّيات والعقارب دواءٌ يقتل، داخل الأنسان، جراثيم مُسيئة فيُنقذُ حياتَه. السيَّيءُ هو سوء إستعماله. الحيَّة والعقرب يدافعان عن نفسيهما لإبعاد خطر يحدقُ بهما. أمَّا إذا عرفَ الأنسان كيف يتعاملُ معهما فآطمَئَّنا إليه، وتوَّخى الأنسان عدم الإساءة إليها فقد لا يتأَذّى منهما. هي لا عقلَ لها بل إحساس تتصرف بموجبه. كم طفلٍ شاركته حيَّة في أكل اللبن من نفس الماعون ولم تؤذيه ؟!.

وعليه لا يعقُلُ أن يُحَّذرنا المسيح منها، ولا خاصّةً أن يُقيمنا أعداءَ لها، وهي خليقته ، حتى ندوسَها ونُميتَها بدون سبب، كلَّما كانت مسالمة ونافعة. حتى لمَّا أساءَت الحية إلى الأنسان وجَرَّته الى التمَرُّدِ على الله لم يُفنِها الله بل عاقبها على سوءِ فعلتِها. وأقوى عقاب كان أن سَلَّط اللهُ عليها الأنسان، وبواسطتها سحقَ كبرياء سيَّد العالم على يد ” إبن الأنسان” يسوع الذي أطاع الله وآستعاد كرامة الأنسان وأضاف على مجده الأول، وهو سيد الخليقة، مجدًا أعظم إذ أصبح سُلطان الكون كلهِ أرضًا وسماءًا ولا يقوى ابليس بعد أن يخدع الأنسان ( يو 14: 30؛ 16: 11).

ليس للخلائق كلها، ما عدا الأنسان، عقلٌ وحُرَّية وعلمٌ حتى يُحاسبَها الله. إنها تتصَّرفُ بغريزتها التي زوَّدَها بها الله ولن تتغَّير ولن تزول إلى ما وُجدت حياة الكون الزمني. الله يُحاسبُ الذي يدفعُها الى الإساءة الى البشر، الذي يُحَّولُ طاقتها من الخير الى الشر. ابليس هو الذي أغوى البشر ودفعهم الى سوء التعامل مع الطبيعة وخلائقها، فشَوَّه العلاقة بينهما. هو الذي يستغِّلُ مواهب الله الخَّيرة له فيُحَّوِلها الى عمل الشر. فعدوُّ الأنسان هو ابليس لا البهائم، وضدَّه سَلَّحَه الله لا ضِدَّها. وإذ يستغلُّ البهائم لزرع الفساد وإبعاد الأنسان عن الله، يُحَّذرنا الرب من ألاعيب الشيطان. وبما أنَّه يستغلُّ سمَّ الحيات والعقارب للإساة الى البشر أعطى الرب لتلاميذه قوَّة السيطرة على كل الكائنات، لإِفشال مخططات ابليس. ولهذا كمَّلَ الرب عبارته :” وكلَّ قُوَّةٍ للعدو”. أي إنَّ ابليس يحاول أن يستغل كلَّ قوةٍ وطاقةٍ ونظامٍ للإساءة الى الناس، حتى الكوارث الطبيعية. أما إستعمل الطوفان لإبادة البشرية؟. نحن نرى دومًا الوجه الأسود و المحزن في الكتاب المقدس. الكاتب اليهودي فسَّر الطوفان بعقوبة الهية ضد الشر. طبعًا الله القدوسُ والحَّق لا يتحملُ شر الأنسان وفساده، لاسيما وقد خلقه صورةً جزءًا منه بارًّا و قديسًا فشوَّه طبيعته بالإصغاء الى ابليس وإهمال وصية الله. سمح الله لأبليس أن يهلك الناس الخطأة، كما في سدوم وعمورة، ولكننا لا ننسى أنَّ الله لم يسمح له بإبادة الأبرار نوح ولوط وعوائلهما (تك7: 1؛ 19: 12-16). ومار بطرس يقول بأن فلك الطوفان رمزالمعمودية إذ بالماء أنقذ الله نوحًا البار وعائلته كما نخلص نحن من خلال مياه المعمودية (1بط3: 20-21). حقائق تأريخية تحملُ في طياتها تعليمًا ترمز اليه بين السطور.

أحداثٌ و تعاليم !

أيُّهما رمز وأيُّهما واقع تأريخي ؟. يمكن أن يكون لكل حدثٍ تعليمٌ أو رمزٌ، ولكن ليس لكل تعليمٍ حدثٌ ينتُج عنه. الحدث يدُّلُ على نفسِه أنَّه مرتبطٌ بواقع لا يمكن إستنباطه. الحدّث يُؤَّيدُه الإطار الزمني والظروف المحيطة به، والتي يمكن التحَّققُ منها، وضبط تفاصيلها لأنها من عالم الحواس. أما التعليم فهو يعود الى الفكر والروح. ويحتاجُ لقبوله الى الأيمان أكثر مما الى الحواس. وللأرتفاع الى مستوى الوجود الإلهي الروحي يحتاجُ المؤمن الى الخروج عن الذات الحسية. لم يفهم نيقوديمس كلام المسيح عن الولادة الجديدة الروحية لأنه ظلَّ يراوحُ في عالم الجسد المادي. لم يرتفع الى مستوى فكر الله فلم يفهم رمز الخلاص في المعمودية ، كيف يولد الأنسان من الماء والروح.

ذكر السائل الكريم خبر إحياء لعازر. لعازر وأختاه، مرتا ومريم، أصدقاء أعّزاء ليسوع،” الذي تُحِّبُه مريض” . طلبوا منه أن يشفيَه. يسوع يعلن موته ” لعازر مات”. الرسل متشائمون. بيت عنيا تبعد عن أورشليم” 15غلوة “. ناسٌ يُعَّزون. مرتا تعترض على فتح القبر” لقد أنتن”. ناسٌ آمنت به. القادة اليهود يقررون التخَّلص من يسوع. يقررون قتل لعازر ايضًا إذ بسببه تؤمن الجموع بيسوع أنه المسيح الموعود. فهل كل هذه التفاصيل رمزٌ لآنقاذ لعازر من حياة الخطيئة؟. أية خطيئة؟. لعازر من تلاميذ يسوع القديسين!. أما الخطيئة الأصلية فدفع يسوع ثمنها بجسده على الصليب. وفعلها مرَّةً واحدة بدلَ البشرية جمعاء، من سبقوا المسيح بألاف الأجيال ومن سيتبعونه بملايين السنين. فلم يحتاج لعازر الى أنقاذ خاص به. ولكن بجانب واقعهِ التأريخي الذي من أجله وأجل بقية أحداث الأنجيل أُضطُهِد الرسل فسُجنوا وعُذِّبوا وتحملوا فرحين لأنهم أطاعوا الله وشهدوا للحق ( أع4: 19-20؛ 5: 41-42) وليس لخيال أو لرمز، فبجانب الواقع يوحي إحياء لعازر بقيامتنا نحن الذين نؤمن مثل مرتا بأن يسوع هو المسيح المُخَّلص، ابن الله الحي، القيامة والحياة (يو11: 25-27).

أما الرمز فهو تعليمٌ يلقيه يسوع بشكل مُبَّطن: ظاهره قصَّة أو مثل وباطنه رمزٌ وتعليم.مثل قصة لعازر والغني (لو16) والآبن الضال (لو15) ومثل الزرع والزؤان (متى13) و العذارى(متى25) وأمثال ” يشبه ملكوت السماوات ..”، وغيرها كثيرة. نقرأ في الأنجيل عن 38 مثل وتعليم مُلقًى على شكل قصَّة أو خبر. ولكن هناك أيضًا أحداث واقعية : مثل ميلاد المسيح وتبشيره وتجواله بين المدن المحددة بأسمائها، وحوالي 37 بين معجزة وطرد شياطين وأشفية وإحياء موتى وأخبار أخرى عن تفاعل الرسل مع الأحداث التي تُحَّدد زمن و قوعها بالمكان واليوم وحتى الساعة أحيانًا. هذه تبقى حقائق من أجلها إستشهد الرسل، و تحملُ بذاتها تعليمًا يمكن أن نختصَرَه بأنه هكذا يقتدي التلميذ بمعلمه يسوع ويؤَّدي شهادته عنه قولاً و فعلاً.

حتى نعرف أن نُمَّيز بين الواقع والرمز نُمَّعن النظر في محتوى ما نقرأ أو نسمع. مثلاً خبر التينة غير المثمرة (لو13-6-9) : ترى هل جاء المسيح ليقرأ لنا قصَصًا من التأريخ الغابر أم حتى يُعَّلمنا كيف نحيا كأولاد الله؟. وما شأنه والتينة غيرالمثمرة وأمثالها من الأشجار العقيمة كثيرة وكذلك المُشَّوكة المؤذية “؟. يريد الرب أن يُعَّلمنا أن الله لم يزرعنا في الزمن حتى نأكل ونشرب وننام، بل ” أخذ الربُ الأله آدم وأسكنه في جَنَّةِ عدن ليفلَحها ويحرسَها ، وأعطاه مُعينًا بإخراج حواءَ منه (تك2: 15-23). فعلى الأنسان أن يصنعَ ويخلقَ فيُكَّملَ عملَ الله وأن يعيش في صداقته فيحيا في قداسةِ الحَّق وبرارة المحبة. هذا هو الثمر المَرجُوُّ منه، والمسيح أعطانًا مثالا بحياته ، أقواله وأفعاله. ومن لا يُنتجُ هذا الثمر لن يأملَ في راحةِ حياة مجيدة وسعيدة للأبد في فردوس الله. فالتينة إذن ليست واقعًا حرفيًا بقدر ما هي رمز الأنسان الذي لا يسمع وصية الله وإذا لم يُصلح أمرَه فسينبُذه الله من خيره الأبدي. من هذا القبيل الحَّيات والعقارب رمزٌ إلى قوى الشَّر، الناس الأشرارالذين يرفضُون الله و يلدغون غيرَهم فينفثون في عقولهم ونفوسهم سمَّ الضلال والفساد. على الأنسان أن يدوسَ بقوة الله على مصادر الشَّر كما فعل يسوع وذلك بسماع كلام الله وطاعته. ولهذا تمَجَّدَ يسوع فقال عنه المزمور: ” لأنَّكَ قلتَ الربُ حِمايَ ، وجعلتَ العَّليَ مُعينَك.. يوصي ملائكته بك… تطأُ الصِلَّ والأفعى وتدوسُ الشبلَ والتنين. ويقولُ الله : أُنَّجيه لأنه تعَّلقَ بي. أرفعُه لأنَّه عرفَ إسمي. يدعوني فأستجيبُ له. ومعه أنا في الضيق، أُخَّلِصُه وأُمَجِّدُهُ ” (مز91: 9-15). وهذا السلطان والمجد الذي ناله المسيح يسوع يُشركُ به كلَّ من يتتلمذُ له ويقتدي به فـيُقاومُ قوى الشَّر.

القس بـول ربــان