كيف نُفَّسِر خر33: 11 و 20؟

سبق ونشرتُ المقال سنة 2008 في موقع أخوية بولس الرسول وأُعيده للفائدة }

سألَ قاريءٌ :” نقرأُ في سفر الخروج 33: 11 أنَّ اللهَ يُكَّلمُ موسى وجهًا لوجهٍ. في حين نقرأُ في نفس الفصل الآية 20-23 أنَّه لا يستطيعُ إنسانٌ أن يرَ وجهَ الله ويحيا. كيف نفَّسرُ هذا المقطع” ؟؟.

نقلُ الوحي الألهي !

إنَّ الكتابَ المُقَدَّس نقْلُ ” وحيِ الله” إلى الأنسان. ليسَ روايةً تنقُلُ تفاصيلَ أحداثٍ، بلُغةٍ علمية. هذا أولا. ثانيًا يتوَجَّهُ الكتاب الى ” بشر” يستعملون ” أداةً ” حِسِّية للتفاهم بينهم. يتَّصل الناسُ ببعضِهم بواسطة الحواس. ثالثًا  تكَّونت عند الناس لُغَةٌ، بل لغات، أي كلمات ومصطلحات تُعَّبر عن أشياءَ وأُمور محُدَّدة يفهمها المقابل الذي يسمع منه، أو القاريء لهُ. هكذا نقلَ إلينا كاتبو الأسفار المقَدَّسة ما أوحاه الله إليهم وآستعملوا تعابيرَ حوَوها أفكارًا و حقائق يفهمُها القاريء، ويكتشفُها أكثر مما يقرأُها في المسطور أمامه. فعليه عندما نقرَاُ الكتاب يجب أن نحاول فهمَه بتقريب النصوص المختلفة الى بعضِها. وذلك في الفصل الواحد، أو السفر الواحد، ولاسيما في نفس الكتاب الواحد. لا تتضاددُ الآيات بين نفسِها ولا تنسخُ آيةٌ غيرَها. بل يتكاملُ كلُّ شيء مع بعضِه. وقد أتَمَّ يسوع الوحيَ بكشفِه لنا ذاتَ اللهِ ( من رآني رأى الآب )، وكلامَه (لا أتكَلَّمُ من عندي بل ما رأيتُه عند الآب أتكلمُ به) ومشيئَتِه (ها أنا آتٍ لأعمل بمَشيئتِك). فعرفنا الله في ذاته وعمله ومشيئته.

قال يسوع :” اللهُ لم يرَه أحدٌ قط. الإلَهُ الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يو 1: 18). الله روحٌ لا حواس فيه، وفي مجد لا يطاله الأنسان المادّي بحواسه. لذا قال الله لموسى ” أما وجهي فلا تستطيعُ أن تراه، لأنَّه لا يراني ويعيش” (آية 20). لقد رفضه في الفردوس وخسر رؤيته فمات عمَّا هو إلهي. فالمَيِّت لا يرى ولا يسمع ولا ينطق. هذا نقلٌ لكلام الله. أمَّا الآية 11″ يكلم الربُ موسى وجهًا لوجه، كما يكلِّمُ المرءُ صديقَه “، أو” وجهًا لوجهٍ كلمَكم الرب في الجبل.. وأنا قائمٌ بين الله وبينكم أبَّلِغُكم كلامه ” (تث5: 4)، فهو قول لموسى كاتب سفر الخروج وشرحٌ في كيفية حدوثِه. ربما نشعر بوجود تعارضٍ حرفي بين الآيتين. لكن عندما نتمعَّن في النص فهما يتكاملان. وقد ذكر موسى في نصوص أخرى عدم إمكانية رؤية الله حسِّيًا فنَبَّه الشعب ألا يتهافت ويتدافع لرؤية الله لئلا يموتوا (خر19: 21-24؛ أح 16: 2؛ عدد4: 20). بل خاف الشعبُ حتى من سماع الله :” كَلِّمنا أنتَ فنسمع ، ولا يكلمنا الله لئلا نموت” (خر20: 19). خاف الشعب من مهابة الله وقداستِه.

فالحديث عن أنَّ الله يرى موسى ويُحَّدِثُه ” وجهًا لوجه”. يُكَّلمه بدون وساطة مثل الشعب. هو يقدر لأنَّه الله الذي أنقذهم بيدٍ قديرة. أما موسى فلا يرى الله بل يسمعه فقط. سبق لموسى وآختبر حضورالله والحوار معه. رأى موسى”عليقةً تضطرمُ بالنار لكنها لا تحترق. ناداه الله من وسط العليقة. ستر موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر الله” (خر3: 2-14) لكنه إطمأنَّ لما عرفَ أنَّه الله، إله أجداده ابرهيم و..و.. فوجهًا لوجه تعني” مباشرةً” دون وسيط وبصراحة دون إنحراج. لذا أضاف النص” كما يكلم المرءُ صديقَه”. أي عن محبة بأسلوبِ الصداقة والثقة والدّالة والتفاهم. فموسى المنبوذُ من الفرعون والمطلوب قتُله يُبَّررُه الله و يُعلنُ رضاهُ عنه لآهتمامه بكرامةِ شعبِه وراحته، ويكلفه بمهمة قيادة إنقاذه. فمنبوذُ الناس والمُحتقَرُ هو في كثير من الأحيان مُقَدَّرٌ عند الله بسبب بِرِّه، مثل يوسف الصدّيق وموسى وايليا والرسل الأُمّيين (أع4: 13). ويقولُ مار أفرام عن” وجهًا لوجه “: “كلم الله موسى مواجهةً لا بوحيٍ يوحيه الى عقله داخِلَه ولا بمنام (حلم – رؤيا)، بل كان يسمع الصوت يأتيه من خارجه. وهذا الكلام إشارةٌ الى تجَسُّدِهِ وخِطابه الناس مواجهةً. و هكذا كلَّم تلاميذه مواجهة مدَّة مقامه معهم”. ويتابع الشرح للآية 20 فيقول :” قال له أنا أُظهر لك كذلك و أجعل مجدَ لاهوتي وكرامتي تظهرُ في جسدي (تجَّلي). أما لاهوتي فلا يطيقُ بشرٌ النظر اليه لأنَّه، إذا نظر اليه فلا يعيش، لكونه لا يطيق ذلك” (تفسير الخروج).

 

سبيلان لرؤية الله !

لم يرَ إذن موسى وجه الله. وسوف لن يراه أيضًا إيليا النبي. لم يعرفا الله على حقيقته رغم شوقهما المُضطرم والمُعلن (خر33: 18). حتى طلب إيليا الموت لأجل أن يرى مجد الله (1مل19: 10 و 14). و” كثيرٌ من الأنبياء والأبرارتمَّنوا أي يروا ما أنتم ترون ولم يروا  ” (متى13: 17). سوف يرى موسى وايليا وجه الله في ناسوته بعد موتهما عند تجَّلي يسوع للتلاميذ (متى17: 3). لن ير أحدٌ مجدَ الله إِلّا بأحد السبيلين: إما بالموت عندما يتحرَّر من سجن الجسد و يتمتع بالحياة الروحية الألهية ويتطهر من دنس الخطيئة الأصلية، التي ترفضها قداسة الله، فيرتفع الى الحياة مع الله، وهذا ماحدث لأبرار العهد القديم بعد موت المسيح وقيامته (متى 27: 52-53؛ 1بط3: 19-20)؛  وإمَّا بتنازل الله ومشاركته حياة الأنسان برؤيا أو بتجَسُّد. برؤيا مثل موسى عندما رآه مع ” هارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل، فرأوا إِلَه بني إسرائيل وتحت قدميه شِبهُ رصيفٍ من الياقوت الأزرق… ولكنَّه لمْ يمُّدَ يدَه عليهم لأنَّهم رأوه. ثم أكلوا وشربوا معًا ” (خر24: 9-11). لقد تتطور شكلُ حضورالله. بدأ  بشكل رعود وبروق وغمام كثيف وجبل مُدَّخن (خر20: 16-18)، ثمَّ بشكل عامود الغمام وعامود النار (خر21: 13-22). ليست هذه الأشكال وجهًا حقيقيًا لله. هذه أعماله يُشعرُ بها حضورَه بصوته. لكن إبراهيم سبق ورآه وفرح (يو8: 56-58) عندما أتاهُ بشكل إنسان فأكلَ معه وتحّدَّثَ إليه ” وجهًا لوجهٍ ” كما يكلم الرجل صاحبَه (تك18: 1-5 و16-32)، و هو إشارة الى التجسد في مقاسمة حياة الأنسان.

أوبتجَسُّد. وهنا قمة حضور الله. قال عنه يوحنا :” الكلمة صار بشَرًا وعاشَ بيننا، فرأينا مجدَه، مجدًا يفيضُ بالنعمة والحَّق” (يو1: 14). لا فقط رأوه بل بشَّروا به :” الذي كان من البدء، الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأمَّلناهُ ولمسَتْه أيدينا من كلمة الحياة. فالحياةُ تجَلَّتْ فرأيناها والآن نشهدُ لها ونُبَّشرُكم بالحياة الأبدية ” (1يو1: 1-2). رآه سمعان الشيخ طفلاً فآحتضَنه (لو2: 25-28). ورآه التلاميذ شابًّا فتتلمذوا له وعاشوا معه كما يعيش المرءُ مع صاحبِه (يو1: 35-51)، وآمنوا أنَّهم رأوا الله وعاشوا معه :” ربِّي وإلَهي ” (يو20: 28).

لهذا لم يترَدَّدْ المؤمنون الفنّانون أن يرسموا وينحتوا لله الذي رأوه وأكلوا معه، كما قال القديس يوحنا الدمشقي، حيث كان في العهد القديم ممنوعًا لأنْ لا أحدًا رأى وجهًا لله. قال  موسى :” لا تصنع تمثالاً لله.. لا شيءَ يُشبِه الله أو يعكُسُ صورَته … لما خاطبكم في حوريب لم تروا له صورةً ” (تث4: 15-16). أمَّا من آمن بالمسيح فقد رأى فيه الله ذاته كما صَرَّح بنفسِه ” أنا والآب واحد ” (يو10: 30) و”من رآني رأى الآب ” (يو14: 9).