عـيـد الصليب المقـدس !

عيدُ الصليب ثابتٌ في 14/ أيلول. ويُسَّببُ تغييرًا على تسلسل ترتيب الآحاد ، بسبب تقدُّم القيامة أو تأَخُّرِها. أحسنُ التوقيت أن تقعَ القيامة في الأسبوع الأول من نيسان ، بين 31 آذار الى 6 نيسان. عندئذٍ يأتي تسلسل الآحاد حسب التخطيط الطقسي، وعندئذٍ يقع عيد الصليب في محَّله ، بعد الأحد الثالث لأيليا، ويعقبُ العيد الأحدُ الأول للصليب/الرابع لأيليا. و إذا وقعت القيامة 30/ 3 فيقع عيد الصليب يوم الأحد الرابع لأيليا. فيكون ذلك الأحد عيدًا، وتتلى صلاته، وصلاة الأحد الرابع لأيليا يطلب الطقس أن تُدمج مع صلاة الثالث لأيليا (ح2 : ص 293). ويُعتبَر الأسبوع الذي يليه الأسبوع الأولَ للصليب والرابع لأيليا. المجمع البطريركي لسنة 1967م حذف مبدأ دمج الصلوات. فربما يكون الأفضل والأسهل إعتبار ذلك الأحد نفسه الأولَ للصليب مع أسبوعه ولأجله. إذا وقعت القيامة قبل 30/ 3 فيسبقُ عيدَ الصليب أربعةُ آحاد. وعندئذٍ يُقَّدم الأحد السادس لأيليا ويُصَّلى قبل العيد. أمَّا إذا وقعت القيامة بعد 6/ 4 نيسان فتتلى من سابوع إيليا عدد الآحاد المتوفرة قبل العيد وتُؤَّجل البقية منها إلى بعد العيد. مع العلم يجب تلاوة صلاة الأحد الأول للصليب دوما مباشرةً بعد العيد وتليه الآحاد المُؤَّجلة. وتغَيُّرُ القيامة هذا يُؤَّثِرُعلى سابوع الدنح، فتُحذف منه آحاد حسب تقَدُّم القيامة، أويُضاف إليه أحدٌ ثامن، عندما تقع القيامة بعد 20 /4 نيسان ، كما حدث هذه السنة. وعندما تقُّلُ آحاد الدنح تظهرُ بعد سابوع الصليب / إيليا آحاد تُدعى لـ” موسى”، بجانب دمج الأحدين الأخيرين من سابوع الصيف.

تتلى علينا اليوم القراءات : اش52: 13-53: 12 ؛ 1كور1: 18-31 ؛ لو24: 13-35

الرسالة : 1 كورنثية 1 : 18 – 31

يبدأ بولس كلامه أنه رسولٌ لا ليُعَّمد ، مع أنَّه عمَّد بعضًا من المهتدين (1كور1: 14-16)، بل مُهِمَّتُه إعلانُ البُشرى السَّارة، وهذا هو معنى كلمة ” الأنجيل”. كان الرسل منصرفين إلى “التعليم والوعظ والصلاة ” (أع6: 3). أما العماد فكانت مهمة معاونيهم إلا في حالاتٍ خاصَّة . دعا المسيحُ بولس ليُعلن بشرى الخلاص لكل الناس، ولاسيما الوثنيين (أع9: 15). يعترفُ بولس بذلك ويفتخرأنه يؤَّدي الشهادة للمسيح التي أُقيمَ لها ” داعيًا ورسولاً ومعَّلمًا للوثنيين في الأيمان والحق” (1طيم2: 7؛ 2طيم1: 11). همُّهُ الأول إبلاغ الناس ما عمله يسوع المسيح وما علَّمه كونه هو” الوسيط الوحيد بين الله والناس في خلاصهم “. أما صيغة الكلام لأيصال المحتوى فلا يهتم به كثيرًا. لا يريدُ أن يهتَّم بالتعابير اللغوية، أي بفَّن الخطابة وسحر البيان ، ليُعجبَ السامعين، كما يفعل الخُطباءُ عادةً. لا يريد أن ينشغلَ سامعوه بحسن الكلام وتنميقِه ، بل أن يعوا محتوى البشارة ويهضموها فتُثمرَ فيهم.

كلمة الصليب عند الهالكين عثرة وحماقة !

الصليبُ آلةُ الإهانة والذُّل والتعذيب. كان يُعَّلقُ عليه المجرمون الخطيرون، منهم هامان الذي خطط لإبادة شعب الله فعُّلق هو وأولاده العشرة على الخشبة (اس8: 7؛ 9: 13). وتشديدً ا على إهانةِ يسوع المسيح ومضاعفةِ آلامِه إختار اليهود أقسى عذابٍ وصفوه ليسوع صارخين في وجه بيلاطس ” أُصلُبْه ! أُصْلُبه “. وتمَّ ذلك. ويُرِّكِزُ الرسل في شهادتهم وكِرازاتهم على أنَّ يسوع هو” المسيح الرَّب”، وأنَّ اليهود صلبوا ربَّ المجد. ويُضيفُ بولس قائلا: ” أنا لم أُشَأ أن أعرفَ شيئًا غير يسوع المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المصلوبَ” (1كور2: 2-8).

صار الحديثُ عن” الصليب، آلةِ صلبِ المسيح الإله” يُثيرُ جدَلا عنيفًا بين الرسل والغرباء من اليهود والوثنيين معًا. إلهٌ يُهان ؟ إلهٌ يُعَّذب ولا يقدر أن يقاوم أعداءَه؟ لا يقوى على إنقاذِ نفسِه، فكيف فكَّر أو يقدر أن يحميِ أتباعه؟. إلهٌ يُصلب مثل مجرمٍ؟. وإذا كان مجرمًا فكيف يمكن الأيمان به إلَهًا وتصديقُ أقواله؟. لا يقبل به إنسانٌ مُثَقَّفُ له منطقٌ سليم. لم يحدثْ شيءٌ مثلُ هذا، ولم يُسمع بمثلِه من قبلُ! هذا أمرٌ يرفًضُه العقل، ومنطقٌ لا تقبل به الحكمة البشرية. إنَّه أمرٌ أسخفُ من أن يُقبلَ به. صاروا يشُّكون في هوية المصلوب! يشكون في صُدقِ ما ينادي به الرسل. حديثهم عن الصلب أقربُ إلى أسطورةٍ خيالية منه إلى واقعٍ يفقَأُ العين. ومن السذاجةِ بل الحماقة تصديقُ روايتهم. لن يُصَّدقَ ما يروونه إلا الناسُ الجهلاء والبسطاء الذين لا حكمة لهم ولا منطق، وقد وصفهم الفريسيون بـ ” الرعاع الذين يجهلون الشريعة ، فإنهم ملعونون” (يو7: 49).

رفض الوثنيون سماع بولس عندما حدَّثهم عن قيامة المسيح بعد صلبه وموته، فآزدروه و آستهزأُوا به قائلين :” سنسمع كلامك في هذا الشأن مرَّةً أخرى” (أع 17: 32). بل إعتبره القائد الروماني فسطس مجنونًا يهذي لحديثه عن آلام المسيح وقيامته ، وصاح به: ” جُننتَ يا بولس !. فإنَّ تبَّحرَك في العلم أفقدك العقل” (أع26: 24). هكذا بينما بحثَ الوثنيون عن الحكمة طلبَ اليهود آياتٍ ليُصَّدقوا الرسل. ليس الأمرُ غريبًا. فإنَّ آباءَهم عاينوا عشرات المعجزات (يو11: 47) لكنهم آستمَروا يُطالبون بآخرى،” أيَّة آيةٍ ترينا لتفعلَ هذا؟ (متى12: 38؛ يو2: 18؛ 6: 30). حتى عند الصلب إستفَزّوه بغطرسة ونشوة إنتصار وبلهجة إحتقار” إن كنت ابنَ الله فخَّلص نفسك وآنزِل عن الصليب .. خلَّصَ غيره ولا يقدر أن يخَّلصَ نفسَه. لينزل الآن عن الصليب لنؤمن به ” (متى27: 40-42).

أين الحكيم ؟ أين الأديبُ ؟

إعتبر اليهود تحالفهم مع مصر حكمة وعقلاً وخلاصًا، لكنهم خسروا مصر وبابل والوطن و ساروا مهانين مذلولين على دروب المنفى، ولم يُصغوا إلى نبوءة اشعيا ،” هذا الشعب تبيدُ حكمة حكمائه وينكسفُ عقلُ عُقَلائِه ” (اش29: 14). ويُعَّلق مُفَّسرٌ للكتاب :” ندَّدَ الرب بسياسة الحُكماء ( ضد الأيمان بالله )، في أرض يهوذا حين طلبوا معاهدة مع مصر في وجه التهديد الآشوري ( ويلحقه الكلداني ). مثل هذه الحكمة لم تخَّلص شعبَ الله”. ويعيد بولس الكرة ويلوم حكمة البشر، يهودًا كانوا أو وثنيين، ويقول بأنها لم تُحَّررالبشرية من قيود الشر. لم يقووا على تحقيق السلام والوئام بين الناس، ولم يستطيعوا أن يُصالحوا الله مع بني آدم. و المسيح الذي يعثرون بصلبه ويحتقرون ألة موتِه الكفّاري، هو حقق المصالحة ، كاسرًا قوة الشر بطاعته، وجامعًا القلوب مع بعضها بالمحبة العظيمة التي أبداها لمَّا حمل خطايا البشر وقبل لعنة الصلب ودفع الفدية بذبيحة الطاعة. وهكذا فالصليب هو، بالنسبة للمؤمن المسيحي، قدرة الله. ما لم يقوَ عليه البشر بالعقل، حققه الله بالمحبة. وما لم يقووا عليه بالعنف والقوة حققه الله باللطف والطاعة.

جعل الله حكمة العالم جهالة !

فالصليب، وهو رمز الطاعة والمحبة الكاملة والقدرة القُصوى، هو الحكمة الصادقة والنافعة. والدليل على ذلك أنَّ حكماء الناس لم يعرفوا الله على حقيقته، حتى ولا الذين آمنوا به. أكَّد يسوع أنَّ شعبَ الله لم يعرف الله ولا المسيح المخلص الذي إنتظره منذ آلاف السنين (يو8: 19 و55)، ولا الأقوياء والعظماء إستطاعوا أن ينالوا، بجبروت سلاحهم وقساوة حروبهم الوحشية، غفران خطيئة الأنسان. فأين حكمتهم وقوتهم التي يفتخرون بها؟. إنهم في حكمتهم وقوتهم صلبوا ” الأنسان البار” وأطلقوا سراح ” القاتل والسارق” (لو23: 18-19). أما الله فبدم هذا البار غفر للقاتل والسارق وأعطاه فرصة التوبة فلا يتعَّذب للأبد. لله حكمة تبني  علاقات صحيحة، وله شريعة تُقَّدسٌ المودَّة والإخاء، وله سياسةٌ تصُّف كلَّ الناس على نفس المستوى الواحد، وله القدرة على أن يجمع الناس الى بعضهم وإلى إلَههم، بعكس حكماء البشر وقادتهم الذين بددوا قطيع الله وتركوا الذئابَ تنهشُ به. وما فرَّقته الحكمة والقوة في بابل (تك11: 8-9) أعاده الله وجمَّعه بقوة روحه القدوس (أع2: 4-6) و” هدم بجسده الحاجز الذي يفصلُ بينهما ” (أف2: 14). هذه هي حكمة الله وقدرته أن يقيم الكبير فيهم والحكيم و القوي خادمًا للصغار والضعفاء والجهلاء، لا متسَّلطًا عليهم.

فما حسبه الإنسان، بعقله ومنطقه، ضُعفًا عند الله وجهلا بل حماقة يتعَّثرُ بها، كان هو قدرة وحكمة أخزى بها الأنسان. وهكذا ظهر ضعفُ الله وجهله أحكم وأقوى مما للأنسان. حكم الأنسان على الأشياء والأمور في ظاهرها وحسب طاقته هو على الأدراك وعلى الأمكانية. لم يعمل حسابَ أنَّه محدودٌ وقاصرٌغير كامل، رغم أنَّه إختبر فشله الذريع و جهله العميق في أغلب الأحيان، وقد مَرْمَرَحياته، ولم يذق أبدًا طعم راحةٍ و هناءٍ دائميين. بحيثُ حتى لمَّا نعِمَ قليلاً بالسعادة تبَّخرت سريعًا ولم تُخلِف ثمارًا طيّبة. منذ ألفي سنة تعاقبت الأمبراطوريات و تطور العلم وآشتَّدت القوة التدميرية لسلاح الأنسان فكرًا وصناعة ولم يطُل الحكم لأية فئة أو قيادة، ولم يحُّل سلاح العنف مشكلة بل ضاعفَها. أما الصليب فظلَّ مرتفعًا، يُنيرُ للناس درب السلام والمحبة، رغم عداء العالم وآضطهاده له. لأن ما يرمز إليه عملٌ إلهي أزلي أبديٌ. و صليبُ المحَّبةِ والقدرة هو القيمة الوحيدة التي تنعمُ بالخلود.

إختار الله هذا ليُغزيَ أعداءَه !

وفي الأخير يتوَّجه بولس بالحديث المباشر مع الكورنثيين ويُذَّكرُهم بأن يعتبروا أنفسهم في فحص ضمير نزيه ويلاحظوا عدد الحكماء منهم والأقوياء والوجهاء!، ويستنتجوا أنَّ الله قد ” إختار من لا شأن له ليُزيلَ ذوي الشأن المُزَّيف حتى لا يفتخر أحدٌ أمام الله”. إختار رسله من جماعة صيّادين جهلاء لا حول لهم ولا قوّة في الشأن الأجتماعي، فلا هم سادة ولا قادة ولا معَّلمون. حتى إستغربَ قادة اليهود جُرأتهم ونُطقهم قائلين :” من أين لهم هذه. إنّهم أُمّيون لا علم لهم. إنّهم فقط تلاميذ يسوع الناصري” (أع 4: 13). وحتى عن نفسِه يقول بولس بأنه لم يكن قدّيسًا بل” إضطهدتُ كنيسة الله .. قاومتُ هذا الطريق حتى الموت” (1كور15: 9؛ أع 22: 4). ويؤَّكد بأنه حضر بينهم وفيه ” ضعفٌ وخوفٌ ورعدةٌ شديدة “. ولم يتبَّنَ أيَّ صيغةٍ أو أسلوبٍ بشري محض للبشارة، لغويًا أو حِكَميًا إجتماعيًا، يفتخرُ بها الناس. عندما يعملُ الله لا تبقى قيمة لأساليب الناس. ولهذا يؤَّكَّد أنه لم يُحاول إقناعهم ” بالحكمة، بل إتَّكل على ظهور الروح والقوَّة. ذلك كيلا يستند إيمانهم إلى حكمة الناس، بل إلى قُدرةِ الله “. لذا لن يعرفَ هو نفسُه المسيح إلا مصلوبًا ويفتخر به لأنَّه ” حكمة الله وقدرتُه (1كور2: 1-5). ففي الصليب يجدُ المسيحي” حكمة وقوَّة وقداسةً وفداءًا “، وينعمُ بالراحة والهناء.