الأحد الأول للصليب/ الرابع لأيليا !

تتلى علينا اليوم القراءات : اش33: 13-16 ؛ في2: 5-11 ؛ متى4: 18-23

الرسالة : فيلبي 2 : 5 – 11

بولس سجينٌ في روما من أجل إيمانه ونشاطه. ينتظرُ حكمَ قيصر الذي إليه رفع دعواه ليتخَّلص من عِداءِ اليهود وظلمِهم (أع13: 50-52؛ 14: 2) وطمعِ الحكام وخبثِهم وتخاذلِهم في تحقيق العدالة (أع25: 11-12). يتابعُ من سجنه أخبارَ رعايا الكنائس التي أسَّسَها في تركيا أو اليونان، ويُشَّجعهم ليثبتوا في إيمانهم، بل ليُنَّموه في سلوكهم بتجسيد تعاليم المسيح. هكذا كتب لأهل فيلبي : ” تخَّلقوا بأخلاق المسيح “. ولا يعتقد أنه يتبطرن أويجازف في مطلبه. لقد سبق وأكَّد للغلاطيين أنهم لبسوا بالمعمودية المسيحَ نفسَه، كما أكَّد لهم أنَّ المسيحَ يحيا في المؤمن (غل3: 28؛ 2: 20). بينما عَلَّمَ الكورنثيين بأننا “جميعًا نعكسُ صورةَ مجدِ الرب، بوجوهٍ مكشوفة كأنَّها مِرآة ، فنتحَّولُ إلى تلك الصورة “(2كور3: 18). ولا يُغالي بكلامِه لأنَّ الوحيَ كشف بأنَّ الكلمة الألهية تأَنَّسَ ليُؤَّلِه الأنسان المؤمن به إذ يجعلُه إبنًا لله (يو1: 12-14).

أخلاق المسيح ؟

يعلن بولس حالاً، وفي نشيدٍ رائع، ما هي الصفاتُ الحميدة والجوهرية لحياة كلِّ إنسان ، سلكها المسيحُ لنتحَّلى نحن بها. ويُقَدِّمُها كما يلي :

1* عدم الأنانية والكبرياء.

قال: ” مع أنَّ يسوعَ المسيح في صورةِ الله { أي هو إلَه } لمْ يَعُّدَ مساواتَه لله غنيمة “. لم تُعجِبْه نفسُه ولا إكتفى بمجدِه الخاص، ولا إنغلقَ على ذاتِه، بل ظلَّ في بُنيةِ الثالوث وإطارِه فلم يسعَ إلى بناءِ مجدِ ذاتِه فقط، كأنَّ ما له قد إقتناهُ بجهدِه، مثل قائدٍ في الحرب يقتني غنائم عدُّوِه عندما ينتصرُ عليه، فيتباهى بها ويجتهد في أن يحتفظَ بها ويحميَها لئلا يخطفَها منه أحد، ولا يقبل أن يُشاركَه بها غيرُه. أمَّا يسوعُ المسيح فلم يعتبرلاهوتَه مكسَبًا فلم يسلك دربَ الأنانية والكبرياء. و في رؤية بولس للمسيح أنَّه آدم الجديد. تمَّتعَ آدم في الفردوس بخيراتِ الله وشارك مجدَه. لكنه عندما سمعَ ففكَرَّ أنَّه يقدر أن يُنافس الله، فيكون هو إلَهًا يُقَّررُ مصيره الشخصي، تصَّرفَ كما لو أنَّه حصلَ على مجدٍ فوقَ ما له، كأنَّه يغتنمُه بقوة ذراعه من الله، بلا منّية، فنسيَ الله بل تجاهل أمرَه وتبعَ شهوتَه في المجد فسلك درب الأنانية والكبرياء. أما المسيح فلم يتكبرولم يهتم بنفسه فقط، بل سلك درب المشيئة الألهية لمجد الله ومنفعة البشرية.

2* التضحية بمجدِه والتنازل عن لاهوتِه.

قال: ” تجَرَّدَ من ذاتِه، مُتَّخِذًا صورة العبد”. لما شاءَ الثالوث الألهي أن يأخذَ أُقنومُ المعرفة { الكلمة} جَسَدًا بشريًا لأنقاذ الأنسانية فيفتديها من ورطتها، لم يرفُضْ ولا إعترضَ الكلمة على ذلك. فهو يُدركُ ما يعنيه التجَّسد. الله يعيشُ حياةَ الأنسان في الذُّلِ والشقاء!. الخالقُ المجيد و القادرُعلى كلِّ شيءٍ يعملُ ويُجاهد، يُظلمُ ويتألم، ولا يقيمُ الناسُ قدرًا لكرامتِه، بل يُهانُ مثل عبدٍ ويُرغَم على الخضوع لمن هو عبدُه!. قائد جيوشٍ يعملُ منَّظفًا في مطبخ!. ملكٌ يتسربلُ ملابسَ متسَّولٍ يستجدي رحمة الآخرين. المسيح ملك السماء والأرض : يولد في إصطبلٍ للحيوانات محرومًا من دُفءِ بيتٍ وآحتفال أهلٍ وأمان ملبسٍ ومأكل!. يعيشُ فقيرًا لا يملك من حطام الدنيا ما يسُّدُ رمَقَه ويسندُ إليه رأسَه عند النوم (متى8: 20)!. ويُتَّهم، رغم كلِّ إحسانه وأشفيته للمرضى وإقامته حتى الموتى، ويُقسى معه فيُصلبُ كمجرمٍ، وهو البار الذي تخدُمُه الملائكة (متى4: 11)!. عرف المسيح قبل تجَّسدِه كل الأهانات والمشَّقات التي تنتظره، وقَبِلَ رغمًا عنها أن يتجَّسدَ. لم يتباهَ بمجده الإلهي الأزلي ولا تشَّبثَ به (يو17: 5)، وهو ملكٌ كما سيُصَّرحُ أمام بيلاطس (يو18: 37)، بل يتواضعُ فيتنازل عن مجدِه ويقبلُ بوضع عبدٍ تعيس، ذلك ليعيش الحَّق ويُظهرَ الحُّبَ العظيم الذي يكُّنه للأنسان الناكر الجميل. ركبَ حمارًا، ويُعتبرُ أحقرالحيوانات، عوض مركبةٍ ملوكية مطَهَّمة بالزينة والسلاح، كسرًا لكبرياء طبيعة الأنسان، وقال:” هوذا صهيون ملكك يأتيك متواضعًا راكبًا على جحشٍ إبن أتان” (متى21: 5).

لكن التجَّرد عن مجدِه، وإخفاءَه لاهوتِه، كان الى زمن مُحَدَّد. إلى أن يتعَوَّد البشرُعلى ناسوته ويُؤَّديَ مهمة الفداء، ويكتشفوا من ثمَّة لاهوته. ذلك ليضمن دفعَ فديةِ الأنسان وإعادَتَه سَيِّدًا على الخليقة كلها كما أقامه الله عند خلقِه (تك1: 28). عندها سيظهر مجد المسيح الكامل ، و تجثو” لآسمه كلُّ ركبةٍ في السماء وفي الأرض وفي الجحيم، ويشهدُ كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح {{ هذا العبد الوضيع }} هو الرَّب، تمجيدًا لله الآب ” (آية11).

3* وأطاعَ حتى الموت.

لم يتكبر المسيح. وعندما لم يتكبرتواضع. وعندما تواضع أطاع. وطاعة كاملة “حتى الموت” تنازل عن إرادته، عن حريته، عن حقوقِه عن كل شيء له كإنسان وكَرَّسَ نفسَه لطاعةِ الله. سيُعلن يومًا لتلاميذه،” طعامي أن أعملَ مشيئة الذي أرسلني” (يو4: 34). طاعةُ الأنسان لله أمرٌ أساسيٌّ للحياة الحَقَّة. إنه نظامُ خضوع الأدنى للأعلى، والأضعف للأقوى، والأجهل للأعلم، ولاسيما طاعة المصنوع للصانع. والطاعة هي ذبحُ الرغبة الخاصَّة وكبسُ الجماح الشخصي، ورفضُ الفكر الخاص والقناعة بالذات، ورفضُ المصلحة الخاصة والخضوع لما يُريده الله ويفرضُه للخير العام. هكذا قال على فم النبي صموئيل :” الطاعة خيرٌ من الذبيحة ، .. والتمَّرُدُ خطيئةٌ كالسحر، والعنادُ جريمةٌ كعبادة الأوثان” (1صم15: 22-23).

ليست الطاعة طُغيانًا وعبوديةً، ولا تُقَّللُ حرفًا من كرامة الأنسان وشخصيته، بل هي التقَّيُّدُ بالنظام الذي يحرسُ على حُسنِ إستمرار الكون وراحة جميع الناس والكائنات. وجودُ الكون كلِّه يستَمِرُّ وفق نظام ثابت لا يتغَّير يضمن توافق وآكتمال كل العناصرالحيوية. وإذا أصابه خلل يفقد الكون توازنه ويزول كلُّ شيء. والنظام يتطلبُ الألتزامَ به ، وليست الطاعة سوى هذا الألتزام. ويسوع إلتزم بنظام الفداء الذي من أجله تجَسَّد فأطاع البشر ولم يتمَرَّد على الله صاحب النظام.

كلُّ ركبةٍ تجثو له !

طاعة يسوع المسيح أعطت ثمرًا وفيرًا، له وللعالم أجمع. لقد صحح مسار السلوك الخاطيء. قبل أن يموت من أجل مبدإِهِ ، فأطاعَ من أجل الحَّق والمحبة، ورفضَ أن يحيا وينحاز الى الأشرار المنافقين والقادة العميان. ضحَّى لكنه بالنتيجة تمَّجد وآستلم، كإنسان، قيادة الكون فله كلُّ السلطانٌ، في السماء والأرض، على الحياة والقضاء والفكر(مر16: 19 ؛ متى28: 18 ؛ يو5: 26-27)، وللمؤمنين به مشاركة مجده (يو14: 3؛ 17: 20 و24).