زواج الأقــارب !

أهلا وسهلا بالأخت بيـداء حـنا

لاحظت الأخت بيداء بأنَّ زواج أولاد العم وأولاد الخالات وأولاد الخال والعمة، أي الأقرباء من الدرجة الرابعة حسب تصنيف القانون الكنسي الشرقي، مسموحٌ به لدى الكاثوليك وممنوعٌ لدى الآثوريين والأرثذوكس الذين يعتبرونه عندهم” خطيئة “!. فسألت : كيف يمكن أن يحدثَ هذا الشيء وتختلف الطوائفُ على أمرٍ مُهِمٍّ مثل هذا ؟

أمــر مهـم !!

أن يكون الخلافُ على كذا زواجات أمرًا مهمًا يستحقُ التساؤُلَ حولَه والأمتعاضَ منه شيءٌ أكيدٌ ومُرٌّ ومقلِق. لكنه رغمَ ذلك يبقَى نقطةً ماءٍ إزاءَ بحرِ الخلافات حول عقائدَ إيمانية جوهرية كهوية يسوع المسيح والأمانة لتعليم المسيح ولتنظيمه. فالخلافُ حول الزواج بين الأقارب ليس سوى نتيجةِ الأنقسام الحاصل في الكنيسة، من حيث نبتت الطوائف والكنائس، حول مباديء الأيمان نفسِه وعدم الأستجابة لمشيئة المسيح والخضوع لسلطةِ رئيس الكنيسة . ولم يظهر ذلك إلا بسبب فتور المحبة ، وتشويه صورة الحق ، والبحث عن المناصب و المكاسب والمصالح.

هل هي مُراءأةٌ أم تخاذل ؟

أتعسَ مما قلنا هو أن يُعَّلَمَ شيءٌ ويُعمَلَ عكسُه!. إنَّ بعضًا من الكنائس التي تُحَّرِمُ الزواج بين المذكورين تقبلُ بهم أعضاءَ رسميين في الكنيسة ذاتِها بعدما يكونون قد عقدوا الزواجَ لدى الكاثوليك. هذه الأزدواجية أراها أنا أتعسَ وأخطرَ من منع الزواج والتمَّسُكِ بالمنع. إذا كان زواج هؤلاء الأقاربِ خطيئة لدى كنيسةٍ معَّينة فكيف تخضع للأمر الواقع وتُبَّررُ تغطية الخطيئة وحمايتها والوحي يقول لا يمكن الجمع بين نقيضين؟. وهل يمكن القبولُ بما نعتبره فسادًا وماربولس يقول” أزيلوا الفاسدَ من بينكم “؟ (1كور5: 13). لأنَّ الفسادَ ينتشر ويُعدي كالخميرة وشَرُّهُ خطير، وقد حَذَّرَ مار بولس منه،” فلا نُعَّيدُ بخميرةِ الخبثِ والفساد” (1كور 5: 8).

كيف يُبَرَّرُ الخلاف ؟

كما نوَّهتُ أعلاه التبريرُ الأصيل هو” الأنقسام في الكنيسة ” بسبب تبايُنَ وجهةِ النظر الفكرية حول عقائدَ إيمانية، وفتورالأيمان وزوال المحبة. فكُّلُ واحدً رتَّبَ بيتَه، بعد الأنقسام ، على هواهُ مُفَّسرًا تعليم المسيح حسب قناعتِه. في الأجيال المسيحية الأولى ، وتحديدًا قبلَ الأنقسام ، منعت المسيحية زواج الأقارب المذكورة بسبب العلاقات الأجتماعية بين الناس. كانت العوائل، عكس ما هي عليه الآن، تعيش على نمط النظام المعروف بـ” البطريركي”، أي يعيشُ الأولاد والأحفاد معًا في بيتٍ واحد ، أو في حارةٍ واحدة ، بحيث ينمو الأطفال كإخوةٍ و أخوات ، تجمعهم روابط دم مشترك و محبَّةٍ متبادلة بشكل أخوي. فعليه منعت زواج أولاد أخوين أو أختين أو أخ وأخت من بعضهما بهدف منع إنهيار الشهوات الى مستوى حيواني ، ومساعدة الشباب على تحَّدي خطرالأنزلاق الى الغرائز البهيمية ؛ ومن جهة أخرى لتشجيع الزواج من الأباعد والغرباء لتكثر معهم روابط المحبةِ والإخاءِ فتسود المحَّبةُ في المجاميع البشرية. حتى الشعوبُ المتخاصمة والعشائر المتناحرة حَلَّت خلافاتِها بالزاوج بين شبابها ليَحُّلَ السلامُ والوئام. لذا ظلَّ المنع قائمًا في كل الكنائس.

لكل قاعدةٍ شــواذ !

أما في العصور المتأخرة والحديثة فتغَّير وضعُ العوائل وصار كل زوجين جديدين ينعزلان عن والديهما ويبنيان لنفسيهما عُشًّا جديدًا خّاصًا بهما. فلم يعد الأحفاد، أولاد الأخوة وأولاد الأخوات ، لا فقط يعيشون مع البعض بل حتى ولا في حارةٍ واحدة ؛ وأحيانًا حتى ولا في نفس المدينة. بل توَّزعوا في أرض الله الواسعة. فلم يتربوا معًا. ولم يكن الشعورُ الإخائيٌ شديدًا كما في الماضي. بل قل حدثَ وأن لم يعرفوا بعضهم ولا إلتقوا ببعضهم. صاروا نوعًا ما غرباء، لا فقط بالمعرفة بل أيضا بالمشاعر. لم يبقَ بينهم سوى رابط الدم وهو يجري خفيَةً في الشرايين والعروق وليس في العاطفةِ والأحاسيس. فلم ترَالكنيسة الكاثوليكية مانعًا أن تسمح للزواج بين بعضهم عند وجود مُبَّررٍ كافٍ ومعترَفٍ به.

وقلتُ أن تسمحَ لهم بالزواج ولم أقل أنها رفعت المنعَ وحَلَّلت زواجهم بشكل نهائي. ما زال المنعُ القانونيُّ قائمًا. ولكنها تتساهلُ فتسمح بالزواج عند وجود ظرف وسبب يُشَّجعُ على هذا الزواج. لأنَّ الكنيسة مؤمنة بأنَّ كلَّ قانون يُسَّن بعد خبرةٍ وبهدفٍ وبشروط. وعندما تزولُ أسباب قيامه ومقَّوماتُ وجودِه يزول بدوره ويُنقّضُ. أو يوقَفُ التعامل بموجبه في حالاتٍ خاصة فيُسمح بزواج من يشملهم الشذوذ عن القاعدة.

أقولُ أنا لهم لا الرَّب ! 1كور7: 12

وهنا يظهرُ جليًا سلطانُ الكنيسة ودورها في قيادة مسيرة المسيحيين بموجب مشيئة الله. لقد خوَّلَ الربُ الكنيسةَ أن تحُلَّ بآسمِه وأن تربُط ما تراه ملائمًا لرعاية شعبِ الله. وهذا مار بولس الذي يستعملُ هذا السلطان ليَحُّلَ بعضَ المشاكل الزواجية ويُقَررَ خلافًا للوضع السائد ما يراه ملائما للأيمان المستقيم. لم ينسَ بولس كلام المسيح للرسل، ولا ذهبَ من باله أنْ يطلبَ أنوار الروح القدس وقُـوَّتَه. نعم لقد قال الرب للرسل” إنَّ الروحَ القدس يُعَّلمُكم و يرشدكم الى الحقِ كله”. ليست المسيحيةُ لزمان واحد فقط ولا لمكان مُحَّددٍ ، بل هي لكل الأمكنةِ والأزمان فتُـكَّيفُ، بقُـوَّةِ الروح القدس وإرشادِه، قوانينها لتطَّبق الأيمان وتعيشه في الظرف المُعَّين الخاص. لقد تصَّرفت الكنيسة الكاثوليكية على ضوء هذه المباديء، كما قال مار بطرس :” رأى الروحُ القدس ورأينا نحن..”(أع15: 28). ولا تنوي الكنيسة ولا تقدر أن تفرُضَ نظرَتها على غير أبنائِها.

ولما كانت الكنائس الأخرى مستقِلَّةً عنها لم ترَ تلك الكنائس ضرورةَ أن تُسايرَهذه المباديء. وكم بالأحرى لم تشأ أن تتبَّناها ، لا بل تراها خاطئة فتحرمها. مع أنَّ الكتابَ المقدس لم يحرمها. والكنائسُ غير الكاثوليكية لا ترى في البابا أسقف روما خليفة بطرس، رئيسًا عاما للكنيسة جمعاء فلا تعترفُ بما وعده به المسيح من أولية وعصمة في الشؤون الأيمانية : ” بطرس أنتَ الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوَ عليها. ما تحُلَّه أو تربطه على الأرض يكون محلولا أو مربوطًا في السماء”(متى16: 18-19). بل تعتبرُه أخًا أولا بين إخوةٍ متساوين. ولما تقَطَّعت سلسلة الوحدة في الكنيسة تفرَطت عُقَدها وتباعدت عن بعضها، في الفكر والفعل، تابعَةً مُنحَدَرَها. وهكذا إختلفت وجهات النظر الأيمانية و تباينت القوانين الخاصّة بكل واحدةٍ منها.

القس بـول ربــان