الأُسقف ونعتُه بـ” سَيِّدْنا ” !

أهلا وسهلا بالأخ نزار حــنا

كتب الأخ نزار ما يلي : ” كلمة < سَيِّدْنا > هي كلمة ثقيلة. ودائمًا تُسَّببُ البُعد. وهي مرتبطة بين السَيِّد والعَبْد، عكس كلمة < أبونا >، التي هي علاقة الحُّب. كلنا نعرفُ مقدارَ الحب بين الأب والإبن. وحتَّى كلمة < البابا > هي أيضًا كلمة رائعة. وحتى يسوع كان يُحِّب أن يدعوه بـ” المعلم”. والصلاة الربية التي علَّمها يسوعُ لنا تبدأُ بـ ” أبانا الذي في السماء”. وبَعدَ البحثِ وجدنا أنَّ هذه الكلمة تُسْتعملُ فقط في المنطقة العربية. وحين إستَفْسرنا هنا في السويد عن ترجمتها الحرفية إستغربوا جِدًّا وقالوا ” إِسألوا كهنتكم”.

سَـيِّدْنا  ! 

أن تكون مُستَعمَلة في البلاد العربية لا شَّكَ في ذلك. أمَّا أن يستغربَ أهل السويد عن معناها الحرفي فيدُّل إما على الجهل بالواقع أو على التمَّلُص من الحقيقة. قد يجهلها المُتجَّددون أو ” المنافقون”. لأن الشعب السويدي مثل كل الأوربيين آظهر إحترامَه لآساقفته بآستعمال لفظة ” Excellens ” في حين إِستعمل بقية الأوربيين لفظة ” Monseigneur  ” أو” My Lord ” وتعني ” سَيِّدي”. ولا تزالُ مستعملة الى اليوم. وربما من عندهم إِنتقلت إلى شعوب الشرق الأوسط. لأنَّ مسيحيي الشرق الأوسط عامةً إستعملوا لفظة ” آوون – ابونا ” للأسقف، بينما إستعملوا لفظة ” رابي – معَّلم ” للكاهن. لفظة ” سيدنا ” دخلت على ما يبدو مع سيطرة اللغة العربية. كانوا في بعض المناطق الجبلية في العراق ينعتون الأسقف بـ ” بابا أبونا ” والكاهن بـ” رابي قاشا “. حتى الأكراد اطلقوا عليهم هذه الألفاظ ، طبعًا نقلا عن المسيحيين ” فقالوا ” نبع أبونا ، وساقية القس ( قَشا)”. وفي كل المؤلفات أو التخاطب أوالصلوات يُذكر الأساقفة بـ ” الآباء”. ولم تدخل لفظة ” السادة الأساقفة ” في النصوص العربية إلا مؤَّخرًا، وللأذاعات والصحف سبقٌ في ذلك. 

نوَّه السائل الكريم أن لفظة سيِّد تثير دومًا وتشير الى لفظة عَبد. والبشرية عانت من سوء العلاقة بين الناس إِذ إستعبَد القويُّ الضعيفَ والغنيُّ الفقيرَ والمُتعَّلمُ الجاهلَ ، وتمَّ إستغلالُ المتمَّكن للمستضعَف بشكل رهيب مُهينٍ لكرامة الأنسان ومؤلم ومُؤذٍ. ولأنها عانت من العبودية التي شَوَّهت السيادة فكرهتها وصارت لا ترى فيها غير عنفٍ و إذلال وفساد. فصار نعتُ “سيد” مرادفًا لـ: عاتٍ، ظالم، فاسد، دَجَّالٍ …الخ. في حين السيادة أو القيادة أمر ضروري للناس كي لا يعيشوا في فوضى الغابة ومخاطرها ومآسيها، وليس كلُّ سَيِّدٍ بتلك المواصفات، حتى لو تحَّققت عند البعض.

الكتاب و” السيد” !     

إستعمل الكتاب لفظة السَّيد لله بشكل إعتيادي، ببساطة وبراءةٍ دون حرج. إنَّه يعني بها ” الذي يُنَّظم ويقود”. لما خلق الله الأنسان دعاه إلى ” السيادة” على بقية الكائنات” يُخضعها ويتسَّلط عليها” (تك1: 28)، وعلى الأرض ” ليفلحها ويحرسها ” (تك2: 15). لأنَّ الخالق ، كما قال مار بولس ” ليس إله فوضى بل إله سلام ” (1كور14: 33).

وبالمقابل شعر الأنسان بعظمة الله وقداسته فرأى نفسَه وضيعًا جِدًّا وذليلا فنعت نفسَه بـعبد الله. فإبراهيم عبدٌ لله واللهُ سَيِّدُه (تك18: 3، 27-32)، كذلك موسى (خر4: 10؛ رؤ15: 3) . وداود يدعوه الله عبده ، ويقر داود بذلك ويدعو الله سيده (2صم7: 4، 19-20). مريم العذراء تدعو نفسها ” امة الرب” (لو1: 38، 48). وكل الرسل يسمون أنفسهم” عبد الرب” كمجموعة (أع4: 29)، وكأفراد خاصة بولس الذي يُدافع بشدة عن حرية الأنسان ويرفض لقب العبد للمؤمن بالمسيح مُحَّرِره (غل4: 7). بل ينعتُ الأنسان، كإنسان، عبدًا لله حتى قال عن تجسد المسيح بأنَّه ” أخلى ذاته (الألهية) وآتَّخذَ صورة العبد” (في2: 7). وأكَّد أنَّ في المسيح ” لم يبقَ فرقٌ بين عبدٍ وحُر” لأنَّ الكل أصبحوا واحدًا في المسيح (غل3: 28). لذا يسمي بكل بساطة وجرأة ” العبد أونسيمُس أخًا حبيبًا في المسيح لسيده فيلمون ” (فل15-16). كما يدعو العبيد الى طاعة أسيادهم والسادة الى التعامل الأنساني معهم، كلا الطرفين بآسم المسيح وبروح طاعته للآب (اف6: 5-9).

والرسل كلهم أيضًا يُخاطبون يسوع بلقب ” يا سيد” بالتوازي مع لقب ” يا معلم”. ويسوع الذي رفض أن يدعو تلاميذه ” عبيدًا بل أحَّباء ” (يو15: 15)، لم يعترض على لقب” سيد” ، إنَّما فضَّل وتعامل مع اتباعِه كـ” معَّلم مع تلاميذ”. لأنَّه علَّمهم الحقيقة وهم قبلوها منه كتلامذة. فبين المعلم والتلميذ علاقة متبادلة للمحبة وآلآحترام. وقد قدرها يسوع :” أنتم تدعونني مُعَّلِمًا وسيِّدًا وحسنًا تفعلون لأني هكذا أنا.. أنا أعطيتكم المثل ( بتواضعه وخدمته لهم في غسل أرجلهم)، فأعطيتكم ما تقتدون به” (يو13: 6، 13-15). ولا فقط عاش يسوع مع تلاميذه هذه العلاقة بل خلَّفها لهم رسميًا لمَّا وكلهم بالتبشير قائلا :” إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، عمِّدوهم … وعلموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به ” (متى28: 19-20). أوصاهم أن يتصَّرفوا كمعلمين يبذلون ويُعطون ما يملكون بمحبة وتواضع وروح الخدمة لا بهدف الأستنفاع، وأن يعتبروا الناس المؤمنين تلامذة، غرساتٍ يانعة تحتاج الى السقي والتقليم لا الى القطف والتكسير. وفعلا يحُّسُ مار بولس بهذه الحقيقة ويفتخر بها ويستخدمها للتعامل مع سامعيه أو قارئيه :” جعلني الله مبَّشرًا ورسولاً – أقول الحق ولا أكذب – ومعَّلمًا لغير اليهود في الأيمان والحق ” (1طيم2: 7).       

وهكذا يبدو أن كلمة ” سيدنا ” ليست غريبة ومعارضة للأيمان ولا تتنافى مع الأخلاق الأنسانية إذا أُستُعمِلَت بوعي ومعرفة ومحبة وتواضع إعترافًا بموقع  الأسقف القيادي في الأيمان ومركزه الأول في الأبرشية وواجبه في تعليم الرعية ورعايتها وحمايتها من الوقوع في حبائل ابليس وفخاخ الخطيئة. وبالنسبة للمؤمنين اعترافهم بسيادة الاسقف” يصُّدُ المتكبرين وينعم على المتواضعين” (1بط5: 5). هذا واقعنا الأيماني. والأعتراف بالواقع فضيلةٌ ، وسلوك طريق الأيمان أضمن للخلاص. وإذا كانت لفظة ” السيادة ” تثيرُ فـكرة العبودية أو التسَّلُط فذلك إنحرافٌ عن فكرة خضوع المرؤوس وطاعتِهِ التي يتطلبها النظام الأجتماعي والأيماني لسلطة الله نفسه من خلال ممثليه، دينيا كانوا أو مدنيًا. يقول مار بطرس : ” إخضعوا، إكرامًا للرب، لكل سُلطةٍ بشرية” (1بط2: 13). ومار بولس يكتب :” لا سُلطة إلا من عندِ الله. والسلطة القائمة هو أقامها. فمن قاوم السلطة قاوم تدبير الله..” (رم 13: 1-2). ويسوع قال: ” طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتَمِّمَ عملَه” (يو4: 34).