الأحـد الثاني للرسل !

عـيد الثالوث الأقدس

تتلى علينا اليوم القراءات : أع4: 5-22 ؛ 1كور5: 6-13 ؛ لو7: 31-50

الرسالة : 1 كورنثية 5 : 6 ـ 13

شاع في كورنثية خبر فاحشةٍ هي علاقة جنسية لمؤمن مع إمرأةِ أبيه { يُظَّنُ أنها أرملة!}. و أدانها بولس بشَّدة و لامَ بقية المؤمنين الذين إفتخروا بها عوض الحزن عليها وإدانتها. إنه أمرٌ يندى له الجبين. قد يضعفُ المخالف أمام الشهوة فيرتكب فحشاءَه. أما الآخرون فماذا حصلَ لهم ؟ وكيف قبِلوا أن يفتخروا عوضًا عن أن يُنَّددوا بها لآيقاف الأمر؟. إنَّه شَرٌّ يجلب العار واللعنة على من يرتكِبِه (تث 27: 20؛ أح18: 8 و29)، ووجَبَ إزالتُه لا الأفتخارُ به (تث13: 6). وبسبب جُرمٍ مماثل خسر رَأوبين إبنُ يعقوب حقوقَ بكوريتِه (تك49: 4).

لا يَحسُنُ الأفتخار !

لا يحسُنُ ذلك لأَّنَ امرأة الأب، حتى الأرملة، هي بمثابة ” أم “. ومن يتزوجُها يُهينُها هي و يُهينُ أباهُ ، لذا حرَّمت الشريعة ذلك (أح18: 8). لم يُخلق الأنسانُ من أجل الجنس. بل أوجدَ الله الجنس من أجل الأنسان فلا يستصعبَ واجبَه في تمديد الحياة، بل يؤَّديه بفرحٍ وراحة. و يطالب الله ألا ينحرفَ َويبتذلَ ما قدَّسَه الله. لأنَّ كلَّ ما صنعه الله سامٍ وقدّوس. ولا يجعلُ لنفسِه هدفًا مِمَّا جعله الله له وسيلةً فقط. هذا من ناحية الطبيعة نفسِها.

من ناحية الأيمان أيضًا مطلوبٌ من المسيحي أن يشهدَ للمسيح بقداسةِ سيرته. نحن مخلوقون لنعيش صورة الله الروحية القدوسة ولا نُصبح عبيدًا للشهوات الحسية. يكتب مار بولس لأهل أفسس:” إنَّنا من صنع الله. خلقَنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعَّدَها لنا من قَبلُ لنسلُكَ فيها ” (أف2: 10). نحن مُكَلَّفونَ بهذا لنُصبح مثالاً في أدائها فنكون النورَالذي يُضيءُ للعالم درب السماء. أقام الله أولا شعبَه المختار”نورًا لخلاص العالم “(اش49: 6). وإذ لم يُؤَّدِ الشعبُ رسالته ، بل فضَّلَ لذَّته وراحته على الله، تخَّلى عنه الله وسحبَ عنه إمتيازَه. لذا لا يترَدَّد بولس من تذكيرالمسيحيين في أن من يسلك درب الشَّر والفساد لن يرثوا ملكوت الله ، و ممارسو الجنس بطرقٍ ملتوية ” الزنى، الدعارة، الفجور” (غل5: 19-21) و” الفحشاء ، والفسق واللواط ” (1مور6: 9-10) من ضمنهم لأن ممارسيها ” أناسٌ ، ذهنهم فاسد غير صالحين للأيمان.. ينقادون لشهواتهم .. مؤْثرين اللذة على الله ” (2طيم4: 1-9).

إنَّ موضوعَ قداسة المؤمن يستحوذُ على فكر بولس ولذا يُشَّددُ عليه في أغلبية رسائله ويَدعو المؤمنين ” الأخوة القديسين”. لا يليقُ بمن إنتمى الى المسيح وآلتزم شريعتَه أن يتراخى و يتراجع فيُراعي سلوك أهل العالم ومشاعرهم. لقد أخرجنا من دائرة فكر العالم وأحاسيسه. لسنا بعدُ منه، بل نحنُ مُرسَلون إليه لننتشله من وحل الفساد ونُقَّدسَه. يسوع قدَّسَ نفسَه من أجلنا ولم يخطأ ويريدُنا أن نقَّدَسَ أنفُسَنا من أجل الآخرين (يو17: 16-19). إنَّ شهادة الحياة أمضى وأنجح من الكلام. ولهذا لم يَدعُنا يسوع معلمين وملافنة، ولا وصفنا حُكماء وبُلغاء، بل ” نورًا” يُضيءُ درب الحق والقداسة. والنور لا يهتَّم بمدى إستقبال الناس منه بل يهتمُ بأن يشُّعَ صافيًا قويًا ليُؤَّديَ واجبَه، ويرى الآخرون بوضوح درب الخلاص.

خميرٌ قليل يُخَّمرُ العجينَ كلَّه !

يُقَّدرُ المسيحيون ربعَ العالم أو أكثر بقليل. والأضطهادُ ضِدَّهم قائمٌ على قدم وساق. فكثيرون يبدون يأسًا، وأحيانًا خيبَةً، من بُطيء قبول العالم للمسيح. مع ذلك لنحمد الله لأننا أضعافُ مسيحيي زمن بولس بملايين المرات. وبلغ العلم ووسائل التواصل الأجتماعي وإمكانية البشارة آلاف أضعاف ما كان للرسل والتلاميذ الأوائل. على قلتهم غيَّروا وجه العالم وأفلحوا في إسقاط قلعة الشر والفساد وآنتشر نورالأنجيل حتى بلغ أقاصي الأرض. أفلحوا لأنهم آمنوا أن المسيح معهم يعضُدُهم، ولأنهم عملوا عمل الخميرة. كانت خميرتهم نقية صافية وقَوِّية. كانوا واثقين ومُصَّممين على زرع بذرة الخلاص مهما كلَّفهم الأمر. لم يُبالوا بالأضطهاد ولا تذَّمروا ولا تشَّكوا، بل صمدوا بفرح على إيمانهم متحَّدين كلَّ عنفٍ أو ضيقٍ من أجل المسيح . شدَّدوا على نقاوة سلوكهم وحافظوا على شعاع إيمانهم بشجاعةٍ وقناعةٍ وتصميم. كان لهم المسيح كلّاً في الكل. ركزوا على شهادة حياتهم، وكانت هي التي تسري كالخميرة إلى عمق كيانهم وتُغَّيرهم. لأنَّ السعادة في الهدوء التي كانت تشرق من وجوههم، والمحبة التي كانت تجعلُ منهم ” قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة.. وكلُّ شيءٍ مشتركًا بينهم” (أع4: 32)، أبهرت جميعَ مشاهديهم ثمَّ شَوَّقتهم إلى ذلك النموذج من الحياة. خميرة فكر المسيح وروحيته في المحبة و الإخاء تأصلت في حياتهم. ولمَّا علموا أنها من تعليم المسيح ودعوته عشقوه وآنتموا إليه لكي يتنعَّموا بتلك الحياة ويكملوها في الأبدية.

خميرة المسيح هي خميرة الحق والمحبة، خميرة نور حياة الله الخالق نفسِه. لم تتركز تلك الخميرة على المظاهر والرياء والفساد وحرف الكلام، لم تكن مثل سابقاتها بشرية محضة. بل كانت خميرة الوجود نفسِه. لذا شدَّدَ بولس قراءَه وسامعيه أن يتطهروا من خميرة العالم و الجسد : خميرة الأنانية، والعنف، والشهوات، والمال، والجاه، والخبث والفساد. ودعاهم إلى أن ” نُعَّيدَ ونحيا ذكرى المسيح بفطير الصِدقِ والحق “(آية 8). دعانا أن ننبذ خميرة العالم و نرفض أن نتبَّناها. ونرفضُ أخًا مؤمنًا يتبنى سلوك أهل العالم ويختار طريق الفساد، ” لا تخالطوا الزناة “. لا نؤيد المؤمنين الفاسدين بل ” أزيلوا الفاسد من بينكم ” تماما كما وصَّى موسى شعبه بإيعازٍ من الله (أح18: 29؛ تث13: 6). زُرِعَ المسيحي في العالم ليُنقذه من ” عاداته المعيبة و الدنسة ” (أح18: 30) ويُقَّدسَه (يو17: 19) لا ليتعَّلمَ منه ويسلك درب الهلاك. زُرِعَ نورًا، ومِلحًا ، وخميرة ليُغَّيرَ سلوك أهل العالم. وهذا يتطلب منه ألا يسايرَ هذا أو ذاك. بل أن ينظر الى المسيح ويتبعه ويقتدي بسلوكِه و يتذكر أنَّ عليه أن يُخَّلصَ العالم بقوة المسيح. لا يتخَّوف ولا يقلق من قلة عدده. الرب يريد النوعية لا الكمية. يكفي شعاع صغير من النور يخترق السُحب لينير الكرة الأرضية. وتكفي ذّراتٌ من الملح لتمنح الطعام طعمًا لذيذًا. وتكفي كمية قليلة من الخميرة لتُحَّولَ العجين كلَّه إلى صنفِها. كلها تفلح لأنها تحافظ على نقاوة طبيعتها. أمَّا إذا فقدت الخميرة قوَّتها، وإذا فقد الملح طعمَه وأصبح تافهًا، وإذا آظلَّمَت الشمسُ فعندئذٍ تكون المصيبة. هكذا إذا فقد المسيحي أيمانه وجهل الحَّقَ ورفض المحبة والغفران عندئذٍ كيف يشهد للمسيح؟. أو إذا رفض التألمَ بسبب إيمانه بالمسيح ، أو ركبَ تيَّارَ العالم وجاهد في موكبه فكريًا وخُلُقيًا فكيف يُخَّلصُ العالم؟. وإذا رفض أن يشترك في خلاص العالم فكيف يأمل أن يقبله المسيح في ملكوته ؟