الأحـد الأول للرسـل !

عـيدُ العُنصرة ، أي حلولِ الروح القدس

تتلى علينا اليوم القراءات : أع2: 1-21 ؛ 1كور12: 1-27 ؛ يو14: 15-16+ 25- 26 + 15: 26-16: 15

الرسالة : 1 كور 12 : 1 ــ 27

تحَدَّث مار بولس عن مواهب الروح القُدُس وهي قِوًى روحية يمنحُها الروحُ القدس للناس المولودين بالمعمودية للحياةِ الجديدة في المسيح. إنَّها قوًى أو طاقات أو قابليات روحية من الطبيعة الألهية تظهر في الأنسان، دون أن يتكلَّفَ حتى يكتسبَها إنَّما فقط يُفَّعلها ويُنَّميها لتعملَ بطاقتِها الكاملة، تختلفُ من الواحد إلى الآخر. قدراتٌ يمنح منها الله لكل إنسان، يُعجنُها بكيانِه، ما يُسَّهل له أداءَ خدمات مُعينة. وغيرها للتجاوب مع طواريء الحياة. لا يقدرالأنسان الفرد على كلِّ شيء. لأنه ليس كاملاً. في حين يحتاج الفرد الى كلِّ ما يلزمُ الأنسانَ ليعيش. فيحتاج إلى مفعولِ كلِّ تلك القدرات. و قد وزع منها الله على كل إنسان موهبة أوعدَدًا منها لكي تتفاعل مع بعضها ويكون لكل واحد دورٌ في الحياة الأجتماعية. فكلُّ واحد يُعطي شيئًا للآخرين ويأخذ منهم أشياء لتكتمل حاجةٌ كلِّ واحد. تتمَيَّز هذه المواهب من إنسان الى آخر، وتؤَّدي خدمةً مختلفة، لكن مصدرَها واحدٌ الله، وحقلَ عملها واحدٌ الأنسان، وهدفَها واحدٌ بُنيانُ المجتمع البشري وكماله.

الله يعمل من خلال الالبشر !

الله يعملُ بواسطة الناس لمنفعة البشرية جمعاء. الله هو الذي يريد، والناس هم الذين يفعلون مُلهمين من الله ومُكَّلفين للقيام بمهمَّةٍ {مهنة} خاصّة يسندهم فيها. يعَّبر بولس عن هذا بعبارة بسيطة قائلاً: “هو الله الواحد الذي يعملُ كلَّ شيء في جميع الناس. وكلُّ واحد يتلقى من تجليات الروح لأجل الخير العام” (آية 6و7). فكان الله الواحد يعمل في يسوع ، وفي مريم ومار يوسف وبطرس وبولس والمجدلية ولعازر والأنجيليين الأربعة لتتحَقَّقَ مهمة فداء كلِّ البشرية. كل واحد أدَّى مهمة مختلفة ألهمه الروح القدس وسانده فيها. واليوم أيضا، وكما حدثَ عبر تأريخ الكنيسة، يقود الروح عملية خلاص البشرية ويوهبُ أفرادًا يُؤَّدي كلُّ واحد منهم جزءًا منها. وقد ذكر الرسول بعضًا من تلك المواهب المهمة : الحكمة، المعرفة، الأيمان، الشفاء، المعجزات { الأشفية الأعجازية لمريم العذراء والقديسين مثل مار شربل وغيره }، النبوءَة { الذين يقرأون علامات الأزمنة }، التمييز بين الأرواح، التكلم باللغات و ترجمتها. هذه مواهب تعود الى تدخل الله المباشر، خارجًا عن طبيعة الأنسان ونظام الكون الحِسّي، و عند حاجةٍ ماسَّة طارئة. وأحيانًا تُوقِفُ نظام تفاعل المواد الحسية عندما تُسيءُ إلى الأنسان، ذلك إظهارًا لقدرةِ الله و مجدِه ولإغاثة الأنسان عند ضيقِه وطلبه. و للأنسان مواهب أخرى مرتبطة بالطبيعة ذاتها ترافق الخدمات المختلفة كالكهنوت والتزَّهد والطب والهندسة والفَلَك والكهرباء والتعليم والفن والأدارة والرياضة و.. وغيرها من أنواع الخدمات والتخَّصصات التي هي إعتيادية غير خارقة. يحتاج الناس الى كل هذه الخدمات وغيرها، ولا يقدر أيُّ فرد أن يمتلكها، ويُؤَّديها كُلَّها معًا. فزرعها الله في طبيعة الأنسان وقسَّمها على الأفراد حتى تكتملَ الخدمات ويرتاح الأنسان ولا يُعوزَه شيء.

الجسد واحدٌ وله أعضاءُ كثيرة !

شبَّه الرسول المواهب الألهية وتفاعلها مع بعضِها بجسم الأنسان الذي هو واحد ولكنه يتكَّون من عِدَّة أعضاء التي هي ضرورية للحياة، والتي يؤَّدي كل واحد منها دورًا خاصًّا به يتكامل مع أدوار بقية الأعضاء الذين هو مرتبط بهم، وبعضٍ منها لا يقدر أن يؤَّدي مهمته بدونها. مثلا: الرأس والقلب والرئة والكلى. ونتيجة إرتباط كل عضو بالبقية يؤّثرعمله عليها. وعند عدم أداء خدمته يُسَّببُ خللاً يتأذى منه كلُّ الجسم. لا تتساوى الأعضاء بإهمية دورها بل تتساوى لأنها تؤَّدي دورًا يحتاجه الجسم مهما كان صغيرًا أو ذليلا. ما دور البنفسج الصغيرة في جسم الكون؟. وما دور النملة في توازن الحياة ؟. وما دور الفأرة في عالم الحيوان أو الزرزور في عالم الطيور؟. ومثله ما دور الأظفر أو الشعر على الساق أو الفخذ؟. الذي خلق وحده يعلم. إنما لم يخلق شيئًا من دون علَّةٍ أو هدف.

هكذا هي هوية كل موهبةٍ إلهية ونفعها مهما كانت بسيطة أو مُعَّقدة، صغيرة أو كبيرة. وأهم شيءٍ فيها أنها مرتبطة بالرأس ومنه تأخذ حركتها. لا تقوى بدونه على شيء، وإذا لم تستجب لأيعازه تفقد قيمتها. والمؤمنون بالمسيح يُشَّكلون معه جسمًا واحدًا. يسوع المسيح هو الرأس الذي يُحَّرك الجسم ويُحييه بالخبز والدم الذي يوَّفره للأعضاء بالأسرار الألهية وفي مقدمتها سر القربان. والمؤمنون المتحدون بالمسيح بالأيمان وبالأسرار يؤَّدون الخدمات الروحية التي يحتاُجُها الجسمُ كُّلُه. وعندما يؤدي كل عضو دوره ويُفَّعلُ موهبته يكون الجسم سالمًا وينعم بالحياة الوافرة (يو10: 10). وكلُّ عضو يحتاج إلى بقية الأعضاء لأجل مواهبهم كما يحتاج الى المسيح الرأس. ولا يمكن للمؤمن أن يستغني عن غيره من المؤمنين لأنَّ لهم حياة واحدة مشتركة تأتي من المسيح. مثل أعضاء الجسم يكملُ المؤمنون بعضُهم بعضًا.

يبقى المسيح وحدَه الرأسَ والمصدر الوحيد للحياة الروحية الألهية. أما في الشؤون الزمنية فقد أقام المسيح وكيلا عنه لجسده السِّري، الكنيسة، جزئِه الزمني أو الكنيسة المجاهدة في العالم. فكل رعية، خورنة كانت أم أبرشية أم بطريركية أم ديرًا أم رهبانية أم مؤسسة دينية وغيرها، تشكل جسمًا للمسيح، لها رأسٌ وتؤَّدي جُزءَها من رسالة المسيح من خلال خدمته وقيادته. وكلُّ هذه التقسيمات الأدارية أو الروحية ترتبط بدورها بالرأس الأعلى للكنيسة و تخدم تحت رعايته وتوجيهاته. ومهما كانت الرعايا أو الأبرشيات أو الأجزاء الأعلى مرتبةً مستقلة إداريًا لكنها تبقى متحِّدة يالأيمان وتنهل الحياة الألهية من نفس النبع، المسيح الذي يقودنا إليه رئيسنا الخاص المباشر. هكذا يفعل كلُّ جهاز في الجسم ، له إستقلاليته أو عمله الخاص ويتكون من عدَّة أجزاء تخضع له ولكنه متَّصلٌ حيويا ببقية الأجهزة ويستلمون كلهم الأوامر من الرأس. لا جسم بلا رأس، وهو يُنظم حياته، وبدونه لا يقوى عضوٌ مهما كان أن يُؤديَ دوره. هكذا كل مؤمن يرتبط بالمسيح عن طريق رأسِه. وكذلك لا يقدرالرأسُ أن يؤدي قيادته بشكل فعَّال بدون الأعضاء. وكلهم معا ، الرأس والأعضاء، لا يقدرون أن يتابعوا رسالة المسيح من دون توجيه المسيح وعونه.

الروح هو الذي يرشد !

ليست المواهب مناصبَ حتي تغري ولا هي وسيلة عيش حتى يختار كلُّ واحد ما يُرَّيحُه و يضمنُ مُستقبلاً أفضل. بل هي وسائلُ لتنفيذ عمل الله، ومُؤَّهلات يتمتع بها صاحبُها تسَّهلُ له أداءَ الخدمة الموَّكلِ هو عليها. إنها مثل سلاح الجندي ليحمي نفسَه وبلده. لذا لا يعني إختلافُ المواهب تفضيلَ إنسانٍ على آخر. كما لن يكون صاحب موهبة مُهِمّة أفضل مصيرًا من غيره. لأنه لا يقومُ تقييمُ المؤمن على نوع الموهبة بل على آلأمانة لها وأدائِها بشكل يبني جسمَ المسيح. بل لا توجد موهبة أمجدَ فأفضل من غيرها. لأنها كلُّها تجليات الروح القدس نفسِه تبعًا للخدمة المطلوبة. فمجد المؤمن لا يتعَلَّقُ بالموهبة التي تُصبحُ مسؤولية بل بكيفية ممارسة تلك المسؤولية ، و تفعيلها وإثمارها لبناء الخير العام. وبما أنَّ المواهب بنفس القوة ولنفس الهدف يتطلب العملُ من المؤمنين أن يراعوا بعضَهم في أداء خدماتهم للجسم الواحد، لأنَّ لخدمتهم مردودٌ على بقية الأعضاء، كما يتأثرون بدورهم بخدمة البقية. على المؤمنين أن يراعوا الطابع الجماعي، الخورني أوالأبرشي وحتى العالمي ، لرسالتهم ودورهم ولا ينفردون بآرائهم أو نشاطهم. لذا يقول الرسول :” إذا تألَّمَ عضوٌ تألمت معه سائرُ الأعضاء. وإذا أُكرمَ عُضوٌ سُرَّت معه سائرُ الأعضاء” (آية 26)، لأنَّه كُّرِمَ بصفته عضو الجسم ويُنَّمي الجسمَ كُلَّه في نطاقِ مهمته، وليس لكونه فلانًا : رأسًا، أو قلبًا أو يدًا !. هذه هي ثمارُ معموديتنا. وهي أيضا مفاعيلُ بقية الأسرار لاسيما ” التثبيت ” الذي يُحِّلُ فينا الروح القدس. فهذا الروح واحدٌ ونفسُه في جميعنا يعمل فينا لبناء جسم المسيح الروحي، جسَدِه السّري، لخير البشريةِ كلِّها.