الأحد الثاني للصليب / الخامس لأيليا

تتلى علينا اليوم القـراءات  :  اش25: 1-8؛ تث9: 1-8 في3: 1-14؛ متى17: 14-27

القـراءة : إشَعْيا 25 : 1 – 8 :– يعترفُ النبي بأنَّ اللهَ صِدّيقٌ وقوِّيٌ يُعاقبُ الكفرة ويُنصِرُ الفقراء والمظلومين.

القـراءة البديلة : تثنية 9 : 1 – 8 :– سيمتلكُ اليهودُ فلسطين بعد إِنتصارِهم على شعوبها الذين هم أشرار، وليس بقوتهم بل بقدرة الله الذي أرهبَهم أمامهم.

الرسالة : فيلبي 3 : 1 – 14 :–  يطلب بولس ألأبتعاد عمَّن يعتمدون المظهر و المنطق البشري وحدَه، ويدعوهم الى الأقتداء بالمسيح في التمَّسُك بمحبة الله.

الأنجيل : متى 17 : 14 – 27 :–  يشفي يسوع مصروعًا لم يقوَ الرسل على شفائه لقلة إيمانهم، ويُخبر عن آلامه وموته وقيامتِه، ويدفع جزية الهيكل.   

أسعى الى الغاية !

لكل فعل إنساني هدفٌ. ولتحقيقِ المنشودِ يتَّخِذُ المرءُ خُطواتٍ مترابطة ومتسلسلة. ويمكن إعتبارُ كلِّ خُطوة مرحلةً لا يُمكنُ الإستغناءُ عنها. فإذا تتابعتِ المراحلُ وتوالت الخطوات بشكلٍ طبيعي يحصلُ على الغاية المنشودة، ويتحَّققُ الهدفُ فيشعرُ المرءُ بطُمَأنينةٍ وراحةٍ وسعادة.

وكلُّ إنسانٍ يهدفُ الحياة : فيتمَّنى أن يحيا للأبد براحةٍ وهناء. ندعو ذلك بتعبيرنا المسيحي ” الخلاص”. والخلاصُ يشملُ سيرةَ حياةِ الأنسان كلَّها، وليس فترةً محَّدَدة منها، كالحياة السعيدة بعدَ الموت. يبدأُ الخلاص من الآن. ويدعو بولس المؤمنين بالمسيح” المُخَّلَصين” (1كور1: 18) . لقد خلَّصنا يسوع المسيح من تعاسة الحياة لمَّا حرَّرَنا من سطوة الخطيئة وفتح لنا باب حُرِّية الإختيار والتصَّرُف. لقد تخَلَّصَ المسيحي من كلِّ ما يُعيقُ سهولة مسيرته أو يُكَّدرُ صفاءَ حياته،  ويشعرُ براحةِ الفكر والبال ، ويتمَتَّعُ بلَذَّةِ الحياة وهنائِها. وإذ لا تخلو الحياةُ من مُعَّوقاتٍ و معاكسات، بسبب تعَدُّدِ الناس وحُرّيتِهم، مع اختلافِ أنماط الحياة الأجتماعية، يحتاجُ الأنسان الى الجهاد ضِدَّ ما يُضاددُ ويُعرقلُ راحته، ويُهَّدِدُ مُستقبَله الأبدي.  يحتاجُ عندئِذٍ الى رؤيةٍ باطنية عميقة و واضحة لذاتِه حتى يتعَرَّفَ على كلِّ مَواطنِ قُوَّتِه و ضُعفِه، ثمَّ أن يُثَّبتَ إستقامة الدرب الذي عليه أن يسلكه، وأن يُقَّدرَ قوَّةَ المواجهة التي يَلقاها ، وبالمقابل قوَّة العون الذي يستطيعُ أن يحصِلَ عليه فيُوازنَ الأُمورَ ويُخَّطِطَ لسلوكٍ يضمنُ له الحياة الحَقَّة “الآن وللأبد”. ثم يبدأُ بالتنفيذِ ويستمِرُّ يسيرُ إلى الأمام دون الألتفاتِ إلى الوراء، مُجاهِدًا ومناضِلا، قابِلاً كلَّ تحَّدٍ ، وصامِدًا أمام كلِّ تيَّارٍ مُضادد مهما إشتَّدَ عُنفُه و آلَمَت قساوتُه. هذا هو ما يُعَّلمُنا إِيَّاه بولس الرسول بعدَ خِبرتِه الأيمانية العميقة.

 تحـذير !  

بدأَ بولسُ رسالتَه بالتنبيهِ والتحذير ” إِحْذروا”. ليس المؤمنُ وحيدًا في الكون ولا معزولا عن أقرانِه. إنَّه يعيش بين ملياراتِ أمثال له يختلفون عنه، لا فقط بالوجه والشخصية إنَّما بالسلوك تَبَعًا لفكرٍ مُختلفٍ ورغائبَ مُتمَّيِزة. خَطَّ الناسُ لأنفسهم طُرُقًا عديدة للعيش بموجبها فـ” أقاموا سُنَنَهم” (مر7: 7-9) نتيجة ما إختبروه وآمنوا به أو رفضوه من مبادئَ مناهِضة لهم تُناقِضُ رؤيتهم الخاصّة عن الحياة. يُدعى ذلك فلسفاتٍ أو دياناتٍ تَدَّعي ضمان الحياةِ الحَقَّة. إِنَّما يجبُ التمييزُ بينها والحذرُ منها. لأنها تبقى كلُّها مبادئَ وفلسفاتٍ بشرية نظرية لا تستند إلى الله خالق الحياة ومُوجِدها.

أمَّا اللهُ، فلأنَّه ” الخالقُ”، فهو وحدَه ” الحَّق” يعرف ماذا صنع وكيف صنع و وضع لهُ خريطة السلوك. هذا الله وعد الأنسان، الذي أخطأَ بفهم الخلاص/الحياة وآعتبرها إتّباع الرغبة والشهوة ، أن يُعَّلِمَه درب الحياة الحقّة، ويساعدَه على السير فيها. هذا الله تجَسَّدَ، أي صارَ إنساًنًا، وعاش بنفسِه نموذج الحياة الحَقّة. فيسوع المسيح، اللهُ المُتجَّسدُ، جاءَ نورًا يُرشِدُنا الى سواء السبيل للخلاص وقَدَّمَ لنا المشورةَ والعونَ لننجح في تقليد سيرته. ولهذا يبقى تعليمُه، مهما صعُبَ في عين البشر، الإضاءَةَ الوحيدة للطريق الذي يقودُنا الى الآب (يو14: 6؛ متى11: 27)، ويضمن لنا الوصولَ إليه (يو15: 4-5؛  10: 10).

عليه يجب أن يكون المسيحي حَذِرًا من كلِّ ما ليس من تعليم المسيح أو يُناقضُه. عليه أن يتعَوَّدَ ألا يتبعَ عامة الناس (حسب المقولة: الحشرُ مع الناس عيدُ)، بل أن يعيشَ إيمانه بأصالةٍ وعمقٍ وقناعة، ولا يسمحَ لمساوماتٍ ترفعُ مبادئ البشر الى مستوى مبادئ الله. إِنَّه مدعُوٌّ إلى أنْ يُفرغَ ذاتَه من كلّ ما هو رأيُه الخاصِ أو هو من مبادئ أهل العالم. فكما يُفرَغُ الإناءُ مما فيه حتى يُصَّبَ فيه شيءٌ جديد هكذا يُفْرِغُ المسيحي حياته من كلِّ فكرٍ أرضّيٍ زمنّيٍ وحِسّي ليستقبل فكر الله ونورَه وعونه.

يشملُ الحَذرُ إذًا : السُنَن البشرية (2كور8: ، 20-23) ولا تكونوا ” عبيدًا لأركان العالم” (غل4: 3)؛ الأشخاص المشبوهين (أف5: 6) والعلماء المُزّورين (2بط2: 1-3 و10-19)، و الإخوة الكَّذابين (في1: 15-18؛ يهوذا4)، والأرواح والأساليب :” لا تركنوا الى كلِّ روح .بل إختبروا الأرواح لِتُمَيِّزوا.. بين روح الحق من روح الضلال” (1يو4: 1-16)، لاسيّما من الجسد ” لأنَّه ينزعُ الى الموت .. ونحن لا نسلكُ سبيلَ الجسد” (رم7: 4-6)، و أخيرًا ” لا تثقوا كثيرًا بأنفسِكم ” (رم12: 3؛ في2: 3؛ 1كور13: 2).

لقد حَذَّرَنا اللهُ على يد المسيح ورسله ،:” فقد بُلِّغْتُم، فتنَّبهوا لئلا يجتذبكم ضلالُ المارقين فيهوى عنكم ثباتُكم “(2بط3: 17). مسيرتُنا إذًا جهادٌ إذ تعترضُها صعوباتٌ جمَّة. لذا دعانا الرسول الى الجهاد: ” أكتبُ .. لكي أَحُّضَكم على الجهاد في سبيل الأيمان الذي سُلِّمَ الى القديسين. وأمَّا الآخرون ( الإخوة الكذابون) ..فآرحموهم على خوف. وآبغُضوا حتى اللباس الذي دنَّسَه جسدُهم ” (يهوذا 3 و 23).

تنــوير !

وبعد التحذير مما يُعيقُ مسيرة الخلاص يُنَّورُنا بولس بالحَّق الذي يُضيءُ دربنا، إشارةً مرورية، لنسلكه. يُمَّيز لنا بين مختلف الدروب مشيرًا الى الصحيح منها كي لا نتوَّهم أو نترَّدد. يدُلُّنا على دربنا في أخلاقِنا وعبادتنا لآختياراتنا، ويحمينا من تجربةِ الجهل والحيرة. ويضمن لنا الخلاص حاليًا وللأبد. وهذا الحَّق الذي ينوِّرنا يحفظه لنا الكتابُ المقَدَّس و تفَّسِرُه لنا السلطة التعليمية في الكنيسة، في كل الحقبات الزمنية، وليست عاداتنا وتقاليدنا التي تصبح أحيانًا تراثًا يُبعدُنا عن الله، إذ نكون قد توَّهمنا في إدراك كل أبعادِ إيماننا على وجه الصِحَّة. أخلاق مسيحية كثيرة قد تشَّوهت عبر الزمن بسبب عدوى التعاليم والعادات غير المسيحية التي عشنا في ظِّلِ غاباتِها فلم نُمَّيز الغَثَّ من السمين.

تقــدير !

رأينا أن بجانب الطريق التي سلكها المسيح، ويُشيرُ إلينا بها، توجد سبُلٌ أخرى : نفوسُنا ، أموالنا، شهواتنا، أمجادُنا…ولها مداخل جذّابة ومغرية إلا إنك لا تعلم أين تنتهي مخارجُها. في حين قد تبدو أحيانًا طرقُ المسيح مُقرفةً ومُحرجةً جدًّا : محبةُ الأعداء والمسيئين و الظالمين. ولا يكفي أن تسامحهم ولا تنتقم منهم بل وأيضًا أن تُحسن إليهم وتساعدهم كأنَّ شيئًا لم يحصل بينكم .. يبدو هذا نيرًا ثقيلا ودربًا مؤلِمًا. لكن اللهَ نفسَه إختبرَه ورأى أنه السبيلُ الأضمن للحياة، لأنَّه يُجَّسِدُ المحبة الأصيلة الصادقة كمحبة الله. عليه ليس كلُّ لمَّاع ذهبًا ولا كلٌّ معسولٍ عسلاً. يوجد مصقولٌ عسلي يُخبئُ سُمًّا قاتلا، وأصفرٌ يُغَّطي ورقًا. فمِثْلَ المسيح رأى بولسُ أن أمجادَ الدهر وراحةَ الجسد ولذّةَ الحسِ خادعةٌ لأنَّها زائلة تبعًا للزمن. فحَسَبَها كلَّها ” نفايةً” (زِبلاً!) مقارنة بالمجد والراحة واللذة التي يضمنها المسيح لمن يتبعُه على درب الصليب. وكم مُضطهِدٍ للمسيح، مثل بولس، إنقلبَ الى تلميذٍ وتحَّملَ العذاب من أجله بعد ما رأوا مجدَ الشهداء وذاقوا راحة الضمير والنفس مع المسيح. لذا يدعو الرسولُ المؤمنين بالمسيح ألا ينخدعوا بمظاهر الحس بل أن يُمَّيزوا بين الخيرات الحقيقية الأبدية وبين الزمنية المُزَيَّفة، وأن يُقَدِّروا محَّبةَ المسيح وإرشادَه لهم، وأن يثقوا به ويتبعوه في درب الضمير المستقيم.   

تـدبـير !

ذكر الرسولُ ايضًا أن المؤمن، ما دام في حياة الزمن، لم يبلغ بعدُ الهدف، بل يسعى إليه. هو في جهاد مع الزمن ومع ما يُخبِئُه في بطونِه. وهذا قد يُنهكه ويدفعه الى التوَّقف عن الجهاد، لأنَّ أمورَ الدنيا تُغريه أكثر فينزلقُ وراءَها. هنا يدعو الرسولُ المؤمنَ أن ينظر إلى يسوع: كم جاهد وحاربَ وصارع حتى تغَّلب على الشر وعملائِه فحَرَّرَ الأنسان عن قبضة ابليس عدُّوِه. تكلَّفَ مأساةَ الصلب، موتَ اللعنة والعار. يسوع عرف دربه وسار فيه دون تردد. لم يتخاذل عن الحق والبر. لم يعتبر ما يصنعه أعداؤُه، بل ظلَّ يتطلع الى هدفه، يثبتُ في دعواه، ويصمد في جهاده، سالكًا طريق محبة البشر والله والطاعة لكلامه. ونعرف كيف لم يخذله الله بل نصَّره بقيامته وإضفاءِ المجد عليه. دفع عنا الثمن فآشترانا (1كور6: 20؛ 7: 23) ليُشركنا في مجده (يو17: 22-24).

على هذا الرجاء عاش بولس وبشَّر وجاهد مُقَّدِرًا خُطَّة الله وعملهُ و وعدَه، ويدعونا أن نقتديَ به لأنه هو إقتدى بالمسيح (1كور11: 1) فشاركه آلامه وتشَّبه به في موتِه (في3: 10)، ويُصَّرحُ : ” جاهدتُ الجهاد الحسن. أتممتُ شوطي. حافظتُ على الأيمان. فالآن ينتظرُني إكليلُ المجد الذي يُجازيني به الرب الدَّيان العادل في ذلك اليوم. لا وحدي. بل جميعَ الذين يشتاقون الى ظهورِه ” (2طيم4: 7-8). دبَّر بولس حياته على طراز حياة المسيح وشارك مجدَه.

فالأسرار والعبادة والحياة المسيحية الروتينية ليست لا كمالا بلغناه ولا سعيًا أنهيناهُ، بل هي بداية الطريق وقوته. والجهادُ في الأمانة للمبادئ الأخلاقية والثبات على تعليم المسيح هي إمتدادٌ إلى الأمام وضمانُ بلوغ الهدف. والمحبة من كل القلب هي مفتاحُ الجهادِ وغذاءُ الصمود. إِذًا فلنواصِلْ سيرنا حيث بلغنا مع الحذر من روح العالم ومن تعاليمه، والأستنارة بكلام الرب و الأقتداء بسلوكه النموذجي لاسيما بـ ” تدبير” شؤوننا كمسافرين يسعون للهدف الأبدي.