هل يَعكُسُ الكتابُ الترتيبَ التأريخي للأحداث ؟

أهلا وسهلا بالأخ سـالم شــابو

قرأ الأخ سالم لوقا 4: 16-37 حيث ذكر أول حضور علني ليسوع في الناصرة بعد عماذه ، وهو الأخير أيضا، وقد انتهى بمحاولة قتله فيها لكنه فلت من أيدي مناوئيه. لاحظ القاريء الكريم أنَّ لوقا قد غيَّر التسلسل التأريخي للأحداث كأنه سبَّقَ بعضها على غيرها فتساءَلَ:

@ :- هل ما فهمه هو صحيح ؟

@@ :- لماذا هذا الترتيب العكسي للأحداث في الكتاب المقدس ؟

@@@ :- هل كتب الرسول لوقا الأنجيلي أحداثَ الناصرة قبل أحداث كفرناحوم ، لماذا ؟

إصنع هنا ما صنعته في كفرناحوم !

نعم لو قرأنا مرقس 1: 16-45 لرأينا أن ما ذكره لوقا في 4: 31-41 يسبقُ مجيء يسوع الى الناصرة. ذكر مرقس أن يسوع رجع بعد عماده الى الجليل وآلتقى بطرس ورفاقه الصيادين على ضفاف بحيرة طبرية ثم ذهب الى كفرناحوم حيث قهر الشيطان بطرده الروح النجس من رجل ممسوس ، وبعده شفى حماة بطرس ، ثم أجرى أشفية عديدة وطرد شياطين كثيرين وآنتقل بعده الى بقية مدن وقرى الجليل يبشر فيها. والناصرة قرية في الجليل تقع على جنوب غرب كفرناحوم على بُعد حوالي 35 كم. ويشفي في إحدى المدن أبرصا ، ذكره لوقا في 5: 12-16، ثم يعود الى كفرناحوم محطة إقامتِه، ويوافقه لوقا في ذلك.

مع ذلك يلاحظ القاريء ،عند قراءة دقيقة ومنتبهة، بأنَّ لوقا لم يقل بأنَّ تلك الأحداث وقعتْ بعد مجيئه الى الناصرة. بل نوَّهَ حرفيا أنَّ يسوع باشر كرازته في الجليل قبل الناصرة وأنَّ ما فعله هناك نال إعجابَ الناس فمجَّدوه (لو4: 14-15). وبعدما أبدى مواطنوه إعجابهم به (آية 22 )، أخذوا يستنكرون عليه عِلمَه وخِطابه فقالوا ” أ ليس هو ابن يوسف”؟(آية 23). عندئذ فضح يسوع نياتهم المشكوك فيها ، كانهم لا يُصَّدقون كلامَه، وكأنهم يطالبونه بأن يُبرهنَ ” أمامهم ” على إمكانياتِه وعلى أنَّ ما سمعوه عنه صحيحٌ.

لماذا هذا الترتيب المعكوس ؟

ذكر لوقا في بدء إنجيله أنه ، أولاً : ” تتَّبعَ” رواية أحداث حياة يسوع ، من قول وفعل، كلها من أصولها ، أى حاول ليعرف بالتفصيل الدقيق كيف تمَّ ما روى الشهود عن يسوع ، ليتـيَّقنَ القاريء صحَّة ما يتلقى المؤمنون بيسوع من تعليم ؛ وثانيًا : ” كتبها مُرَّتبَةً ” ، أى لم يتقيد دوما بالتسلسل الواقعي بقدر ما نظَّمَ كتابة سفرِه ليُحَّققَ الهدفَ المنشود ألا وهو ثقة القاريء ومعرفته تعليم يسوع أكثر من تفاصيل ثانوية تخص مجرى الأمور رواها هذا أو ذاك دون أن يكون لها تأثير على حقيقة حياة يسوع. على ما يبدو قرأ لوقا فكر يسوع بأنَّ أحداث قبل الناصرة ليست مهمة لذاتها بقدر ما هي مهمة لتفسير ما حدث في الناصرة.

كان طبيعيًا ان يعود يسوع ، بعد عماده، الى بيته في الناصرة ثم ينتقل الى كفرناحوم وهي مركز تجاري وثقافي أهم من الناصرة. لكن يسوع أدرى بأهل بلده. فعبر اولا الى كفرناحوم حيث باشر كرازته وأجرى معجزات ليجلب إنتباه الناس وآندهاشهم ويُثبت بطرس ورفاقه في صداقتِه. وهذا الخبر ينتشر بسرعة البرق لأنه يُنعشُ رجاء المنتظرين خلاصَ أسرائيل ويشدُّ ثقة المؤمنين به. وبالتالي يُثيرُ عنصرية الناصريين ويكشفُ عدم أهلية البيئة لكرازة يسوع. فيجعل لوقا إنتقالَ يسوع من الناصرة أمرا لابد منه لسلامةِ رسالتهِ.

هذه حالة واحدة في الكتاب. ربما توجد حالات أخرى شبيهة لها. إنما ليس الكتاب المقدس كله ، بكل تأكيد، بهذا الشكل. ثم في حالتنا هذه لا يعكس لوقا الوقائع بقدر ما يقرأها في الموضع الذي فيه يلمع بريقها أكثر ويؤدي مفعولها الى نتائج أفضل. خاصّة وأنَّ الأنجيل ليس تقريرًا صحفيا لحرفية الأحداث. بل هو نقل فحوى بشارة يسوع الخلاصية من خلال أحداث حياتِه وشهادة حياة المسيحيين الأوائل، كيف إفتهموا المباديء المسيحية وكيف حافظوا عليها. إنَّ هدف لوقا الأول والأخير يبقى ، كما حدَّده، ” ان تتـيقَّنَ صحَّة ما تلقيتَه من تعليم” ، لا من تاريخ. هذا إذا لم يكن هو مدفوعًا بنزاهة علمية أدَّقَ من مرقس ومتى اللذين إستشارَهما من كل بد، لسرد الأحداث كما وقعت حتى لو لم يهضمها منطقنا البشري. يتبع الأنجيلي المنطق الألهي الذي يوحيه اليه الروحُ القدس.

أكـتبُها لك مُرَّتـبةً !

يشبه الأنجيل بناءًا يُخطط له ليُؤَّديَ غرَضَه. مثل مهندس جمع لوقا مادَّته ، أخبارَه وشهادات الرسل والتلاميذ والمؤمنين الآوائل مثل اسطيفانوس وأمثاله عن أقوال يسوع وأفعاله. ورسم مخططا من أين يبدأ وبماذا ينتهي وكيف ينسجُ اللحمة بين الأجزاء. يجب أن يأتي سِفرُه مرآة تعكسُ بأمانة ونزاهة حقيقة شخصية يسوع وفحوى رسالتِه. لوقا ليس رسولا – رغم اللقب الذي عزاه اليه صاحب المقال!- فلم يرافق يسوع أثناء حياته على الأرض ولم يعرفه عن قرب ليشهد له مباشرة. ولأنه ركَّز على خبر الناصرة ، وحده من دون الآخرين، فلم يهتم بأن يُبرزَ أولا ما قبلها. لأنه لايهمه ما قبلها أو ما بعدها. يهمه أن يبرزَ ما ذكرنا أعلاه ، وهذا ضمن خطته لنقل بشرى الخلاص، حدثا رأى فيه ما لم يره غيرُه أو لم يُعيروا له إهتماما مثل ما إهتم به لوقا الغريب عن فلسطين ،ألا وهو،” لا يُقبلُ نبّيٌ في وطنِه “(أية 24). وقد إختبرَ لوقا بنفسه هذه الحقيقة في سفراته التبشيرية مع بولس حيث كانوا يتجهون أولا الى المجامع اليهودية لتبشيرهم بالخلاص المنتَظَرلكنهم لقوا الرفض والطرد بل حتى الأضطهاد!. وينقلُ هذا التعليم ، بالهام ٍ من الروح، ليُحَّذرَ كنيسة المستقبل من مغبةِ التطرف بالأنحيازإلى أبعاد بشرية قومية أو نفعية للرسالة.

لمــــــاذا ؟

ربما قصد لوقا بذكر خبر الناصرة قبل خبر كفرناحوم للدلالة على أنَّ حقيقة يسوع ورسالته لقيتا منذ البداية رفض من كان يجب أن يكونوا أولَ المؤيدين له والمدافعين عنه. أجَّلَ لوقا هذه المعلومة الى بدء الرسالة في حين جعلها متى حالا بعد ولادة يسوع حيث تنكَّرَ له هيرودس وآضطهده محاولاً قتله ، بينما عانى المجوسُ الغرباء مشقات السفر آتين من بعيد ليعترفوا به ويِسجدوا له (متى2: 1-18). الحقيقة سطعت كالنور، والبِرُ نبع كالماء لكن الناس الأشرار أبغضوها ورفضوها” وآستحبوا الظلام على النور لأنَّ أعمالهم سيئة “، ولا يريدون أن يفضحها النور أو يغسلها الماء النقي، كما شهد إنجيل يوحنا (يو3: 19-20).

هذا ما يريدُ الأنجيليون إبرازه. وهكذا في بقية فقرات الأنجيل وأخباره ، كان عند لوقا أومتى أو يوحنا. مرقس وحدَه يبدو أنه ينقل كرازة بطرس محافظا أكثر من البقية على سياق الأحداث.

القس بـول ربــان