لـوقا 12 : 49 – 53

أهلا وسهلا بالأخ وليد ريحاني

قرأَ الأخ وليد النص المذكور، وهو :”جئتُ لأُلقيَ نارًا على الأرض، وكم أَتمَّنى أن تكون آشْتَعَلَتْ!. وعليَّ أنْ أَقبَلَ معموديةَ الآلام. وما أَضيقَ صدري حتى تَتِّمَ. أَ تظُنّونَ أنّي جِئْتُ لأُلقيَ السلامَ على الأَرضْ؟. أَقولُ لكم : لا، بل الخلافَ. فمِنَ اليوم يكونُ في بيتٍ واحدٍ خمسةُ. فيُخالِفُ ثلاثةٌ منهم إِثنين، وآثنان ثلاثةً. يُخالِفُ الأبُ إِبنَهُ ، والآبنُ أَباهُ، والأُمُّ بِنتَها والبنتُ أُمَّها، والحماةُ كَنَّتَها وآلكنَّةُ حماتَها “. ثمَّ طلَبَ :” توضيحَ هذا النَّص، حيثُ يظهرُ فيه نوعٌ من التناقُض “.

إطار الحديث !

يُوَّجهُ يسوع تعليمَه إلى تلاميذه. مضت سنتان وأكثر يُثَّقفُهم فيها. إقتربت النهاية وعليهم أن يهضموا تعليمه بعمق. لأنَّ عليهم أن يعيشوهُ ويثبتوا عليه شهادةً له. سوف يُواجهون ظروفًا قاسيةً، وعليهم أَّلا يتخاذلوا بل يصمدوا في الحَّق الذي أخذوه منه وينشروه في العالم. الحَّق الذي من أجله جاءَ الى العالم ليُقَوِّمَ أسلوبَه السقيم. لقد جاءَ ” يُنَّقي بيدَرَهُ ” (لو3: 17) من زؤان الشَّر الذي كاد أن يستفحلَ ويُفسِدَ البشرية، وعلى رسله أن يقودوا الجهاد.

جِئتُ لأُلقي نارًا !

خدع ابليسُ آلأنسان من البداية فتبعَه، فضاعَ الحَّقُ، وآستعبد ابليسُ الأنسانَ. فكشَفَ يسوع أمام بيلاطس أنَّه : ” ولدَ وجاءَ الى العالم ليشهدَ للحَّقَ ” (يو18: 37)، ويُعيدَه لساحةِ الحياة ويُحَرِّرَ بهِ، مَن يتَقَّيدُ بتعليمه، مِن نير الخطيئة الذي قَيَّدَه بها ابليس (يو8: 32-36). والحَّق ” نارٌ” يمتحنُ كلَّ  واحد (1كور 3: 13) ليدينَ أو يَغسلَ فيُنَّقي. نارُ الحَّق تكشفُ شرَّ الناس  المنافقين، و تُحرقُ الزؤان (متى 13: 30) وتكوي الأشرار في” بحيرة النار والكبريت ” (رؤ21: 8). ونفسُ نارُ الحَّق تُحرقُ خطيئة الأنسان الأصليه بمعمودية ” الروح القدس و النار” ( لو3: 16)، وتغفرُ الخطيئة الفعلية لمن يتوب (يو20: 22؛ 12: 10؛ أع1: 38 ؛ 20: 21).

يريدُ يسوع أن تشتعل تلك نار الحَّق بأسرع وقت. إِنَّه متلَّهفٌ جِدًّا ومضطرمٌ بناره لتحرير الأنسان من ظلام الضلال. وحتى تتمَّ، عليه أن يُضَّحيَ بحياته شهادةً عن الحَّق،” ان يتعمَّد بآلآم موته ” فِداءًا عن الضّالين، لتُشرق عليهم شمسُ الحقيقة وتنير حياتَهم. رفضَ يسوع إِتّباع شر العالم، وقَبِلَ بالصلبِ البديل ليُضيءَ نورُه للعالم (يو9: 5). وعلى التلاميذ ان يُصبحوا هم أيضًا، بحياتهم، نورًا للحق في العالم (متى5: 4). فيجب أن تضطرم فيهم أولا تلكَ نارُ الحق، فيفهموا أنَّ طريق المجد تمُرُّ بآلام الصلب.

لا السلام !!! بل الخلاف !!!

هنا تناقض لفظيٌ لم يهضمْه السائلُ الكريم. إنَّ السلام يُبنى أساسًا على جذور الحَّق والعدل والمحَّبة. فكيفَ لا يريدُ يسوع سلامًأ ؟. هو الذي دعاهُ إشعيا ” رئيسَ السلام .. مملكته في سلام دائم .. يُثَّبتُ أركان مملكته على الحَّق والعدل، من الآن والى الأبد” (اش9: 5-6). حيَّا تلاميذه بعد القيامة ” سلامٌ عليكم” (يو20: 19). كما وَدَّعَهم قبل الآلام قائلاً :” سلامًا

أترُكُ لكم. سلامي أُعطيكم”، وأضاف ” لا كما يُعطيه العالم أُعطيكم أنا ” (يو14: 27). و

ختم توصياته للتلاميذ بأنَّه أخبرهم بآلامه لأجل الحق، وبما سيُعاينون من الضيق هم أيضًا

في العالم ” ليكون هذا كلُّه لكم سلامٌ بي” (يو16: 33). ما معنى الخلاف إِذن؟.

لنتذَّكرَ أنَّ التلاميذ يهودٌ. وأنَّ شعبَهم عانى من وعود كاذبة بالسلام من قبل أنبياء كذبة وكهنةٍ منافقين ” يمارسون الكذبَ وأعمال الزور”، فضحهم إرَمْيا النبي :” يُداوون جراح شعبي بآستخفافٍ، يقولون : سلامٌ. سلامٌ. وما من سلام ” (إر6: 14 ؛ 8: 11). كما لا يخفى عنَّا أنَّ المعاهدات والأتفاقات العالمية بين الشعوب لا تطول ختى تنقلبُ حِبْرًا على ورق، أو تُنقَضُ علَنًا ورسميًا. تمت إتفاقية الجزائر سنة 1975 بتقسيم شط العرب بين ايران والعراق، لضرب ثورة الأكراد. ولمَّا آنحَلَّت الثورة خرق العراق المعاهدة فقامت الحرب بين ايران والعراق، راح ضَحِيَّتَها ملايين الشهداء. وسنة 1994 سلمت أوكرانيا سلاحها النووي الى روسيا ، بضمانة روسيا نفسها مع ألمانيا وبريطانيا بالدفاع عنها وحمايتها. وبعدَ عشرين سنة إحتلت روسيا جزيرة قرم وهي جزءٌ من أوكرانيا، وقبل ستة أشهرغزت روسيا أوكرانيا كلَّها. هذه هي المواثيق السلمية بين البشر. لا حقُّ يُحترم ولا عدلٌ يُصان. يحاولُ الباطلُ بآسم” السلام” أن يسودَ العالم، ويدفع الأبرياءُ والضُعفاء ثمن تهَوُّر القادة وعمى قلوبهم.

أمَّا يسوع فلا يطمئن إِلى هذا ، ولا يريدُ سلامًا يبنى على أشلاء الآخرين. يريد أن يسود الحَّقُ والعدلُ مهما كلَّف من تضحية للصمود فيه. وأعطى المثل بصموده على الصليب من أجل رفع كلمة الحَّق، ووَصَّى تلاميذَه ألا يُقاوموا الشَرَّ بالشر” (متى5: 38-39). وطلبَ منهم أيضًا أن يقبلوا بالتضحيةِ للثباتِ في الحَّق. يقول العلاَّمة فغالي ، تعليقًا على النص، ” على من آمنوا بيسوع أن يُضَّحوا بعلائق عزيزة على قلبهم”. وهذا ما عنى به لوقا بالخلاف عوض السلام في بيتٍ واحد. من يؤمن بيسوع ويلتزم بكلامه لا يقبل مساومةً بين الحقِّ والباطل. إِذ لا ” صلة بين الخير والشر. ولا علاقة للنور بالظلام… ولا شركة بين المؤمن وغير المؤمن ” (2كور6: 14-15). ومن لا يؤمن بيسوع لا يهُّمه الحق ، بل يُحاربُه من أجل منفعته. أما خان يهوذا معَّلمه وسلَّمه للموت من أجل حفنة دراهم ؟؟.

يسوع هو حجر زاوية الحق والسلام !

أصبح شخصُ يسوع وتعاليمُه سببًا للآختيارِ بين الحَّق والباطل. الحَّقُ دستور الحياة ويسوع يرفُضُ الباطلَ وأتباعه. يسمح بتواجد الشَّر مع الخير في حقله إحترامًا لحرية الأنسان ، و لإعطائه فرصة الإختيار، لكنه يريد بيدَرَه نقيًا خاليًا من كل زؤان. لذا رفضَ مساواتَه مع أعداء الحق ، فقال :” من يُحِبُّ أبًا أو أُمًّا أكثر مني (مفضّلين مبادي العالم) لا يستحقُني .. ومن لا يحمل صليبَه و يتبعني لا يستحقني” (متى10: 37-38). فمن يتبع مباديءَ العالم وتغريه خيراتُه وأمجاده لا يتذكَّرُ السلام لأنَّه يفقدُ الشعور بالمحبة والحق و العدالة، حتى باتَ ” الأبُ يقتُلُ إبنَه وآلأبنُ أباه .. ويُبغِضُكم الناسُ من أجل إسمي” (متى10: 21-22). وقد عاصرنا مشاهد من هذا القبيل من قريب لمَّا كانوا يقتلون المسيحي على الهوية!. ولم ننسَ في الحرب مع الأيرانيين كم والدٍ وشى بإبنه الهارب من الموت، وسَلَّمه الى الدولة لتُكَرِّمَ الدولةُ الوالدَ عَلَنًا وتُغرقَه بالمال وتُهديه سيارةً ثمنًا عن دم الأبن!. لم يطلب أولئك القتلة حَّقًا يُبنى على السلم والتآخي، بل فضَّلوا سفك الدماء لمنفعةٍ ومجدٍ زمنيين زائلين. فقام خلافٌ بينهم وبين الصامدين على الحق وآلبِّر، المُعترضين على الموت وآلمَآسي.

مع المسيح! بدأ الجهادُ من أجل الحق ولن يتوَقَّف، وعلى كلِّ آلمستويات، تقوده الكنيسة عبر الأجيال الى نهاية الدهر. الحَقُّ سيعلو ببطئ، ولن يسقط، لأنَّ يسوع قد غلب العالم (يو16: 33). ولا يليقُ بمن آمن بالمسيح أن يتخاذل ويُضَّحيَ بالحَّق، من أجل أي كان، حتى لأعَزِّ إنسان، ويتبع الضلال. بل عليه أنْ يتهَيَّأ للتضحية فيدوس على مشاعره وحتى على مصلحةٍ دنيوية ، لينعم بسلامةِ الضمير وراحةِ القلب ، وهذا هو السلام ، مُنتظِرًا المجد الآتي مع المسيح (يو17: 24). كان يسوع حاملاً صليبَ الظلم هادئًا شاهدًا للحَّق، يُسَّلي النساء اللواتي كن يبكين على براءَتِه. وتَمَّجد هو في الحٌق ، بينما ذُلَّ أعداؤُه ولم يرتح لهم البال.

هذا الصراعُ بين الحق والباطل، للشَّدِ على الخير وإِذلال الشَّر، دعاه مار لوقا خلافًا، ومار متى سيفًا (متى10: 34). ولا تناقُضَ في كلام الأنجيل بقدر ما هو دعوة الى السمُّو دومًا في سلوك طريق الحق والبِّر، وآلإِتّكال على الرب الذي وعد” أنا معكم إلى آنقضاءِ الدهر”.