الكلــدان والآشـــوريون !

أهلا وسهلا بالأخ أنـور حـنا.

نتيجـة حوار دار بينه وبين صديق سأل الأخ أنور ما يأتي :

1- هل الكلدان والآشوريون هما عِرقٌ واحد أم عرقان كما يبدوان الآن ؟

2- هل الكنيسة المشرقية تبَّنت بكاملها النسطورية ، أم انقسمت من ذلك الحين ؟

3- كيفَ تَّـمَ الآنقسامُ فيها ؟ أم هل كان منذ البـدايةِ شّــقانٌ للكنيسة ؟

الواقـع القـومي !

يدور الحديثُ كثيرًا في السنين الأخيرة عن القوميات ، وتحتدمُ الجدالاتُ أحيانا حتى تصل الى التنافر والفرقةِ. والسببُ قيامُ أحزابٍ سياسية متناحرة لا تتّفقُ على أهدافِها ولا على خططها ، وهذا أيضا نتيجةَ إنتماءِ كل حزبٍ الى جهةٍ دولية ترعاهُ وتستخدمُه لمصالحها. فيتصارعون بينهم لنيل سبق القيادة ضاربين عرضَ الحائط الحقائق التأريخية ، وحتى يتغاضون عن الوقائع والثوابت الأرضية إذا عارضت أهدافهم وسياستَهم.

والأخطرهو محاولة جّر الكنيسة وقادتها الى هذا الصراع للأستفادة من هيمنتها ونفوذها على الشعب المؤمن. فتلونت التُهم وتضاعفت المبررات لكل طرف ليُزيح الآخر ويستفرد بالحكم. فإذا إقتضت المصلحة نادوا بأنَّ الكلدان والآثوريين قومٌ واحد وكنيسة واحدة، وأن الآثورية أو الكلدانية هي الجذع الأصيل والأخرى نابعة منها أوخارجة عن الطريق. وأما إذا كانت مصلحتهم في الفرقة لضمان السيطرة أو نيل المناصب فعندئذ كلُ واحدة قائمة بذاتِها. و يريدون إستغلال منابر الكنيسة و وسائلَ إعلامِها للدعاية لأنفسهم. والشعبُ البسيط الجاهل يدفعُ بالتالي الثمن.

المصادر التأريخية !

أما الواقع التأريخي فمختلفٌ كثيرا عن ” الآدّعات “. ولا يجوزُ أخذُ الحقائق التاريخية من مصادر سياسية وحزبية. توجد كتُبٌ تأريخية ذكرت بخصوص الكلدان والآثوريين كتبت قبل مئات السنين ، وحتى آلاف ، أى قبل ظهور الحركات القومية. وأحد أهم المُصَّنفات في هذا الصدد هو كتاب ” تأريخ كلدو وآثور، بجزأين ، ” للمطران أدي شير، لسنة 1912. يبحثُ فيه عن الشعبين ويستندُ في ذلك على مصادرقديمة جدًّا مثل:-

1- أجانب : هيرودوت (ج 4 ق.م) وأكتازياس طبيب الملك إرتحششتا (405-359 ق.م ) و ديودوروس الصقلي (44 ق.م)؛

2- كلدان : بيرس (ج4ق.م)، وأبو الحسن ثابت (أواخر القرن9م)؛

3- أوربيون : هؤلاء أجروا التنقيبات على آثار البلد (1842- 1888م) ثم ألفوا كتبًا في ما تعرفوا عليه ، منها كتاب ” تاريخ الشعوب القديمة ” 1985م لمؤلفه ماسبيرو.

كلـدان وآثـوريون !

هذه الكلمات صفاتٌ أُطلقت على شعوب عاشت في كلدو وآثور، بغضّ النظر إذا كانوا في الأصل ينحدرون من أصل واحد أو لا. أما الأصل فواحد لكل البشرية : آدم الذي عاش في بلاد ما بين النهرين، منطقة الجنة التي كان يرويها دجلة والفرات ونيل وجيحون (تك2: 11 -14). ولم يكن لا قوميات ولا عشائر ولا شعوب ولا أمم. بعده عندما ازدادت البشرية و آنتشرت في بقاع الأرض وتغربت الناس عن بعضها صارت كل جماعة أو شعب يُعرفُ بآسم خاص. وهذا الأسم يَشتقُ من الأرض أو المنطقة التي يسكنونها. وإذا إنتقلت عوائل أو إخوان الى منطقة أخرى لقبوا بآسم شعب تلك المنطقة أوبآسم المنطقة الجديدة التي عمّروها. وهكذا درجت الألقابُ وآختلفت المُسَّميات.

فالكلدان والآثوريون لم يشُّذوا عن القاعدة. المعروف أنَّ إسمَ الكلدان سبق وآشتهر وآنتشر بسبب الدولة البابلية منذ 4000 سنة قبل المسيح. أما إسمُ الآثوريين فلم يشتهرالا بعد سنة 2000 ق.م. بعدما إشتهرت مملكتهم بحضارتها وفتوحاتها وآستقلت عن بابل بعد سنة 1600 ق.م. لاسيما بعدَ أن ورثت أراضي الدولة البابلية وتغَّلبت فحكمت عليها بعد سنة 1290 ق.م. ذكرَ الكتابُ المقدس (تك10: 8-12) أن قوما من بابل في الجنوب غادروها ليستوطنوا الشمال ويشكلوا فيه دولتهم الخاصة. إنه نمرود ابن كوش الذي بنى مدينة آشور جنوب الموصل وهي شرقاط الحالية ومنها بسط نفوذه الى آثور، وهي منطقة الموصل ، حيث بُنيت نينوى ، وعُرفت بآسم آثور في الوثائق الكنسية الى ما بعد سنة 1000م. ثم توسعت الدولة وآشتهرت حضارتها وفنونها أكثر من بابل. وكلُ ما جاءَ في التأريخ بعد سنة 1300 ق.م. يُعزى الى شعب آثور وسُّجل بآسمهم.

وهكذا ليس في العالم غيرُ عِرق واحد : الأنسان. أما التمييزُ بين فئةٍ وأخرى فيعودُ أولا الى المنطقة التي قطنوها ، ثم الى اللغة التي إستعملوها. فإذا كان في الجنوب يُسَّمون بالكلدان و في الشمال بالآثوريين لكن لغتهم كانت واحدة. والكلدان والآثوريون منقسمون اليوم الى مئات الأجزاء نسبة الى العشيرة أو المدينة أو حتى اللهجة المحكية. فهل تُشَّكلُ كل عشيرة عِرقا مختلفا؟ أكيدا لا. وماهو الشيء الذي لا يزال يوَّحدُ بينهم سوى الأرض أو المنطقة.

الكنيسة المشــرقية والنســطرَة !

لا علاقة للكنيسة المشرقية بنسطوريوس بطريرك قسطنطينية. حُرمت أفكارٌ لاهوتية نُسبت اليه وخذله أساقفتُه الذين إشترى منافسُه ذِمَمَهم. فآستصعبَ الأمر. حتى تفضيلُه تسمية مريم العذراء بأم المسيح عوضًا عن أم الله كان ذلك مفتوحًا للنقاش. لكنَّ أعـداءَه أرادوا التخَّلصَ منه كيفما كان فعُزل عن منصبِه ومات منفيا في مصر لكنه خاضعٌ للكنيسة. وحَّزَ هذا كثيرا على أساقفةِ الشرق لاسيما كنيسة أنطاكية والمدائن. وقد سقطت أفكارُ مناوئيه سريعا إذ بعد عشرين سنة من عزلهِ أثارت كنيسة مصر عاصفة لاهوتية جديدة عُرفَت بـ ” المونوفيزية ” أدَّت الى إنفصال كنيسة الأقباط والأرمن والروم من جسم الكنيسة الأم. كان ذلك سنة 451 م. وأخذ المنفصلون يدعون المؤمنين الى مذهبهم لاسيما في مناطق كنيسة المدائن. وقامت بين الجماعتين مشاحنات وصراعات. وفي هذا الجو المشحون بالعداء وكسب المؤمنين برزت الى السطح آراءُ نسطوريوس الخاصّة وتتلمذ لها كثيرون من الأساقفة ورأوا أن أفضل حماية لأنفسهم هي تبني تلك المباديء ومقاومة المد ” المونوفيزي”. وبتحريض من برصوم مطران نصيبين أعلنت كنيسة المشرق رسميا سنة 485 م قبولها لآراء البطريرك نسطوريوس. وهـكذا سَّماها المونوفيزيون بـ ” النسطورية “، رغم إعتراض قادتها على هذه الكنية. فالكنيسة كلها تبنَّت هذا الموقف ولم يتم أي إنقسام فيها.

متى وكيفَ تمَّ إنقسامُ كنيسة المشرق !

تبَّوَأَ كرسي البطريركية سنة 1437م شمعون الرابع باسيدي وتوفي سنة 1497م. وفي عهدِه تم توريث المنصب البطريركي. إتخذَ قرارًا بأن البطريرك لن يُنتخَبَ بعد. بل عندما يموتُ البطريرك يخلفُه أحدُ أبناءِ أخيه لتبقى البطريركية وراثية ضمن عائلة بيت أبونا وحدَها. قَبِلَ الأساقفة بالأمر لأنَّ أكثرية رؤساء الأساقفة كانوا من نفس العشيرة. إعترضَ عليه فقط أسقف قبرص ورفض الأعترافَ بشمعون الخامس ، وتحَّوَل الى الكنيسة الكاثوليكية بشكل رسمي ، وكُّنِيَ بالكلداني تيَّمُنا بإيمان ابراهيم. و بدأت الضمائر تستيقظ رويدا رويدا. كيف يجوز أن يرثَ الحفيدُ عمه في المنصب ، خاصّة وإذا لم يكن مؤهلا؟. وآنتشر الأستياءُ. وأصبحت أبرشيات عديدة شاغرة لسبب عدم وجود أساقفة ينتمون الى نفس العشيرة. لم تفلح الأعتراضات والمطالبة بالإصلاح. لم يعُد الموقفُ يُطاق. وفي سنة 1551م عند وفاة البطريرك إنقسم الأساقفة بين مؤيد للوراثة ورافضٍ لها. أعلنَ الوراثيون مرشحهم : شمعون الثامن بطريريكا. رفضه المعارضون ورفضوا الأنصياع له. كانوا ثلاثة أو أربعة أساقفة. فآجتمعوا بينهم في الموصل مع ممثلين عن الأبرشيات الشاغرة وآنتخبوا رئيس دير ربن هرمز بطريركا بآسم شمعون الثامن سولاقا ، وهو كاهن بسيط. أرسلوه الى روما مع وفدٍ ورسائل من الأساقفة وممثلي الأبرشيات ، يُبَّينون فيها رغبتهم وقرارَهم بالعودة الى حضن الكنيسة الأم. هناك بعد مناقشات طويلة وآتفاق إستقامة الأيمان الكاثوليكي بين الطرفين رسمَه البابا أسقفا ثم بطريركا ، وعاد فجلس في دياربكر من حيث أدار الكنيسة الجديدة الفتية بآسم ” بطريركية بابل للكلدان “. كان ذلك سنة 1553م. وبعدَ سنتين تآمرعليه البطريرك النسطوري وحَّرضَ عليه آغا العمادية فقضى عليه.

وبعد مائتي عام قام البطريرك شمعون 13 (1662-1700) الكاثوليكي بخطوةٍ معاكسة فرجع الى النسطرة. وأصبح للنساطرةِ خطان بطريركيان متوازيان. في حين قادَ الفرعَ الكاثوليكي البطاركة يوسف الثاني (1696-1712) ثم الثالث والرابع والخامس (1804- 1830). في عهد يوسف الخامس أظهريوحنا الثامن هرمز بطريرك الخط الرئيسي الأصلي رغبته في الأنضمام الى الكنيسة الكاثوليكية. وقُبِلَ رسميا سنة 1830م ودام حتى 1838م.

هكذا رجع الخط الرئيسي الأول وأستمرَّ، الى يومنا ، ينتخبُ خلفاءَ البطاركة على القاعدة الأيمانية. أما الخط الذي إبتدأ كاثوليكيا سنة 1551م فعاد الى النسطرة والى الوراثة حتى سنة 1975م عندما توفي البطريرك شمعون 21 ايشاي فعادوا الى الأنتخاب. وكان أول بطريرك نسطوري يُنتخب مار دنخا الرابع سنة 1975م. ولكن سبق هذا التغييرَ إنقسامٌ آخر في كنيسة المشرق النسطورية سنة 1964، وأقامت جماعة جديدة خطًا بطريركيا جديدا بآسم ” كنيسة المشرق الجاثاليقية القديمة ” ، يترأَسُها حاليا ثاني بطريرك منتخَب هو مار أدي الثاني.

يشهدُ على وحدةِ الشعبِ والكنيسة ، بين الكلدان والآثوريين ، لُغتُهما المشتركة وكذلك طقس العبادة من القداس والى الرمش عبورا بأسرار المعمودية والزواج والدفنة. التسمياتُ ليست سوى شكلية. ما يُفَّرق هو أعمق من ذلك. إنه العمقُ الروحي المطلوب والتعَّلقُ بالمسيح المفروض فوقَ كلِ قيمةٍ آخرى. يقول مار بولس أنهُ لا توجد ، ولا يجوز أن تبرزَ، قوَّةٌ في العالم ، تفصلنا عن المسيح أى تتفـوَّق على إيماننا وتفضلينا يسوع على كل مصلحةٍ أخرى : ” لا شدَّة ولا ضيق ولا آضطهاد.. ولا خطر ولا سيف ” (رم8: 35). الأحزابُ تنتهي والسياسة تفنى والمصالح الدنيوية تزول والأشخاص يموتون ، وحتى الأرض تتخَّلى عنا. الوحيد الباقي والذي يُحّبنا وينفعنا هو المسيح.

القس بـول ربــان