ظهرت في وسائل التواصل الأجتماعي أسئلة عن ماهية هذا النور وطلبوا آراء قُرّائِهم ، و لاسيما معلومات عنه لدى العارفين. وبعضُهم أَلحَّ، لغايةٍ في نفِسِه، عن معرفة آراء الآباء الكهنة الكاثوليك. وأنا شخصيًّا قد تحدَّثتُ عنه في الفيس بوك مرّاتٍ عديدة، وجاوبت بآختصار على كثيرين. لكنَّ شعبَنا الكريم إذ لا يُتعبُ نفسَه ولا يُضَّيعُ وقتَه المنشَغِل بأمور أخرى ويريدُ أن يأخذ جوابًا قصيرًا وسريعًا يُشفي غليل فضوليته لا أكثر، فيسألُ ساعة الساعة لينال مأرَبَه ثم ينسى المعلومة سريعًا، لذا أحاولُ أن أنقل الى القُرّاء الكرام خبر هذا النور في جذوره التأريخية وإنتهائِه بمظاهر عصرنا.
رتبة النور في طقس أورشليم !
كانت تجري، ليلة القيامة، رتبة العماد للموعوظين، ودُعيَ ذلك السبت بـ” سبت النور” لأنَّ العماد رمزٌ للعبور” من ظلام الخطايا الى نور الحياة ” هذا ما قرأته لكم في كتاب ” روعة الأعياد “، للأب منصور المخَّلصي، 1984م. وأقرأ لكم فيه أيضًا ما يلي : ” في طقس أورشليم ـ القرن الرابع/الخامس ـ تبدأُ صلاة المساء ـ عشية العيد وفي الكنيسة الكبرى ـ برتبةِ النور. كان الأسقف يُشعل النور ويرتل مز 113 “هللويا. هللوا يا عبيد الرب. هللوا لآسم الرب..” . ثم ” على مثال رتبة النور المتعلقة بصلاة المساء أُقيمت أيضًا رتبةُ النور في قُبَّةِ القيامة “، وفي نهايتها ” يأخُذُ الأسقف النور من القبر المقدس ويشعل به شموع المؤمنين ويذهبون إحتفاليًا بمسيرة بسيطة تبدأُ من قُبَّة القيامة ـ كنيسة القبرـ الى الكنيسة الكبرى لنقل النور الذي أخذه الأسقُف من القبرِ المُقَّدَس”. ثم صار نورُ السبت ” يرمزُ الى المسيح .. فالنور الخارجُ من القبر يرمز الى المسيح المُنبَعِث من ظلام الموت (لأنَّ داخل الكنيسة ظلامٌ إِذ أُطفِئَت الشموع أو لم تُشعَل بعد !)”. وأصبحت تلك الرتبة ” النور الحقيقي الذي أشرقَ على العالم”. وكان النور الفصحي يظهرُ ” بعد إنتظار طويل، ودوراتٍ حول القُبَّة أو القبر، والأبوابُ مُغلقة، ذلك إستعدادًا وطلبًا لينزل النورُ من السماء”. لأنَّ الشعبَ إعتبرَ النور نازلاً من السماء، فيتأخر في النزول ليكون الناس مُستحَّقين له. في حين يُشعل البطريرك شمعته من قنديل القبر. وعندما يخرج الأسقف من القبر مع النور يرتلون نشيد إِشَعيا ” قومي استنيري فقد وافى نورُكِ. ومجدُ الرَّب أشرقَ عليكِ ..” (60: 1..”). وكان المؤمنون يُشعلون شموعًا خاصَّة بهم من هذا النور” العجائبي” بركةً لهم. و هنا يُضيف الكاتب ” لكنَّ روما لم تقبل بهذه الرتبة إلا متأَّخرًا” !.
فـرتبة النور” تُعَّبِرُ عن سِرِّ القيامة بطريقةٍ رمزية شعبية منظورة، ثمَّ أصبحت رتبةً مهمَّة ـ بذاتها ، أكثر فأكثرـ على حسابِ سهرةِ القراءات”. ويقول الكاتبُ” لقد تطَوَّرَ طقس أورشليم نفسُه، من خلال مراحل عديدة وتحت تأثيراتٍ مختلفة، منها: الأهتمام بمكان القبر التأريخي ، والأيمان الشعبي بنور القيامة العجيب، وطقس الرهبان من دير مار سابا ..”.
مقالة في الأنترنت !
قرأت أمس مقالةً في الأنترنت للسيد ناثان دفير، مراسل مجلة “National Geographic “عن الأحتفال بـ “نور القيامة ” في القدس قبل يومين، في ظل أزمة كورونا وقارنه بآحتفال
سنة 2017م ويُعطي معلومات تأريخية تغني معلوماتنا. يقول بأنه في سنة 1009م هُدِمَت كنيسةُ القبر على يد حكام المنطقة، لأنَّ حاكم أورشليم المُسلِم غَضِبَ على ” الغِشِّ الذي يقع في النار السنوي في القيامة “. لكن قبرَ المسيح نجا من الهدم وأُعيدَ بناءُ الكنيسة “. وبعدَ ” قرنين من الحدث، البابا غريغوريوس (التاسع 1227–1241م) أيضًا أَيَّدَ الغِشَّ فمنع أتباعَه من أن يشتركوا في الأحـتفال بالنار. ولمَّا وقع سنة 1054م الأنقسامُ بين اللاتين (روما) و البيزنطيين (قسطنطينية )، تابع الأرثذوكس وحدهم الأحتفال بالنار المُقَدَّسة “. ويقول أيضًا :” لستُ واحدًا من 260 مليون أرثذوكسي، لكني أتذَكّرُ ، سنة 2017م، التوقير العظيم من قِبَل الحاضرين عندما خرجت أولُ شمعةٍ مُضاءَة من القبر، وأنا غزاني فجأةً حَرٌّ ونور و فرح قطعَ أنفاسي “.
الكنيسة اللاتينية !
لابد وحضر بعضُكم قداس ليلة عيد القيامة ” وفيها عبر يسوع من الموت إلى الحياة مع عبور الظُلمة الى النور”، في كنيسةٍ أو ديرٍ لاتيني أي كاثوليكي غير شرقي { أنا نفسي قد حضرتُ بل وقدَّست ذلك القداس عشرات المرات لجماعات لاتينية }، حيثُ تقام في بداية القداس رتبة النور، خارج الكنيسة، وتُهَّيأُ نارٌ في منقل كبير وتُجلبُ شمعة ضخمة فيبارك المُقَدِّسُ النارَ وينقش الشمعة بالرموز المطلوبة ، وأضاءَةُ الكنيسة منطفئة، ثم يُشعِلُ المقدسُ الشمعة من تلك النارالجديدة قائلاً “ليُبَدِّدْ نورُالمسيح القائم بمجد ظلمات القلب والفكر. يحملُ الشماس الشمعة ويرفعها مُرَّتِلاً :”المسيح نورُ العالم”. يرُدُّ عليه الشعب:” الشكرُ لله “. ثم يطوفون نحو الكنيسة وفي مدخلها يكررالشماس المسيح نورالعالم ويرد عليه أيضا الشعب. وعندها يُشعلُ المؤمنون شموعهم من شمعة العيد. عند وصول الموكب الى المذبح يُكررُ الشماسُ عبارته ويرُّدُون عليه. وكلَّ مرَّةٍ يرفعُ الشماس صوته أكثر من قبل.
هنا أذكر ما كان يجري سابقًا في الكنيسة الكلدانية في قداس عشية العيد أو ليلته إذْ يحمل الكاهن صليبًا مُغَّطى بمنديل أبيض يعلنُ كلمات رسالة مار بولس لنفس القداس :” هاشا دين مشيحا قام من بيث ميثى ܗܵܫܵܐ ܕܹܝܢ ܡܫܝܼܚܵܐ ܩܵܡ ܡܸܢ ܒܹܝܬܼ ܡܝܼܬܼܹ̈ܐ الآن قام المسيح من بين الأموات “، يُرَّتِلٌها ثلاث مرات ” : الأولى في السكرستيا ، الثانية على باب الهيكل، والثالثة على درج المذبح ويرفع كلَّ مرَّةٍ صوتُه أقوى وأطول من قبل، ثم يرفع المنديل ويتقدَّمُ الناس ليُقَّبلوا الصليب، قبلة الأعتراف والتكريم، والشمامسة يُرَّتلون أثناء ذلك :
” إنقضى صوم المسيح بسلام. فالمخَّلِص خلَّصَ العالم وقام “…
وما يجري اليوم في القدس !
أنقُلُ فيما يلي خبرًا سمعتُه أمس من كاهن يونان أرثذوكس يشهدُ لنور سبت القيامة ويلومُ المُشَّككين فيه، لاسيما من الكهنة وحتى بعض كهنة أصدقائه من الكاثوليك. قال: قبل السبت بثلاثة أيام تأكَدَّ الجيش الأِسرائيلي من خُلَّو قبر المسيح والفضاء حواليه من كلِّ إنسان. وسَدَّ بابَ الكنيسة وختمَه بالشمع. لماذا كل هذا الإحتياط ؟. للتأكيد للناس أن النور الذي سيخرج يوم السبت آتٍ مباشرة من السماء بمعجزة “. لكنه لم يقُل ماذا حدثَ داخل الكنيسة بعيدًا عن الأنظار. وبعد كل كم عبارة كان يلوم بالمُشَّككين. ولم يشرح أيضًا عن سبب تدخل الدولة ؟ . ثم تابع حديثَه :” ويوم السبت تقاطرالناسُ أمام الباب والحرسُ واقفين”. لكنه لم يؤَّكد إذا ما كانوا في الليل أيضًا يحرسون. ولم يتحدَّث عن وجود باب سِرَّي داخلي لأَي طاريء ، بين عواميد الكنيسة، وقد علمتُ بوجوده في زيارتي للقدس في السنة الماضية. تابع الكاهن حديثه: ” وقد حضرالأسقف ومن معه وحضر الأخ المسلم الذي يحتفظ بمفتاح الكنيسة و العضو الأرمني الذي يراقب العملية، وتأكدوا من سلامة كل التدابير ودخلوا الكنيسة و رأوها فارغة. ثم دخل الأسقف القبر ليُصَّلي ويطلب من الله أن يرسل النار العجائبية. و عاين العالم كلَّه تلك النار عندما خرج الأسقف من الكنيسة “.
التساؤلات التي كتبتها بين حديث الكاهن هي إعتراضات السائلين عنها بسبب : أولاً . لا تظهر النار هذه إلا في سبت النور الأرثذوكسي؛ وثانيًا. الدعاية التي يسمعونها منذ سنين أنَّ هذه المعجزة دليلٌ لصِدق أيمان الأرثذوكس ورفض الله للكاثوليك ؛ وثالثًا. ما دخل القوات الرسمية بهذا الأمر وهو إيمانيٌ محض ولا تؤمن الدولة لا بالمسيح ولا بالمعجزات؛ و رابعًا. هذه النار تُؤخذُ ذريعةً لعدم تصحيح التقويم اليولياني، الخاطيء علميًا، والذي هو سببُ هذا الأختلاف في الأحتفال بالعيد؛ وخامسًا. ولماذا ثلاثة أيام” أَ ما كان يكفي يومٌ واحد؟. ولماذا أصلا هذا الحِرص؟. وماذا جرى من عملية داخل الكنيسة المعزولة عن كلِّ قوَّةٍ ما عدا قوى الشر؟. وعِلمُ اليوم يجري معجزات بتقنياته التي صارت تلعب على القمر، تحفر وتجمع ولا أحد هناك ، ولا خيط يربط الأرضَ بالآلة الموقوتة هناك؟.
للعلم : كُنَّا فعلاً نعَّيدُ معًا الى سنة 1582م حسب التقويم اليولياني الذي يُدعى خطأ ًشرقيًا. إنه من تنظيم يوليوس قيصر إمبراطور روما سنة 46ق.م. احسَّ البابا غريغوريوس 13، سنة 1580 وهو عالم فلكي أنَّ الربيع قد عبر قبل 21/3 آذار. ودرس العلماء الأمر و آكتشفوا أن السنة الشمسية (مدة دوران الأرض حول الشمس) هي أقل مما حسبت بـ ( 11 دقيقة و9 ثوانٍ ) و عرفوا أن التقويم متأخر عن الواقع عشرة أيام. ولو بقي التقويم على حاله كنا سنُعَّيد القيامة، بعد ألافِ عقودٍ من السنين، في الشتاء أو الخريف او حتى في الصيف. فقدموا التقويمَ عشرة أيام ووضعوا نظامًا جديدًا لتلافي وقوع خطأٍ جديد بسبب الزمن الناقص من ربع السنة (11 دقيقة و9 ثوانٍ). وتبعَ التقويمَ الجديد كلُّ الأمم عدا الكناس الشرقية غير الكاثوليكية، وتلتَّف حاليًا مع بعضِها حول التسمية ” الأرثذوكس”.
مع العلم أنَّ حكوماتها (مثل روسيا ويونان والبقية ) تتبع التقويم الغريغوري. ولو تخَّلى الأرثذوكس عن التقويم اليولياني وتبَّنوا الغريغوري مثل كل الناس، أكثر من سبع مليار نسمة، لزال الإختلافُ في الإحتفال بعيد القيامة وتوّحد عليه كلُّ المسيحيين رغم بقاءِ الإختلاف في العقائد.
وبخصوص صِحَّة النار العجائبية أو غِشِّها لم تُصْدِرْ لا البطريركية اليونانية في القدس ولا الكنيسة الكاثوليكية بيانًا رسميًا بصِحَّتِها أو غِشِّها، ولا بقبولها أو رفضِها إلا ما فعله البابا غريغوريوس التاسع فمَنَعَ مشاركة الكاثوليك في الأحتفال بتلك النار.