تتلى علينا اليوم القراءات : خر3: 1-7 ؛ { اش44: 21- 45: 4 } 2طيم 3: 1-15 ؛ لو 4: 14-30
القـراءة : خروج 3 : 1 – 14
يقُّصُ لنا خبر لقاءِ موسى بالله على جبل سيناء، بشكل نارٍ تضطرمُ في عوسجة ولا تحترق. يخافُ موسى، يُطمئِنُه اللهُ ويرسلهُ لأنقاذ بني اسرائيل من عبودية مصر. القـراءة البديلة : اشعيا 44 : 21 – 45 : 4 :– يُؤَّكدُ النبي على أنَّ اللهَ خالقُ الأنسان لا ينساهُ ولا يُعاقبُه بذنبِه، بل يُسامحُه ويُساعدُه ليحيا براحةٍ وهناء.
الرسالة : 2 طيمثاوس 3 : 1 – 15
يُحَّذرُ الرسولُ من أخطار الأزمنة الأخيرة ، فيها يُصبحُ الأنسانُ أنانيًّا : مُحِّبًا لنفسِه وللمال، صَلِفًا مُتكَّبِرًا، ناكرًا للجميل ، قاسيًا، نَمّامًا، مُرائيًا، مُضطهِدًا للحَّق.فيدعو الى تجَّنُبِ هكذا ناس.
الأنجيل : لوقا 4 : 14 – 30
يسوع يحيا ويعملُ بروح الله، ويتطَّلعُ إلى سعادة الأنسان وخلاصِه من كلَّ أشكالِ الألم والظلم. أمَّا العالمُ وأتباعُه فيرفضونَ يسوع ليعيشوا على هوى شهواتِهم ونزواتِهم.
ليسوع تدبيرٌ خلاصي !
قرأَ يسوع في سفرِ إشَعْيا 61: 1-2 وأعلن لسامعيه، في المجمع، أن ما سمعوه قد تحَّققَ. ما هو إرادةُ الله أزليًا، ما جاءَ يومُه، قد دخل الزمن الأنساني. هذا يعني أنَّ زمنَ النعمة، وهو تعبيرٌ عن عمل الله، قد دخل في تأريخ خلاص الأنسان. إنَّه زمن يرضى عنه الله ويريدُه. إنَّه زمن جديد يفتَتِحُه الله للأنسانية لتسير فيه نحو سلامها، بآنتهاءِ محنةِ عبوديتها للشر، وبدء راحتِها، وقد رمزالى هذا الزمن بسنة النعمة أو اليوبيل التي فرضَها على بني إسرائيل من عهد موسى:” وتُكَّرسون لي سنة الخمسين، وتُنادون بتحرير أهل الأرض كلِّها .. و ترجعون كلُّ واحد منكم إلى مُلكِه وإلى عشيرتِه” (أح25: 8-17). إنه زمن تحرير الأرض والإنسان من قساوة الأنسان نفسِه (خر21: 2-11؛ تث15: 12-18).
هكذا يبدأُ مع المسيح زمنٌ جديد، مرحلة النعمة المرضية عند الله. زمن يستعيدُ فيه الأنسانُ حريَّته وكرامته وحَّقه بالحياة الحُرَّة، وإرادته في آختيار عمله الخاص. يتحرَّرُ الأنسان من عبوديتِه لأبليس، ويعود من منفاه خارج الفردوس ليحيا في كنفِ عائلته الألهية. إنَّه إبنٌ لله، أسَرَه الشّرير وعذَّبه وتَـيَّهَهُ في بيداء الضلال، فأتى الإبنُ الألهي الموعود، المسيحُ المُنقِذ ، ليُحَرِّرَه ويعيد اليه عافيته الروحية واضعًا إِيَّاه على درب الأمان ليرجع الى البيت الأبوي الألهي فيحيا مع الله كمع أبيه، ومع أفراد الأسرة البشرية، أولاد الله، كأخٍ بين إخوتِه، ومع الطبيعة مثل سيّدٍ يقودُها إلى كمالها، فلا ترُّدُه عن ذلك الكوارثُ والأزماتُ الكونية. سيحصلُ هذا لأنَّ الذي يقودُ العملية الخلاصية يعملُ بآسم الله وبروحِه المُحِّبة والمُضَّحية و بقوَّته الفادية. يسوع لن يتصَّرفَ من عنده، بل يستند الى الروح القدس الألهي الحَّالُ فيه. و لن يتقَّيدَ بمنافع زمنية تزول. ولن يُنافقَ فيُرائيَ أحدًا. ولا يتبع روح العالم ومبادئَه : لن يتبع المنطق البشري المحض فلا يدين (يو3: 17؛ 8: 7-15؛ مر7: 7-8)، ولا يُسايرُ القوانين المجحفة للبشر(متى17: 25-26؛ 22: 21)، ولا يتقَّيدُ بتقاليد الشيوخ المناقضة لكلام الله (مر7: 5؛ متى15: 6)، بل يتمَّسكُ بوصايا الله (متى15: 3) فيقول ويعمل ما يريده الله (يو 12: 49-50؛ 17: 4-8). ليسوع رسالته الخاصّة يُؤَّديها حسب مشيئة الله. لأنه آتٍ بمشيئةِ الله ومُرسَلٌ لتنفيذ كلمته، التي لا تعودُ اليه فارغةً ” بل تعمل ما شئتُ أن تعملَه وتنجحُ في ما أرسلتُها له ” (اش55: 11).
ليسوع هدفُ واضح يصبو الى تحقيقه. هو أن يُعيد الكائنات الى القبول بنظام الله الذي وحدَه يُحَّققُ كمالها وراحتها. وحتى يتحَّققَ ذلك يجب أن يعودَ أوَّلاً سيِّدُ الكائنات، الأنسان ، إلى الأيمان بالله والثقة به فالخضوع لمشيئته، ويُعيدُ بذلك الأنسانُ كرامتَه وبرارته الأولى في محَّبة الله وصداقته. تدبير يسوع ان يتحَرَّرَ قلبُ الأنسان من شهوة السوء والفساد، وأن يتَنَّورَ عقله وفكره بالحق والبر فيتحَرَّر من الضلال، فيتداوى بذلك جرحُه وينصلح التشويهُ الذي أصابه من البدء بسبب إهماله الروح وآتّباعه أهواء الجسد. وإذا آستعاد الأنسانُ رؤية الحَّق وقُوَّة السيطرة على الشهوة إستعدلت معها علاقته مع الله ومع سائر الكائنات. هكذا جاءَ يسوع ليُحَّررَ الأنسان من قيوده الداخلية، من ذاته ومن عدُّوِه.
تدبير يسوع هو تجديد الأنسان !
هدف يسوع ورسالته مرتبطان بالأنسان. لقد جاء ليُخَّلِصَ” الخرافَ الضالة من شعبِ الله ” (متى15: 24؛ يو3: 17 ؛ 12: 47). الأنسان هو المجروح والمتألم، المخدوع والمُقَيَّد، المظلوم والمُهان، فتشوَّهت علاقته وآنقلبت تبعاتها على الكائنات فتشوَّهت بدورها علاقاتها فجاء المسيح يسوع يُصلحُ هذه الحالة فيُنقذه ليعود السلامُ بينه وبين الله والكائنات. فيتحَّركُ يسوع منذ البداية بموجب هذه الخطة، يتقَيَّدُ بها ولا يتهَرَّبُ من عواقبها بل يتحَمَّلُ تبعاتها بوعيٍ وحرية (يو12: 27؛ لو22: 42). وحتى يفهم الأنسان خطته صار هو إنسانًا يعيشُ هذا النموذج من العلاقة مع الله والكائنات ليعطي شهادةً على فعاليتها، بل وسيُعطيها أيضًا وسيلة لتلاميذه يقتدون به شاهدين على صحَّة السبيل (أع1: 8) الى العيش بسلام وراحة. و سيتحملُّ، بتصميم، كأسَ الجهاد والألم حتى الموت تثبيتًا لتدبيره وتشجيعًا لآتّباع تعليمه (يو 10: 18؛ 18: 11).
خُطَّـة يسـوع !
وإذا تعَمَّقنا في رواية الأحداث وتتبعنا خطوات يسوع نُحِّسُ أنه عمل كالآتي :
- لقد حان الزمن ليعود الأنسان إلى الله :” اليوم تمَّت الآية ..”
- يسوع الأله يعيش كانسان حقيقي فيرى الناس أعماله، يندهشون بمعجزاته ويلتَّذون بكلامه ويرتاحون الى تعليمه فيتعَّلقون بشخصه وبسلوكه
- ثم تُصيبُهم الحيرة فيتساءلون : من يكون هذا ؟. إنَّه إنسان نعرفُه لكنه يتحَّدى كلَّ الناس بثقافته وعلمه وطيبِه وقدرته ويتغَّلبُ حتى على الشيطان؟؛: ” إنه لتعليم جديد يُلقى بسلطان، حتى الأرواح النجسة يأمُرُها فتطيعه “(مر1: 27)، و”حتى الريحُ والبحرُ يُطيعانِه “؟ (مر4: 41). لم يروا إنسانًا يفعل مثله ولا أن يقدر على ذلك ” إن لم يكن الله معه ” (يو3: 2). هل يكون هذا موعود الله ؟. سيحتارون في أمره (مر6: 3؛ متى13: 56)، يشُّكون في مسيحانيتِه لكنهم لا يتجاسرون أن يُقِّروا بذلك ولا أن يستبعِدوه. وستُحرِقُ الغيرةُ قادتهم ليصرخوا يومًا بوجهه :” إلى متى تُدخلُ الريبةَ في نفوسِنا. إن كنتَ أنت المسيح فقُلْ لنا صراحةً ” (يو10: 24)
- قِلَّةُ إيمانِهم ورفضُهم له. حسده القادة حاولوا إدخاله تحت خيمةِ سيادتِهم ومبادئهم، و إذ لم يفلحوا رفضوه وحاولوا التخَّلُصَ منه لئلا يُقلقَهم ويُزعجَهم بسحب تاييد الشعب عنهم و السماع منهم. لم يُرغم يسوع جميع الناس أن يقبلوه ويتبعوه. إحترم كرامةَ حرّيتِهم وأراد أن يتبعه الناس عن وعيٍ ورغبة صادقة وتصميم لا يرُّدهم عنه العالم مهما جار. إنه إمتحان الأيمان الذي يخضع له كلُّ الناس مثل إبراهيم (تك22: 1و 12). سيخضع له الرسل أنفُسُهم (متى17: 20 ؛ يو6: 66-67). الأيمان أساس الحياة تُكَّمله المحبة إذ تفَّعلُه (غل5: 6). و سينتصر مخَّطط يسوع حتى بعد القضاء الظاهري عليه لأنَّ قيامته قلَّبت كل موازين البشر وتُفشلُ كل مقاوماتهم، لأنه هو الله ، فمن” رآهُ رأى الآب” ( يو10: 30).
وضع لوقا أمام أنظار القاريء هذا المخطط الذي سيتبعه ويتحَّققُ على يد يسوع المسيح. وضعه في بدايةِ حياة يسوع لا فقط لأن يسوع كان يعلم به بل ليقول لنا بأنَّه، هو لوقا، لن يتبعَ حرفيًا التسلسل التأريخي لأحداث حياة يسوع، بقدر ما يحاولُ أن يضعَ أحداث حياة يسوع ضمن هذا الأطار ليُساعِدنا على فهم شخص المسيح و رسالته وموقف الرافضين له. لذا لا نستغربُ عندما نقرأ الآية 23 وهي تقول :” لا شَّكَ أنَّكم تقولون لي هذا المثل : يا طبيبُ إِشْفِ نفسَك. فآصنع ههنا في وطنك كلَّ شيءٍ قيل لنا أنه جرى في كفرناحوم”!. مع أنَّ لوقا وضع هذا النص مباشرةً بعد ” تجربة يسوع ” في البرّية، والتي حدثت مباشرة بعد المعمودية، وقبل البدء في البشارة، وكأنَّ البشارة تبدأ من الناصرة.
وفعلا لم يتحَدَّث لوقا عن أيِّ تبشير أو حديثٍ أو معجزة. فكيف تحَّدث لأهل الناصرة عن معجزات جرت في كفرناحزم؟. عن هذه تحَدَّثَ مرقس كثيرًا وسَبَّقها على حديث الناصرة (مر1: 14-5: 43). يبدو أنَّ لوقا، كما يقول الأب بولس الفغالي في شرحه للأنجيل، يضعُ من البداية ملَّخصَ الأنجيل كلِّه كاشِفًا مخَّطَطَ برنامجٍ واضح عن رسالة يسوع وداعيًا كلَّ قاريءٍ الى تحديد موقفه من هذه الرسالة التي ستنجحُ بغَّضِ النظر عن قبولها أو رفضِها ، فلن يُعيقَها شيءٌ. ليست رسالة يسوع للقادة والمعلمين بل للشعبِ المسكين”المُرهَق والمُثَّقل” (متى11: 27)، و”المريض والمحتاج، والخاطيء الضال ” (متى9: 11-13 ؛ 15: 24). جاءَ يُنقذُ الأنسان من بليَّتِه ويُعطيه من جديد فرصة الحياة الحُرَّة الكريمة ليضمنَ له الراحة والهناء عند الله وحدَه (متى11: 28-30). واليوم نسألُ أنفسَنا :
- هل نملكُ، نحن المؤمنين بالمسيح، ” برنامجًا ” لحياتنا يتوافقُ ويتفاعلُ مع برنامج يسوع الخلاصي ويُحَّقِقُهُ فينا ؟.
- لقد تنازلَ الله فدخلَ ” يومَنا ” وزماننا، فهل إرتفعنا نحن معه إلى فوق الزمن لنحيا بالروح؟.
- لقد جاءَ الله إلينا فآحتضننا وتضامن مع نواقصنا وحاجاتنا ومعاناتنا فهل نركن الى دوائِـهِ؟ وكم نغترفُ من غناه وعافيته الفكرية والعاطفية ؟؟.
نـتَـأَّمَـلْ !