عـيــد الـدنـــح !

تتلى علينا اليوم القراءات : عدد24: 2-9 ، 15-25 ؛ { اش4: 2-5؛ 11: 1-5؛ 12: 4-6 } ؛ طي2: 11 – 3: 7 ؛ متى 3: 1-17

القـراءة : عدد 24 : 2-9 ، 15-25

يُباركُ بلعامُ شعبَ الله ويلعنُ أعداءَه ويُنبيءُ عن ظهورِ نجم المسيح المَلكِ المُنتظر، الذي له تدينُ الأُمم. القـراءة البديلة : اشعيا 4 : 2-5 ؛ 11: 1-5؛ 12: 4-6 :– يُخبرُ النبي عن زمن المسيح الحاضِر بين الشعوب، ويرى الناسُ أعمالَه ويتنَّعمون بخيراتِه.

الرسالة : طيطس 2 : 11 – 3 : 7

يدعو الرسول المؤمنين إلى العيشِ في العدلِ و التقوى والحلم والوداعة نابذين كلَّ شهوةٍ باطلة.

الأنجيل : متى 3 : 1 – 17

يدعو يوحنا الناس الى التوبة ويُعَّمدُ التائبين. ويأتي يسوع إليه طالبًا العماد. وإذْ عرف يوحنا أنه هو المسيح الذي يُهَّيءُ لمجيئه تمانع من تعميده. ولكن لمَّا أصَّرَ يسوع على رغبتِه رضخ يوحنا لمشيئة فعَمَّدَه . عندَها كشفَ الله سِرَّ كيانه أنَّه ثالوث أقدس : آبٌ يتكلم، إبنٌ في الماء، و روحٌ يحُّلُ على الأبن.

دعني الآن وآفعَل ما أطلُبُه !

لما عرفَ يوحَّنا يسوع، وقد سبقَ الروحُ القدس وأخبره عنه عندما أرسله ليُعَّمدَ فيكشفَ للناس هوية يسوعَ الناصري أنَّه ” إبنُ الله ” الموعود والمنتظر(يو1: 29-34)، تصَّرفَ معه كَمَعَ أيِّ مؤمن حقيقي فيه روحُ الله. تواضعَ أمامه، ورفض أن يُعاملَه كخاطيءٍ مثل بقية الناس. رفضَ أن يُعَّمدَه لأنه يعرف أنه لا يحتاج إلى التوبة، بل هو بار، ولأنَّ مهمة يوحنا تنتهي هنا، لقد عرفه فوجبَ عليه الآن أن يكشفه للعالم. إنَّ الله قد أرسل يوحنا وطلب منه أن يُعَّمد فيتعرَّف عليه: ” لم أكُن أعرفُه (فكيف يُعلنه للعالم ؟). لكن الذي أرسلني لأعَّمد في الماء قال لي: الذي ترى الروح ينزلُ عليه هو الذي يُعَّمدُ في الروح القدس والنار. وأنا رأيتُه (ورأى الروح نازلاً عليه. متى3: 16) وشهدتُ أنه هو إبنُ الله” (يو1: 32-34). ربما سبقت اليصابات فأخبرت إبنها يوحنا عن كيفية ولادته وآهتزازه فرحًا وهو ما يزالُ في بطنها عند زيارة مريم لها وهي حامل بيسوع (لو1: 44). كما ويكون قد أخبره أبوه زكريا كيف طهَّره الروح القدس في ذلك اليوم وملأَه قوَّة ليُؤَّديَ المطلوبَ منه وهو أن يُعِدَّ طريق الرب ويُعلن أنَّ الخلاصَ في غفران الخطايا (لو1: 15و 76-77).

إفتهمَ يوحنا أنَّ الخلاصَ في غفران الخطيئة ولهذا جاءَ يدعو الى التوبة عن الخطايا، حاسبًا أنَّ غفران الخطيئة سيقودُ حتمًا الى نهاية الظلم والفساد. لكن عمادَ الماءِ كان فقط علامة ً للتوبة. ولمَّا عرف أنَّ يسوع هو المسيح، وهو متأكِدٌ من أنَّه ليس خاطئًا، مانع أن يعَّمِدَه. فاجَأَه يسوع بالوقوفِ أمامه خاطئًا. لكنَّه سوف يُدرك أيضًا لماذا إصطَّفَ يسوع بين الخطأة فتقَدَّمَ ليُعلن التوبَة وطلب أن يعتمد. أمَّا يوحنا فتمانع إذ لم يفقه حالا مشيئة الله، بل ربما فكَّر أنَّه وقتُ تعريف الناس به أنه المسيح. أما هكذا يفعل البشرو يسارعون في الأعلان عما في جعبتهم، أفكارهم وآكتشافاتهم، ليفتخروا ويشاركوا الآخرين فرحهم؟. إنَّها فرصةٌ مؤاتية لا تقوم أحسنَ منها للتعريف بيسوع. الجموع تحيط بيوحنا، و الخبر سينتشرُ بسرعة البرق. و غدًا ستتقاطرُ الجماهير لتسَّلم على المسيح وتعرضَ أمامه قُوَّتها وتنادي بالخلاص. يكادُ يوحنا لا يملك نفسَه من فرحه لأنه رأى المسيح وأدَّى رسالته فكشفه للناس. ولن يطول عليه الزمن حتى يُعلنُ أنَّ عليه هو أن يختفيَ بعدَ الآن ليبرزَ المسيح (يو3: 29).

دعنا نُتَّمم مشيئة الله !

بدا يوحنا حائرًا أمام إصرار يسوع على أن يعتمدَ كخاطيء. ترى هل يكون يسوع قد نوى أن يُخفيَ أمرَه على الناس؟. ولماذا؟. أَ لم يُرسلهُ الله ليُعَّرفَ به؟. وإذا لم يعرفه الناس فكيف ” سيُنَّقي بيدرَه” ويُبعدُ الأشرارَ عن الأبرار؟ (متى3: 3: 12). وإذا لم يُنَّقِ بيدرَه ولم يُصَّفِ شعبَه كيف سيُخَّلِصُهم؟. لكن يوحنا رجلُ الله ولم يُخالف له أمرًا. وسبق يوحنا وآعترف أمام مجاميع التائبين أنَّ المسيح الآتي ” أقوى منه وأعظم بحيث ليس يوحنا أهلاً ليحملَ حذاءَه ” (متى3: 11)، فمِن أين له أن يُخالفَ ويقاوم طلبَ المسيح؟. لا يبدو أنَّه إفتهم فعلاً قصدَ يسوع إنَّما أدركَ أنَّ ما يفعله هو” بِرٌّ”، أي تلك هي مشيئةُ الله. لم يسمع يوحنا أنه حدث في التأريخ أنَّ إنسانًا بارًّا وبريئًا إعتبرَ نفسَه خاطِئًا ومجرمًا. بعكس ذلك لقد إشتهرَ خطأةٌ كبار تظاهروا بالبر والقداسة. وغيرُهم إفتخروا بأنفسهم وهم خطأة. وإذا حصلَ لهم فضلٌ فلا يقبلون أن ينكرَ عليهم أحدٌ ذلك. فكيف بهم إذا كانوا أبرياء!. إنهم لا يترددون عن إعلان براءَتهم وفضلهم ولا يسكتون على الظلم ولا يتواضعون، بل يتباهون ويطالبون ويبذلون جهدَهم ليعترفَ كلُّ الناسِ بفضلِهم.

وما هي مشيئة الله ؟

مشيئته أن يعرف الناسُ قبل كل شيء أنَّ المسيحَ إنسانٌ، واحدٌ منهم وآبنٌ لآدم. لم يُعلن نفسَه أنَّه ” المسيح إبن الله الحي”. على الناس أن يكتشفوا ذلك بعدما يتعايش معهم ويعرفوه جيّدًا ويفهموا سِرَّه. إنَّ السماء، الله الآب، وأعمال يسوع ستعلنه ” إبنًا لله و واحدًا معه”. أن يعرفوه كإنسان يعترفُ بخطيئة بني طبيعته وينال لهم عنها الغفران. عندما أخطأَ الأنسان / آدم أخطأ فيه نسلُه كلُّه، وخسروا رفقة الله والراحة معه. فمشيئة الله أن يعودوا الى راحة الفردوس ومجده. وعد الله بأن يساعدهم على ذلك ويُخَّلصهم بواحد من عندهم، من نسل آدم الخاطيء. لكن الخطأ لا يتماشى وقداسة الله. إنهما نقيضان. وحتى يستعيد الأنسان مجده الأول فيصاحبَ الله يجب أن يعترفَ أولاً بخطإه ويتوب، ويكَّفر عن عصيانه بطاعة بنوية لله، ويتغَّلبَ بذلك على ابليس الذي أغواه في البداية، ويسحق رأسَه (تك3: 15).

يسوع هو الأبن الذي وعد به الله وأرسله ليعيد الأنسانية الى مجدها. جاء يعترف أولا بخطيئة الأنسان ويُعلن رغبته في التوبة عنها. فآصطَّفَ بين بني جنسِه الخاطئين. آدم لم يعترف بخطإه ولم يعتذر عن كبريائة بل ألقى اللوم على شريكته كما ألقت هي بدورها اللوم على ابليس. تبَّرءَا عن ذنبهما ولم يعترفا بخطأِهما في العصيان على نصيحة الله و التمَّرد على سُنَّته. أما يسوع فيعترف أنه الأنسان الخاطيء ويُعلن توبته رسميًا وعلنًا أمام الملأ. تواضع وقبل مذَّلة الظهور كإنسانٍ خاطيء. قبل اللعنة. وبآتخاذه موضع الخاطيء تضامن يسوع مع بني جنسِه البشرالخاطئين. وبآسمهم يتوب. وبتوبته يعلن إستعداده، وآستعدادَ الأنسانيةِ لسماع كلام الله وطاعته حتى الموت. حتى سيعلن يومًا ” طعامي أن أعملَ بمشيئةِ الذي أرسلني وأُتَّممَ عمله “(يو4: 34). سبقت البشرية وآغتسلت عن ذنوبها لما إعتمدت بماء الطوفان (1بط3: 20-21)، ومياه البحر الأحمر (خر14: 22-30)، ومياه الأردن (يش3: 16-17). لكن ذلك لم يكن بوعيهم وقرارهم. أمَّا الآن فـ” ابن الأنسان” يأتي بنفسه ويعلن توبته ويفتخ بذلك السبيل للروح فيُحرق الشرَّ الذي جرحهم ويُدملَ الجُرحَ. رفض آدم بإرادته عصيان الله ، واليوم يضع الأنسان نفسَه بإرادته تحت أمر الله. هذه هي مشيئة الله، فـ ” دعنا نُكَّملُ البر”. بعماده إعترف المسيح بخطيئة الأنسان و وضع بذلك ” الفأسَ على أصل الشجر” الغير المثمر. لا ينفعُ الأنتماء الى إبراهيم بالنسب بل يجب الأقتداء به بالأيمان والطاعة بالرجاء. تبع آدم سبيل الأنحدار وها هو إبنه ” المُعطَى له من الله”، يتوَّقفُ عن ذلك، يُديرُ عجلة الحياة نحو الأرتفاع في جبل الله. تبَّنى سِكَّةَ التوبة فيسير فيها نحو جلجلة الخلاص. لم يندم آدم عن فعلته ولم يتب فيعتذر. يسوع يُلَّبي نداء يوحنا إلى التوبة، حتى يقدرَ بعدَه أن يسندَ التائبين ويُشركهم غفران الصليب. قبل الله عمادَه ” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررتُ”، وأعطاه أن يَصِفَه لنا، و” أن يُرثيَ لضُعفِنا لأنه أُمتُحِنَ مثلنا “(عب4: 15) بالتوبة.

بالعماد متنا عن الخطيئة !

هكذا إعترفت البشرية بخطيئتها في شخص المسيح وهذا أَهَّلُها لأن معه أيضًا تموتَ على الصليب ثم تقوم لحياة جديدة ، إلَهية ، كما أكَّد الرسول :” حين إعتمدنا وآتَّحَدنا بالمسيح يسوع تعَّمَدْنا لنموتَ معه ودُفِنَّا معه بالمعموديةِ وشاركناه في موتِه، حتى كما أقامَه الآبُ بقدرتِه المجيدة من بين الأموات نسلكُ نحن أيضًا في حياةٍ جديدة” (رم6: 3-4). يقول المثل :” من إعترفَ بذنبِه لا ذنبَ له “. لقد إعترف المسيحُ بآسمنا بذنبنا الجذري فأصبحت به توبتنا حقيقة غَيَّرت مجرى الحياةِ الأنسانية. عمادُنا يأخذُ قـوَّته وثماره من عماد المسيح نفسِه. لقد تُبنا. وتوبتنا ليست ظاهرية، ولم نُغَّير زِيَّنا الخارجي بل غَيَّرت ما في الداخل، غيَّرت الفكر والقلب. كُنَّا شجرةً غير مثمرة، تينة عقيمة، أصبحنا بالعماد شجرة مثمرة وثمرُها طَّيِبًا ونافعًا. عمادنا شعارٌ للكَّفِ عن” الكفر و شهوات الدنيا.. والعيش برزانة وعدلٍ وتقوى .. والحرصِ على الأعمال الصالحة” ” (طي 2: 12-14). كلُّ ذلك في طاعةِ الله. بعماد المسيح، وبعمادنا المبني عليه، تضامن الله معنا في معاناتنا، وفي تحَّملِ نتائج شرورنا، فقبل توبتنا وطَهَّرنا من دنسنا ليَرفَعنا معه ويُشركُنا في برارته وقداسته و نعيمه، ويُحَّولنا من شقائنا إلى راحتِه. وكما أصبح يسوع، بتجَّسُدِه، مثلنا ” إبنَ الأنسان” نُصبحُ نحن، بعمادنا، مثله أبناءَ لله يرثون خيراته (رم8: 17؛ غل4: 7). ومع ميراثِه ورثنا أيضًا رسالة المسيح في دعوة الناس الى التوبة والأنتماء الى المسيح ومشاركة حياته المجيدة للأبد. وكما صارت توبة المسيح فعماده طريق الأنتصار على” الحيَّة القديمة ” ، كذلك زوَّدنا عمادنا بآسم المسيح بقوَّة الأنتصار على عدو الحق والبر وضمن مجدنا و راحتنا إذا ضمَّنا الوفاء والأمانة لآنتمائنا الى المسيح بالعماد.