تتلى علينا اليوم القراءات : تك17: 1-27 ؛ أف5: 21-33 ؛ لو1: 1-17.
القـراءة : تكوين 17: 1-27
يبرمُ اللهُ عهدًا مع أبرام : يَعِدُه بإِكثارِ نسله، وهو لا لا نسلَ له و زوجتُه عاقِر لا تلد. يتبَّناهُ إبنًا له فيُغَّيِرُ إِسمَه ويُعطي له إِسمًا جديدًا مثل أيِّ أبٍ يُنجبُ طِفلا ويُسَّميه ” إبراهيم”، أي ” أبَ جمهور”. أصبحَ ابراهيمُ ونسله مُلكًا وشعبًا خاصًّا لله ، يرعاهُ ويُدَّبرُه ويحميه. يُؤَّكدُ اللهُ لأبراهيم أنَّه هو الله سيُعطيه إِبنًا تلِدُه سارة. ولكي لا ينسى نسلُه أنَّهم شعبُ الله ومُلكُه يُعطيه علامة ظاهرة في جسدِه ،” الختانة “، ليتبَعَ الله و يحفظ ما يأمرُه به القـراءة البديلة : إشَعيا 42 ” 18- 43 : 13 :– ليس اللهُ من جلبَ السوءَ لشعبِه، ولا نسيَه. الشعبُ نفسُه أخطأ إذ عاشَ مثلَ أعمى وأطرش فلم ينتبه الى الله. أمَّا اللهُ فوعدَ ويفي بوعدِه. اللهُ خلقَ و يُحِّبُ وأقامَ الشعبَ نورًا وعونًا لخلاص الأمم. الرسالة : أفسس 5: 21-33 :– يتحَدَّثُ بولس عن العلاقة بين الزوجين ، ويُشَّبِهُها بالعلاقة بين الله والبشرية ، وترمُزُ إلى العلاقة بين المسيح والكنيسة، وتستلهمُ منها مباديءَ الحياة الاجتماعية للعائلة الأنسانية : علاقة محبة وآحترام متبادلين، وتفاهم وحوار وتعاون، وخدمة سخية و بذل طوعي.
الأنجـيل : لوقا 1: 1-17 :– أكَّدَ لوقا أولاً صِحَّةَ رواية أخبار يسوع، أعماله وأقوالِه ، أي تصَّرفاتِه وتعاليمه بناءًا على شهادة الرسل الذين رأوه وسمعوه إذ عاشروه، ثم روى كيف بدأت تتحَّققُ خُطَّةُ الله الخلاصية الموعودة للأنسان. لقد تمَّ الزمن ليَظهرَ المُخَّلص المُنتَظَر، وتتحَّققَ النبوءات ، فيبدأ بالبشارة بقدوم السابق للمسيح. لقد توَّقفَ العهدُ القديم على النبوءة القائلة:” ها أنا أُرسلُ إليكم إيليا النبي، قبلَ أن يجيءَ يومُ الربِّ العظيم الرهيب، فيُصالحُ الآباء مع البنين والبنين مع الآباء ..” (ملا3: 23-24). ويبدأ الآن العهد الجديد بمجيء يوحنا المعمدان، الذي: ” يسير أمام الله بروح إيليا وقُوَّتِه، ليُصالحَ الآباء مع الأبناء، “.. ويُهَّييءَ للرَّبِ شعبًا مُستعِدًّا له ” (لو1: 17).
مقَّدمة قصيرة ! 1: 1-4
مقدمة قصيرة ، لأنجيل طويل، حواها لوقا علمًا بكامله. إنها ” رواية الكلمة “، أي الأحداث المتعَّلقة بحياة يسوع المسيح وبالرسالة التي كلَّفَ بها رسُلَه ليُبلغوها بدورهم إلى البشرية جمعاء. في هذه الكلمات القليلة والبسيطة يكشفُ لوقا عن شخصيته وثقافته، وهو طبيب (كو 4: 14)،وعن عمله وهدفه، وعن أُسلوبِه العلمي كما يليقُ بمُؤَّرخٍ نزيه، وعن معلوماتٍ دقيقة لا فقط لا يُستهانُ بها بل وتُغنينا كثيرًا نحن الذين بلغتْ إلينا أواخرُ الدهور، والعطشى إلى تفاصيلَ كثيرة ودقيقة عن المسيح تُنيرُ إيماننا وتسندُ مسيرتنا عبر مسالكِ العالم المُعَّثرة.
كثيرون يُدَّونون أخبارَ يسوع !
تقودنا هذه المقدمة عبر تخطيطٍ يُعلِنُه لوقا ، وهو: كثيرون يدونون أخبار يسوع ؛ نقلاً عن شهودِ عيان أعلنوها للناس ؛ لوقا أيضًا يكتبُ عن يسوع ؛ بعد بحثٍ وتدقيقٍ وترتيب ؛ ليُثَّبتَ إيمانَ المسيحيين !.
يُجمعُ علماءُ الكتاب المقدس أن لوقا كتبَ إنجيله بعدَ سنة 70م. سبقه مرقس في كتابة إنجيله ناقلا كرازة بطرس الرسول (+67م). كما سبقه بولس وبطرس في كتابة رسائلهم (بين51م و66م). ويُعتَقَد أنَّ متى أيضًا كتب وثيقتَه الآرامية، كوسيلة عمل للتلاميذ حواها دستور الحياة المسيحية ومعجزات يسوع (متى فصول 5-9)، وأدخلها بعده جزءًا في الإنجيل الحالي اليوناني. ثم تبعت لوقا بقية أسفار العهد الجديد. وإذا تمَسَّكنا بحرفية قول لوقا “رواية الأحداث” (آية1) نفهم أنه يحصر الكتابة في ما وقع ليسوع المسيح من فعل وقول, أو إذا أردنا أن ننحصر ونتقَّيدَ بذلك، فيعني ذلك أن لوقا قد يكون يُخبرُنا بأنَّ كثيرين بدأوا يتحَدَّثون كتابةً عن يسوع، ولكن قد لا تكون كتاباتُهم صادقة، كاملة أو نزيهة. وإذ لا تعترفُ الكنيسة بإنجيل سبقَتْ كتابتُه إنجيلَ لوقا، ما عدا انجيل مرقس، وإذ يبدو أن لوقا يعرفُ مرقس وينقل عنه كثيرًا، خاصَّة وكان كلاهما زميلين معاونين لبولس (فيلمون آ 24)، فقد يعني ذلك أنَّه يُنَّوهُ ، ولو من بعيد، إلى تلك الكتابات التي يُشارُ إليها اليوم بآسم ” الأناجيل المنحولة”، التي، وإن لم يبقَ منها غيرُ نُتَفٍ أو ذكر ٍ فقط، إلا إنها لم تُقَّصِرْ في خلقِ بلبلة بين المؤمنين لأنها شوَّهت الحقائق والتعليم، والتي سيدعوها يوحنا الرسول ” تعليم النيقولاويين ” و” بلعام” (رؤ2: 6 و14-16). كما نوَّه بولس عن الذين يُبَّشرون بالمسيح بسبب الحسد وبدافع الكيد وبنيّة غير صالحة (في1: 17).
يبدو أنَّ رسلاً مُزَّيفين إندَّسوا بين المسيحيين الأوَل بُغية التخريب (في3: 2) وذئابًا مُرتزقة تطوعت بلباس الحملان، يدَّعون العلم والتأريخ، لخداع المؤمنين وإبعادهم عن المسيح (كو 2: 4-8؛ اف5: 6). وقد نبَّهَ إليهم بولس (أع20: 28-30)، وحَذَّرَ منهم بطرس ودعاهم ” علماء كذَّابين يحدثون بِدَعًا مختلفة وينكرون الرب ..” (2بط2-1-23)، ويُشيرُ حرفيًا إلى من” يُحَّرفون في الكتب” لاسيما في رسائل بولس ويقول :” وردَ في الرسائل أمورٌغامضة يُحَّرفُها الذين لا علمَ عندهم ولا ثبات. كما يفعلون في سائر الكتب” (2بط3: 16). هكذا يسبقُ لوقا فيُنَّبهُ. ثم يبحثُ ويُدَّققُ ويُقَّدمُ الحقيقة حول الإيمان المسيحي. لقد عرفَ التأريخ ، بعد لوقا، عشرين سِفرًا أو أكثر بآسم ” انجيل” لكن الكنيسة لا فقط لم تعترف بها بل ونبذتها وحَذَّرَت منها. وحمل بعضُها اسم إنجيل : العبرانيين، والأبيونيين، والمصريين، وبطرس وتوما ومريم ويعقوب ..الخ. وكان آخرُها ما كتبَه يهوديٌ تظاهر أولا بالمسيحية ثم أسلم، وعُرِفَ بـ ” مصطفى العرندي، وسَمَّى كتابَه ” انجيل برنابا “، ويرتقي الى السنين بين 1300 و1350م، وبَوَّقَ له زمنًا أعداءُ المسيح المعاصرون.
نقلاً عن شهودِ عيان أعلنوها للناس !
لا يختلقُ لوقا شيئًا من عنده. ولا يُفَّسرُ الأحداث. بل يُحَّرِرُ بأمانةٍ ونزاهة ما سمعه من شهاداتٍ وما تمعَّن به من سيرة مُدهِشَة ومُستَحَّبة فمريحة للمؤمنين وهي مبنية على شهادة الرسل. فهو وإِن لم يكن تلميذًا مباشرًا ليسوع ، مثل مرقس، ولم يلتقِ بيسوع مباشرةً ولا عاين أعماله ولا سمع خُطَبَه لأنه كان يعيش في أنطاكية كما كان بولس يعيشُ في طرسوس . لكنه إلتقى بالرسل إذ كان من أوائل المتتلمذين ومن أبرزهم أيضُا حتى إِنضَّم إلى مجموعة بولس وآتَّخذهُ معاونًا له، ومرافقًا له في البشارة منذ رحلته الثانية حيثُ إلتحقَ بهم في تراوس ثم تركوا تركيا، بإيعاز من الروح القدس، وعبروا الى مقدونية في بلاد اليونان (أع16: 9). وبقي يعاونه حتى رافقه في سفرته أسيرًا إلى روما (أع27: 1-28: 31). سمع لوقا عن يسوع ربما من ” القبرصيين والقيرينيين”، وربما من برنابا وبولس مباشرة (أع11: 19-26). ومع ذلك لم يستثقل أن يسأل مباشرة الأثني عشر عن تفاصيل أعمال يسوع وأقواله، كي ” لا يكون سعيُه عبَثًا “. بل كمؤَّرخٍ نزيه وتلميذ صادق إقتدى بمعلمه بولس الذي عرض إيمانه على بطرس والرسل ليتأكَّدَ من صِحَّةِ كرازته (غل2: 2). فتتَّبعَ لوقا الأحداث ودَقَّقَ في تفاصيلها لدى ” الذين عاينوا وشهدوا ” (أع3: 12-25؛ 4: 7-20 ؛ 2بط1: 16-18 ؛ 1يو1: 1-4)، ورافقوا الأحداثَ منذ البداية، أي منذ ” أن عمَّد يوحنا يسوعَ إلى يوم إرتفع عنا ” أي صعوده الى السماء (أع1: 22).
هذه هي طريقة البشر ليتأكدوا من ” الأخبار” التي سمعوها من شهود عاينوا الحدث. وحتى تكون الشهادة صادقة ومقبولة يجب أن تتفِقَ إقله بين شخصين. هكذا تطلبُ كلُّ محكمةٍ شرعية ورسمية شهادة شخصين بجانب إفادة المُدَّعي. وهكذا قال الكتابُ أيضًا :” كل قول يثبتُ بشهادة إثنين” (يو8: 17 ؛ تث17: 6). ويسوع أيضًا قدَّم، إِضافةً إلى شهادته وشهادة الآب له، شهادة أعماله وشهادة الكتاب المقدس عنه (يو8: 18؛ 5: 36 و39). بينما لم تتَّفِقْ أقوالُ شهودِ الزور على تُهَمِهم ليسوع، حتى ولا شهادة ” إثنين ” (متى26: 59-62؛ مر14 : 55-60). أما شهادة لوقا فآتفقت مع ثلاثة آخرين. راجع لوقا المصادر الأولى والمباشرة للشهادة على أحداث رواية يسوع، ومنهم مريم العذراء وبطرس وغيره من الرسل علاوةً على ما تعلمه من بولس، ليُقَّدمَ لقُرّائِه ما يُثبت ُ إيمانهم ويضمنوا خلاصَهم. وقد أيَّد بطرس قبل إستشهاده صِحَّة تعليم بولس (2بط3: 15-16)، كما أيَّد خُلفاؤُه ، بعدَه ، وثبَّتوا صِحَّة ما كتبه متى ومرقس ويوحنا، رافضين كلَّ إنجيل آخر، مهما إدَّعى أصحابُه الصِدقَ والنزاهة.
لوقا أيضًا يكتبُ عن يسوع !
إذا كان مرقس قد كتبَ إنجيله قبل لوقا فلماذا أخذ لوقا أيضًا على عاتقِه كتابة إنجيل ثانٍ؟؟. هل كان الأول ناقصًا أو غير صادق؟. كلا. لم يكن إنجيل مرقس لا ناقصًا ولا ” منحولا” أي مُزَّوَرًا. إنما لو تذكرنا أنَّ لوقا مُثَّقفٌ، فهو طبيب، وأنَّ ثقافتَه يونانية، أي إنسانية و عملية ،”براكماتيكية “!، لآلتقطنا حالاً ماذا حمل لوقا على كتابة الأنجيل. فبينما كتب مرقس لقُرَّائِه الرومانيين، مسيحيين و وثنيين، داعيًا إيّاهم إلى الأيمان بأنَّ يسوع الناصري هو”إلَه” ،وأنْ لا يُضاهيه معَّلمٌ ولا يتفَوَّقُ عليه سلطان حتى ولا الأرواح الشّريرة (مر1: 22-28)ـ بل تخدمه الأرواح السماوية (مر1: 13)، نرى لوقا يُخاطبُ قُرّاءَه، لاسيما المثَقَّفين، إنسانيًا فيذكرُ لهم من أعمال يسوع وأقوالِه ما ينبُضُ بالمحبة والرحمة والأُبُوَّة ، وما يدُّلُ على أنَّ الخلاصَ لجميع البشر، أولاد آدم، إذ يرحمهم الله ويغفرُ لهم خطاياهم (لو1: 77-79؛ 23: 34). ويضمنُ بذلك للمسيحيين صِحَّةَ ما قد تعَّلموه عن يسوع وصاروا يقيسون سلوكهم بحياتِه ومبادئِه.
يمتازُ لوقا وينفردُ بتدوين الفصول الأنسانية من أحداث حياة يسوع وتعليمه، مثل : السامري الصالح، الأبن الضال، القاضي والأرملة، زكّا العَّشار، التوبة ، ..الخ، بجانب العديد من الأشفية التي تُبرزُ رحمة الله للبشر. فما أعلنه يسوع في بدءِ كرازته ودعا الى حفظِه حَقَّقَه خلال حياته : فبَشَّرَ الفقراء والمأسورين والعميان والمظلومين بنهاية معاناتهم وآنفتاح درب الحياة الهانئة أمامهم (لو4: 14-19). لقد بدأ زمان الحرّية والعدالة والسلام، لأنَّ شريعة المحبة والغفران والبذل هي التي ستسودُ بعد الآن العلاقات الأجتماعية بين البشر. لقد تمَّ ما خَطَّطَ له الله وأعلنه الكتاب (لو4: 21؛ 21: 32-33). لم ينسَ اللهُ وعدَه (لو1: 55)، بل ” إفتقدَ شعبَه وفداهُ ” (لو1: 68-75). فيسوع هو إبنُ الأنسان الموعود ليُعيد الأنسان الى مجده وكرامته (تك3: 15). هو المسيحُ المخَّلص المنتظر. لذا تهتفُ السماءُ وتُهَّنيءُ بإعلان الخبر :” المجدُ لله في العلى”. إنَّ الله أمينٌ لوعوده. لم يتنازل عن الأنسان عندما أخطأ ولا تخَّلى عنه. بل وعده بمخَّلص من صُلبِه، فيُغَّلبُه على عدُّوِه. وقد حقَّقَ الوعدَ، وصار هو نفسُه إبنُا للأنسان ليُنصِرَه على ابليس ؛ “وعلى الأرض السلام “. لأنَّ الناس تتعَّلمُ درس الحب والحق والبذل مُتَخَّلين عن الكره والعنفِ والخصومة ؛ و” للناس المسَّرة “. لقد إستعادَ الناسُ أخيرًا حقَّهم ومكانتهم عند الله وتحَقَّقَ رجاؤُهم في مشاركة مجدِ الله وراحتِه (لو2: 14).
بعد بحثٍ وتدقيقٍ وترتيب !
إنَّ كتابةَ التأريخ على وجهٍ صحيح ، تتطلبُ :
- عدم تصديق كلِّ ما يسمعه المرء، على عِلاّتِه، دون السؤال حول صحَّةِ الرواية
- يجب توَّخي الحقيقة، أي البحث عن جِدّية الخبر، وكيفية وقوعِه، من مصادر مؤتمنة ، متعَدّدة ومختلفة، وحتى أحيانًا متناقضة، لمعرفة الواقع وإزالة كل شَّك، بغَّض النظر عن نتائج ذلك وتداعياتِه ؛ وعن مصادره يجب أن يتأكد من أمانتها ونزاهتها، وثقل وزنها في الشهادة، والأفضلية لشاهد العيان الأول والمباشر
- وللحصول على ذلك يجب غربلة التفاصيل والتضحية بكل ما من شأنه أن يُخفيَ الواقع أو أن يُشَّوهَه ؛ ومطلوبٌ عدم الإنحياز لأية تفاصيل بسبب جاذبيتها أو سهولة توافقها مع المنطق البشري ؛ وآنتقاءُ أصَّح الخبر وتقديمُه للقاريء حتى لو جاء على حساب سمعة الكاتب نفسِه
- على المؤرخ النزيه الدخول إلى معنى الأحداث فيقرأ، في فكره وفي نتائج الحدث، أسبابَ ذلك وجذورَه البعيدة، ليستوعبَ مدلولها والهدفَ المنشود من ورائها
- وأخيرًا لكي يستخرج من كلِّ ذلك عبرة للقاريء تقودُ سلوكه في حياته الحاضرة
- وينقل الخبر بعد كل هذا التدقيق، بنزاهة وبكل أبعاده، مشَّددًا على نواتِه الجوهرية وتعليمه المرجو إدراكُه وإيصالُه.
أمَّا مصادر لوقا فأشخاصٌ لا غبارعلى مصداقيتهم وأحقيتهم بالشهادة. فهم ليسوا فقد شهودًا بل هم جزءٌ من الحدث، لا فقط عاينوه بل عاشوه وآختبروه. فمن يعرف أكثر من العذراء مريم عن طفولة يسوع وهو إبنُها؟. ومن يعرف ما قاله يسوع أكثر من الرسل وهم جلسوا عند أقدامه يُصغون بشوق، ورافقوه ليل نهار مثل الظل خلال ثلاث سنوات، يسمعونه و يجادلونه ويعترضون عليه وينالون التوبيخ على قلة إيمانهم ومتابعة أفكاره، ويتحَّملهم بصبر ومحّبة؟. من يكون آمَن وأوثقَ منهم على سرد أخبار أعماله وتنقلاته ومعجزاته ؟. ومن يشهد زورًا وكذبًا حتى ينال الضرب والسجن والموت ؟. فمن يكون أجدر منهم أو أصدقَ وهم لا فقط لا يتباهون بأنفسِهم ولا يمدحون ذواتِهم بل لا يفتخرون بإنجاز أعمال عظيمة لينتخبهم الناس لسُدَّة الرئاسة؟. عوضًا عن ذلك سَجَّلوا على أنفسهم مواقف مخجلة ومخزية. أهمها خيانته ونكرانه ولاسيما تركهم له يواجه وحده مصيره المؤلم والمؤسف ، متنكرين له وهاربين مثل صبيانٍ يُنقذون جِلدَهم ؟.
هؤلاء الشهود إستنطقهم لوقا ليضمن للمؤمنين بالمسيح الخبرَ اليقين ليطمَئنوا على سلوكهم مثل ثاوفيلس. وقد رتَّبَ لوقا سرد الأخبار والأقوال لا حسب تسلسلها الكرونولوجي، كقِصَّةٍ تبدأ وتستمِرُّ لحين ثم تنتهي. بل توَّخى إيصال مضمون رسالة المسيح. أما أخبار حياته القصيرة فقد عرفوها كفاية. وأمَّا تعليمه فيحتاجون إلى درسِه وهضمه والإطمئنان إلى دقَّته. وقد يحتاجون من أجل ذلك إلى إقتناء نسخةٍ من مُصَّنفٍ ثقة يعودون إليه من حين لآخر. إنَّ مضمون الرسالة يواكبُ الأحداثَ إنَّما بأبعادِها الخلاصية لا ببُعدِها الصُحفي الإخباري. أي إيصال عمق التعليم قبل التوَّقف على تفاصيل الحدث. وهذا الأيصال يتم خطوة فخطوة ليستوعب القاريءُ صورة كاملة عن يسوع المسيح تساعدُه على الخلاص. ونجدُ صورة عن كذا ترتيب في الأعمال(1: 8)، حيث رتَّب يسوعُ للرسل سُبُلَ أنجحِ بشارةٍ فأرشدهم أن يبدأوا في أورشليم ثم ينتقلوا إلى أطرافها داخل اليهودية فالسامرة فأقاصي الأرض. مثلها أورد لوقا الأخبار كما إقتضت الحاجة لتحقيق خطّةِ الله بالتهيئة لظهور المسيح ، ثم إعلانه لأخصّاء معَّينين والأجتماع معهم لنمو الألفة معه، ثم إختيار الرسل الأثني عشر، كادر عمله، ثم بدء الكرازة بإعلان ملكوت الله ، من مدينة الى أخرى، وتدريب الرسل على ذلك، وأخيرًا بإنهاء مهمته وتسليم الدور إليهم، بعد تزويدهم بالسلاح الألهي الروح القدس، ليتابعوا ما باشر به.
لم يهتم لوقا إذا كان حدثٌ ما أو قولٌ نقله قد جرى في فترة سابقة أو لاحقة لما ذكره. إهتمَّ جِدًّا أن يُعطي ذلك الحدث أو القول نتيجةً أفضل في الموضع الذي ذكره. وهذا بالتالي يعني أنّ لوقا صاحب الثقافة اليونانية العالية يستعملُ مواهبَه في خدمةِ إيصال الكلمة. لذا فهو يهتم أولا بقرّائه الذين يتوَّجه إليهم متوخيا أن يفيدهم، كما يتوخى كل طبيب نزيه، قبل أن يهتم بالحدث نفسِه وبتفاصيله. ومثله سيفعلُ كلُّ إنجيلي بإلهامٍ من الروح القدس ليوصل بأمانة الرسالة الخلاصية، وليس تفاصيل حياة يسوع. فالروحُ القدس لا ” يُملي” كلامه. بل يُلهم ويدفعُ إلى الكتابة ويوحي إلى فكره الحقيقةَ، والكاتب يستعملُ مواهبه وينتقي الكلمات ويختار الخبر والتفاصيل ويُنَّسق كلَّ شيء ويُقَّدمه بالطريقة التي يعتبرُها الأفضل لآستيعاب الحقيقة المُراد إيصالها. هكذا تعملُ الكنيسة.
ليُثَّبتَ إيمان المسيحيين !
كاتبُ الأنجيل لا يُبَّشر. ولا يخترعُ الأحداث. إنَّه يؤَّرخُ البشارة على يد يسوع إستنادًا إلى شهود عيان، وسيُتبعُها بسفره الثاني { أعمال الرسل } ليُؤَّرخ البشارة على يد الكنيسة. و لن يلجأ هناك إلى شهود عيان ، بل يُسَّجل ما يحدث له مع بولس وبطرس ، ليقول أن ما ترونه الآن هو ثمرة ما قام به يسوع ومواصلة لعمله، وما تفعلونه يستجيبُ لمشيئة الله. قد يستغربُ البعض هذا الكلام. ولكن لا مفَرَّ من التأكيد على تصريح لوقا أن هدفه هو: ” لتتيَّقن صِحَّة التعليم الذي تلَّقيته”. هذا قاله لكل مؤمن بيسوع. إستعارَ له إسمَ ” ثاوفيلس”. من هو ثاوفيلس؟. أين كان يعيش؟. لا ذكر له مع أنَّ بولس سيُكَّرره في مطلع سفر أعمال الرسل. إنه إسمٌ يوناني مُرَّكب من كلمتي ” ثيو {الله} ، وفيلوس {حبيب} ” أي ” حبيب الله”. كلُّ مؤمن بالمسيح هو حبيب الله (يو14: 23). وقد جرت العادة عند الكُـتَّاب الأقدمين أن يُوَّجهوا سفرهم لشخص مشهور لكسب القراء. ومن يكون هذا المشهور الذي لا تعرف عنه المسيحية شيئًا ولا حتى كنيسة الرسل الأولى؟. يكفي أنه حبيب الله. وهل أشهر وأفضل من أن يكون أحدٌ ” حبيبَ الله “؟. ولكن إختلاطَ أحَّباءِ الله بأبناء العالم قد يُضعفهم ويُعْدون من مبادئهم وتعاليمهم. وعندئذ قد يدخل بعض الشك الى قلب بعض ضعاف النفس وقليلي الأيمان. وهذا بدوره يسبب فتورا في عبادة وسلوك الأحباء. فينوي لوقا أن يضع بين أيدي هؤلاء أحّباء الله ما ” يُثَّبتَ إيمانهم “، فلا يترددوا ولا يشُّكوا ولا يُصغوا إلى أعداء البشارة الحَّقة. ليثقوا في كل زمان ومكان بقيادة وتعليم الكنيسة الذي تلَّقته من الذين عاشوا أحداث رواية يسوع المسيح.
ربما لم يشُّك ثاوفيلس في إيمانه. لكن كثيرين من” أحَّباء الله ” زماننا قلَّت علومهم وتأثروا بفوضى المباديء فأصبح طبيعيًا أن يتساءَل الواحد لماذا أكون شاذًّا عن المجتمع؟. ومن يضمن صحة ما نؤمن به؟. ولماذا تتعارض مبادئُنا الأخلاقية بآسم الأيمان وغيرنا يتمتَّع بآستعمال منطقه الفلسفي ونحن نتألم وندفع ثمنًا باهظًا؟. جيّد أن نتساءلَ وضروريٌ أن يكون إيماننا مُستنِدًا الى نور الحق الألهي وليس الى تقاليد أو إدّعاءاتٍ فارغة من الصحة. إنه أمرٌ جيد وصِحّي أن يدَّققَ المؤمن فيتأكد من أنه لم تدخل حياته ” أشباهُ حقائق “، أو لم يتشَّوه إيمانه بأخبار وآعتقادات ساذجة أو منافية للحقيقة و تعود الى العالم أكثر مما الى المسيح. والمسيحي لا يتبعُ العالم بل يُقَّدسُه. كل مسيحي هو” ثاوفيلس”. كما هو ذاك تلميذ عمّاوس الذي أخفى عنا لوقا إسمه والذي يبحث عن الحقيقة في خفايا أحداث الحياة المعاصرة والمؤلمة والمخزية. أصبح المؤمن، في فوضى المتناقضات، في حيرة من أمره. ومطلوبٌ منه أن يثق بتعليم الرب يسوع و بإيمانه المتوارث من آبائه عن طريق الكنيسة. الكنيسة شاهدة المسيح المستمرة تنقل شهادة من رافق المسيح وآشترك معه في العمل. يسوع لم ينتهِ. إنَّه حاضرٌ في كنيسته مع أحّبائه . وعند أية كبوة شَّك يقول له ” أنت شاهدٌ لي ” (لو24: 48).