الأحــد الرابع للكنيسة ! ” حْرايى “

تتلى علينا اليوم القراءات : 1 كل6: 11-19 ؛ عب9: 24-28 ؛ متى22: 41-23: 5

الرسالة : عبرانيين 9 : 24 – 28

إنتهت رسالة الأحد الماضي بالتأكيد على أنَّ المسيح هو الوسيطُ الوحيد للخلاص الأبدي، وأنَّ وساطته تشمل البشرية جمعاء من الأنسان الأول وإلى آخر واحد يولدُ في الكون. و الخير الموعود ناله عند دخوله ” حضرة الله، قدسَ الأقداس”. إنَّها الحضرة المحظورة على كل الناس بسبب الخطيئة، وهو حصلَ عليها بفَّك دين الأنسانية، ودفع صَّك الغفران وإزالة الخطيئة وآنهاء مفعولها بفصل الأنسان عن الله وحرمانه المجد والراحة في” الحـياةِ معه “. فقد شَّقَ حجابَ الهيكل (متى27: 51)، فاتحًا طريق قدس الأقداس، ثمَّ دخله بنفسِه صاعدًا الى السماء، و جلس عن يمين الله ليتشَّفعَ بمن يؤمنون به (مر16: 16 و19).

تصُّحُ الوصّية بموت المُوَّصي !

وعد يسوعُ البشرية و وَّصى لها، قبلَ أن يموت، إِرثًا، خيرًا، حياةً أبدية: ” أتيتُ لكي تكون لهم حياةٌ فائضة ” (يو10:10). وعد وطلب من الآب أن يقاسمَه ” أبناؤُه وأحِّباؤُه” مجده (يو 14: 3؛ 17: 24). ولكن لكي تُنَّفَذَ الوصيّة يجب أولا أن يموت المُوَّصي. ولكي تحافظَ على أصالتها وصِدقها يجب أن تُمهَرَ بختمٍ قَّيِمٍ مقبول. موسى ختم العهد الأول وآفتتحه بدمِ ذبائح قرَّبَها لله ورشَّ منه على عناصر العهد،” الشعب والكتاب وخيمة العبادة وأدواتها ” (خر24: 6-8). هكذا طلبت الشريعة لأنَّ الدمَ مُقَّدَسٌ وفيه هي الحياة:” نفسُ الجسد هي في الدم. ولذلك جعلتُه لكم على المذبح لتُكَّفروا به عن نفوسِكم، لأنَّ الدمَ يُكَّفرُعن النفس” (أح17: 11). ويسوع حمل خطايا البشرية ليُكَّفرعنها :” حمل عاهاتنا ..جُرح لأجل معاصينا ..سُحقَ لأجل خطايانا .. بجراحه شُفينا ..رضيَ الرَّبُ أن يسحقَه بالأوجاع ويُصعِدَه ذبيحة إثمٍ ” (اش53: 4 -12؛ أح16: 5-22). هكذا تطهرت الأمور السماوية بدم المسيح كما تطهرت خطايا الشعب بدم الحيوان. و كانت ذبائح العهد الأول رمزًا وظِلًّا لذبيحة المسيح الغفرانية، تمامًا كما كان قدس الأقداس الأرضي رمزًا للسماء. هنا دخل المسيح بعد سفكِ دمه ” ليَمثُلَ الآن في حضرةِ الله من أجلنا ” (آية24). ولن يحتاج أن يكرر ذبيحته ويموت من جديد. لم تكن الوصَّية زمنية مؤَّقتة ، إنَّما أبدية. ونُفِّذتْ فآستفادَ منها أبرارُ العهد القديم (1بط3: 19-20)، وأبناء العهد الجديد (لو23: 43). كانت حاجة الأنسان، ومنهم شعب العهد القديم، إلى تكفير ٍعن ذنوبهم يضمن لهم الخير الأبدي. لم تكن دماء الحيوانات قادرة على تحقيق ذلك. ودم الأنسان أيضًا كان قد تلوَّث. أما دم المسيح فكان طاهرًا نقّيًا قادرًا على تطهير البشرية كلها من جميع ذنوبها.

ذبيحة المسيح تواصلُ على مَّر الأجيال فترفد دم التكفير بآستمرار ليغتسل به الخطأة ويتغَّذى به المؤمنون، جيلاً بعد جيل. لا يغسلون به أجسادَهم بل يُطَّهرون به قلبهم وفكرهم. يشربونه لترتويَ به نفوسُهم فتحيا : ” خذوا آشربوا منه كلكم هذا هو دمي، للعهد الجديد، الذي يُراقُ عنكم وعن الكثيرين لغفران الخطايا ” (متى26: 27-28). ولمَّا كان الدم حياة الجسد فمن دم المسيح تقتات الحياة الروحية الألهية. إنه غسلٌ للنفس وغذاءٌ للروح وسلاح ضِدَّ هجمات عدو الأنسان الحسّية الهمجية. وفي كل قداس تتأَّون ذبيحة المسيح ليتقَّدس بها كلُّ من آمن بالمسيح وآعتمد بآسمه ” (مر16:16). إنها ذبيحة كاملة تواصلُ عطاء ثمارها المحيية التي لا تنقص ولا يزول مفعولُها.

تألم المسيح ومات مرَّةً واحدة !

لكنه يتأَّلم ويموت كلَّ يوم في تلاميذه. يبقى المسيح حَّيا مُمَّجدًا في حالة ذبيحةٍ متواصلة. كما كان عليه أن يتألم ويموت ليدخل مجد لاهوتِه (لو24: 26)، هكذا على جسده الّسري، الكنيسة ، أن يُمَّددَ ذبيحة المسيح لتشترك فيها، بشكل فعَّال، الأجيال المؤمنة به. ولكي تستمِّرَ آلامُ المسيح في جسده السِّري، وهو حَّيٌ فيه، كما من خلال أعضائه، يمتَّدُ سفكُ دمِ المسيح، بسفكِ دم أعضائِه. هكذا أحَّس رُسله وتلاميذُه عندما عُذِّبوا من أجل المسيح ففرحوا إذ حسبوها نعمة وبركة من يسوع المسيح لأنَّه يُشاركهم بذلك في حياتِه ، ألمه ومجده (أع 5: 40-41 ؛ في3: 10-11). وهكذا عَّلموا أيضًا: “يسُّرني بما أُعاني من أجلكم فـأُتِّمُ في جسدي ما نقُصَ من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة ” (كول1: 24). لم تكن آلام المسيح ناقصة. إنما لكي تشارك الكنيسة نصرالمسيح ومجده (رؤ7: 10-17). تحتاج الى حمل صلبانها هي أيضًا ، وإلّا تكون ناقصة ، كي لا تخذلَ رأسَها. الكنيسة هي المسيح وآلامُها تُصبحُ آلامَه. يستمِرُّ يسوع يتأَّلمُ في المؤمنين. تتَّحدُ صلبان المؤمنين، من مرض وظلم وآضطهاد، بصليب المسيح و تتقَدَّس فتنالُ قوَّة فدائية بحَّق صليب المسيح الفِادي. فأصبح الألم من أجل الحَّق والبر شِعارَ فخرٍ و آعتزاز، لأنَّ في ذلك مشيئةً لله إذ يُحَّبنا فيشاركنا في حياته كاملة. لذا لن يترَّدد بولس الرسول أن يقول: ” لقد أُنعمَ عليكم، بفضل من الله، أن تتألموا من أجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فحسب ” (في1: 29). و هكذا تستمِرُّ ذبيحة المسيح فتتجَدَّدُ في أعضاءِ جسده، الكنيسة. و يستمرُ دمه يُطَّهر ويُكَّفر عن الناس من خلال ذبيحة القداس المتواصلة عبر ساعات الزمن المتعاقبة ليلاً ونهارًا.

ذبيحة واحدة محت الخطايا !

لأنها لم تكن بدم الحيوان ولا بدم الأنسان الخاطيء، بل بدم ” ابن الله الحَّي” البار الذي تأَنَّسَ وصار” ابن الإنسان”، فتاب بآسم الأنسانية وغفر لها بآسم الله الآب. كانت ذبيحته بلا عيب، كاملة وقادرة على محو الخطيئة، وبالنتيجة على ضمان الحياة الأبدية لمن يتطهَّرُ بدمها. لم تكن بحاجة لا الى تكرار ولا إلى ذبيحة أخرى تكملها. كان هو نفسُه حمل الذبيحة.

ولأنَّها أتت حسب تخطيط الله وفي الوقت المناسب الذي حدَّده الله بحكمته وهَيَّأَ له بمحَّبته. كان زمن الخطيئة قد إكتمل. لم تقدر ذبائح العهد القديم الحيوانية أن تُزيلَها. ومنذ الخلقة كان الناس يتطلعون إلى مجيء المخلص الموعود وينتطرونه بفارغ الصبر. لقد حان الوقت ليعود الأنسان إلى جَنَّته المفقودة، لقد تعلم بالكفاية من محنته حتى يسمع كلام الله ويحفظه. أتت نهاية الخطيئة على يد المسيح. سَّيدُها ومُحَّركُها قد حُكِمَ عليه (يو16: 11). فمع المسيح بدأت نهاية العالم المادّي وآبتدأَ زمن الروح، أي زمن النعمة. إنفتحت البشرية على حقيقة روحية أهملتها طويلاً، أي أن تحيا في علاقة محَّبة حميمة وصادقة مع الله وتتمتع بخيراته. كلُّ الناس تموت بسبب الخطيئة. أمَّا المسيح فلم يكن له خطيئة ومات طاعة لله ليُزيل الخطيئة ويُنقذَ الناس من موتِ الهلاك المحتوم بسببها. وآنتصر، بموته، على الخطيئة والموت وكسر شوكتهما ليَغلبَهما أيضًا كلُّ أتباعه المؤمنين المخلصين.