أهلا وسهلا بالأخت رنـا سلام ماربيـن من دانمارك.
إنَّ بعضَ الناس ينضجون سريعا ويتطرقون إلى مواضيع فوق طاقتهم أو أعلى من مستوى ثقافتهم العامة. ولما قرأتُ سؤال رنا تذكرتُ موقف يسوع وهو يُجادلُ العلماء وعمرُه إثنتا عشرة سنة ، وكيفَ حَّيرَ جوابُه حتى والديه مريم ويوسف!. وإن كانت رنا في عمرأعلى إلا إنها طرحت سؤالاً قضَّ قبلها مضاجع الفلاسفةِ والعلماء لعقودٍ من السنين. سألت رنا وقالت : ” سؤالٌ حَّيرني جدا.
*| – هل يعرفُ اللهُ كلَّ شيءٍ سيحدُثُ في حياةِ كلِ شخص منا قبلَ أن يولد ؟.
**|| – هل حياتُنا ومستقبلنا معروفٌ من قبل الله ؟.
***||| – هل هوالله مُرَّتبُ كلِ شيءٍ حلو في حياتِنا قبل ما نُخلَقْ في بطنِ والدتِنا ؟.
يعرفُ اللـهُ كلَّ شيء !
قالَ يسوع مرَّة للفرّيسيين مناوئيه ، وقد إعترضوا عليه أنه شفى مُقعَدًا يومَ السبت ،” إنَّ أبي ما زال يعملُ، وأنا أعملُ أيضا “(يو5: 17). ومرة أخرى أراد التلاميذُ سؤاله فسبقهم يسوع وقال لهم :” تتساءلون عمَّا أردتُ قوله ..” وكشفَ رغبتهم ثم تحَّدث عن الموضوع ، فقالوا له :” نرى أنك تعلمُ كلَّ شيءٍ. لا تحتاجُ الى أنْ يسألك أحد “(يو16: 19، 30). وأيضا يقولُ الأنجيل أنَّ يسوعَ عرفَ بأنَّ يهوذا الأسخريوطي يخونه إذ يتآمرُعليه ليُسَّلمه الى اليهود فيقتلوه ، فقال :” أنا أعرفُ الذين إخترتُهم.. إنَّ واحدًا منكم سيُسَّلمني”،وسبق فنعَته بالشيطان (يو6: 70)، ثم كشفَه لهم(يو13: 18-27). وآختصرَ يوحنا كلامه عن معرفة يسوع بكل شيء وعن كل واحد ، فقال: ” لأنَّ يسوعَ كان يعرفهم كلَّهم ولا يحتاجُ إلى من يُخبرُه عن أحد. فقد كان يعلمُ ما في الأنسان ” (2: 24-25).
فعلمُ اللهُ وعملُه واحد. الله خلقَ الأنسان ووضعَ فيه الروحَ الناطقة ، كما خلقَ كل الكائنات الموجودة ونظَّمَ حياتَها ، ويتابعُ عمله. إنَّ عملَ الله ليس فعلا مثل أفعالنا ينتهي. فعلهُ أزليٌ وأبدي لا يتغَّير. إنَّ الله ” لا تبَّدلَ فيه ولا ما يشبهُ التغيير”(يع 1: 17). فمن وجوده يستمرُ اللهُ ويعطينا الوجود ، ومن روحه يُعطينا الروح الفاعلة حسب مشيئته وحسب النظام الذي زوَّدنا به. و مع الوجود يضمن المواهب التي أغدقها علينا لتعمل بشكل جيد. فلو توقف الله لحظةً واحدة في التفكير فينا وإسنادِ وجودنا لآختفينا. فالله هو هو” أمس ، واليوم ، وغـدا ” (عب13: 8)، حاضرٌ دائمٌ بوجودِه وعملِه ، لا ماضيَ فيه ولا مستقبل. وحتى يسيرَ الكونُ كما يريدُه الله يعرفُ كلَّ ما فيه وكل ما يحدث له. يقول سفرُ الرؤيا :” أُكتب الى ملاكِ كنيسةِ أفسس… إني عالمٌ بأعمالك وجهدك وصبركَ.وأعلمُ أنك لا تطيقُ الأشرار… لكنك تركتَ حُّبكَ الأول، فآذكر أنَّى سقطتَ وتُبْ وعُد الى أعمالكَ السالفة “(رؤ2: 1-5). وهكذا يكررُ السفرُ أنَّ اللهَ عالم بحياة قادة الكنائس السبعة وأعمالهم الجيدة والسيئة ، الحاضرة والسابقة، ويقول للسابع :” أعلمُ أنك لستَ لا باردًا ولا حارًّا …سأتقيأك من فمي لأنك فاتر” (رؤ3: 15-16)؛ ” لا يسقط طيرالى الأرض بغيرعلم أبيكم “(متى10: 30)!.
وكما يعلمُ الله ماضينا وحاضرنا فهو يعرفُ أيضا مستقبلنا لأنه يتوقفُ على الطريق الذي نسلكه. يُرشدنا الله الى طريق الحق والحياة الأبدية ، لكنه لا يُرغمنا على السير فيه. كما يُحَّذرنا إذا سلكنا في طريق الشر والهلاك ويدعونا الى الخروج عنه والعودة الى طريق الحق، لكنه لايمنعنا عنه بالقـوة ، لانه إذا منعنا بقوة يكون يحرُمنا حريتنا. وإذا أجبرنا على الصلاح سوف لن نكون صورته أحرارًا عاقلين ولا نشتركُ في ضمان حياتنا الأبدية. علمنا يسوع الجهادَ ضد الشر وتطبيق وصاياه ، ويحترمنا فلا يُرغمنا على الخير ولا يمنعنا من الشر. إنه الأمتحان الذي يخضعُ له كلُ إنسان ، وقد خضع له حتى المسيح لمّا جربه إبليس ليتبع شهواتِه. لكن يسوع سمع كلام الله وأعطانا بذلك المثل لنقتدي به.
عـلمُ اللـه لأنه المُصَّمـم !
يعرفُ الله كلَّ شيءٍ عنا قبلَ أن نولدَ ، بل قبل أن يُحبلَ بنا في بطن أُمهاتِنا. وهذا ما يُحَّيرُ الأنسان لأننا نحن محدودي الرؤية فالمعرفة فلا نستوعبُ كيفَ يمكن لغيرنا أن يعرفَ عنا كلنا كلَّ شيء وقبل أن نوجد في الجسد. إننا لا نستوعبُ كيف أننا موجودون في فكر الخالق منذ الأزل. نقيسُ الله على مقياسنا وقدرتنا وننسى أن قدراتنا ومعرفتنا ليست إزاء الله سوى أقَّلَ من قطرةِ ماء في الأوقيانوس. إنَّ المهندسَ الذي صنع السيارة يعرفُ كيف تتحرك و ما يحدث لها إذا تصَّرفَ السائق بنوعٍ معَّين. لأنه هو صنعها. لا بل يعرفُ ذلك قبل أن يبدأ المعملُ بصنع السيارة. لأنه هو صَّممَها ، وصمم كل شيء بشكل خاص يؤدي دورا خاصا. وصمم كيف تتحرك. لقد فكرَّ عنها كلَّ شيء ، ثم رسمها ، ثم أوجدَها، وهي تسيرُ حسب تخطيطهِ. وإذا خالفت التخطيط فسوف تتأذّى.
تصميمُ اللـه وحريـة الأنسان !
هنا السؤالُ المُحَّير: كيفَ يعرفُ الله كيفَ سنتصرف ، وكيف نكون نحن أحرارا فنختارُ أعمالنا؟. إنَّ الله لم يُحدد أعمالنا ، بل طاقاتِنا. اللهُ يعرفُ ما سنفعله ولا يُملي علينا إرادتَه. الله يُرشدُنا الى سواءِ السبيل لكنه لا يُرغمنا على السير فيه. إنَّ أغلبَ الدول الأوربية قد نصبت كامرات لا فقط لمراقبة المركبات بل وحتى لمعرفةِ ما يفعله الناس. المسؤول الجالس أمام الشاشة يرى حركة المرور، في نفس الوقت، من نواحي مختلفة للمدينة. وهذا لا يعني أنه يقود حركة السير بل فقط يراقبها فيعرف ماذا يحدث. وإذا لاحظَ سيارة خلف عمارة مخالفة للسير ولا يمكن أن يرصدها السائق المقابل ، يعرفُ مراقب الشاشة أنَّ السيارتين ستصطدمان. يعرفُ ولكن لا يريدُ ذلك. وكلُ واحد من السائقين سارَ بحريتِه ولم تؤثر عليهما معرفةُ مراقب الشاشة. هكذا الأنسان لقد أعطاهُ الله الحُرّية من ضمن الوجود والمواهب. وإن كانت أفعالُ الأنسان معروفةٌ لله لاتخفى عليه فلأنَّ الله يُمِدَّها بالقوة التي تحققها. وإذا لم يفعل الله ذلك فيكون قد حرمَ الأنسان من قوة الفعل ، و يظلمُه إذا حاسبَه لأنه ليس حُرًا مثل الله أصله إذ ليس قادرا على عمل كل ما يُريده حتى لو كان مخالفا لمشيئة الخالق. والحرية لم يهبها الله للأنسان لكي يخطأ ويعمل الشر. بل أعطاه إياه ليكون بحريتِه صورة حقيقية لخالقه في آتباع الحق وفعل البر.
أعطانا الله كلَّ ما هو حـلو !
نعم أعطانا الله كلَّ الطاقات والصفات الحميدة التي إذا مارسناها كما تقتضيها طبيعتُها نقطفُ منها ثمارًا تُجملُ حياتنا وتُريحها. لأنَّ اللهُ حلوٌ وجميلٌ وطيبٌ وخَّيرٌ لقد وهبنا ما له. وقد وهبها لنا منذ أن نفخ في الأنسان نسمة الحياة (تك 2: 7)، فأعطانا : الكرامة والحرية على صورته تعالى ؛ الحب والكلام لتنسيق أعمالنا على الحق ؛ اللطفَ والعطفَ لتنظيم علاقاتنا مع الآخرين ؛ التعاون والتضامن والعفو والأستغفارلتحدي مشاكل الحياة الزمنية. لقد نفخَ فينا الله روحه. وثمرُ الروح ” فهو المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف ودماثة الأخلاق والأمانة والوداعة والعفاف “(غل5: 22). كل هذه المواهب زرعها الله في الطبيعة الأنسانية ، مع العقل والعاطفة ، وينالها كلُ فرد منذ تكوينه في بطن أمه لتقودَ حياته الى الراحةِ والهناء.