أهلا وسهلا بالأخ عمـــاد
سأل الأخ عماد : ” إن كان الله هو الذي خلقني فلماذا يفرُضُ عليَّ إرادتَه؟. أكيد أنه أَحَّبني ولهذا خلقني!. وخلقني لأفرح وأَهنـأ فأحيا مثله في الراحة والسرور. فلماذا يُضَّوجُني إذن ويُعَّذبُني بالصوم والصلاة؟. إنه أبٌ طيِّبٌ وشفوق وألتَّذُ بسماع كلامِه وأرتاحُ الى نصائِحه. بسْ لا يُعجِبُني أن يفرضُ نفسَه عليَّ. يُعجبُني أن يحترمَني كإبنٍ له. ما رأيُكَ “؟.
و هل يفرضُ اللهُ شـيئًا ؟
عندما خلقَ الله الأنسان لم يفرض عليه شيئًا. طلبَ منه فقط أن يعيَ حالته أنه سَيَّدُ الخلائق فعليه أن يسودَ عليها ويقودها مع الكون الى كمالها. وحتى يقدر أن يؤَّدي المهمة الى النهاية عليه أن يتكاثرَ فيُنجبَ ناسًا مثله :” أنموا وآكثروا وآملأوا الأرضَ، وأخضعوها وتسَّلطوا على سمك البحر وطيرالسماء وجميع الحيوانات التي تدُّبُ على الأرض” (تك1: 28). ولما إختار لنفسِه شعبًا لم يطلب من إبراهيم سوى ألا يبتعدَ عنه فلا يعوزه شيء :” أُسلك أمامي، وكن كاملاً” (تك17: 1). يريده فخورًا بنفسِه، يرفع دائمًا رأسَه فلا يخجل ولا يخاف مثل آدم وحواء. فالذي يخطأ لا يتجاسر أن يرفع حتى ولا عينيه نحو الله. لأنها لا تقدر أن تنظر الى عيون الله التي تشُّعُ منها القداسة والبراءة والمحبة. فالفريسي” لم يشأ أن يرفع عينيه نحو الساء، بل كان يقرع صدره قائلا: إرحمني يا الله أنا الخاطيء” (لو18: 13).
أولما عقد اللهُ العهد مع الناس على يد موسى أيضا لم يطلب منه سوى المحبة :” أحبب الله من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك. وأحبب قريبك مثلما تحب نفسَك” (تث6: 5؛ أح19: 18). وأما الوصايا فليست سوى تفسيرلكيفية تطبيق وصية المحبة . وحتى يسوع المسيح لم يطالب بغير المحبة التي قال عنها أنَّه عليها ” تقوم الشريعة كُّلُها وتعاليمُ الأنبياء” (متى7: 12 ؛22: 40). المحبة هي جوهر حياة الله (1يو4: 8)، ومن الطبيعي أن تكون جوهر حياة الأنسان أيضا ما دام الله خلقه على صورته ومثالِه (تك1: 26 ). وعليه قال يسوع أنَّ تلاميذه، صورة منه، يُعرفون بحب بعضهم للبعض (يو13: 34-35 ). وحتى المحبة علمَّها الله وحَثَّ الناس على ممارستها، لكنه لم ” يفرُضْها” فرضًا، فلمْ يُعاقب الذين خانوا المحبة وقابلوها بالجفاء والحقد والعنف.
الله نظَّم فأرشدَ ونصـح !
يوم خلقَ الله الأنسان شرَح له موقعه وعَلَّمه، كما تُعَّلِمُ الأمُ طفلَها، كيفَ يتغَذَّى من ثمار الشجر ومن الخضراوات من كلَّ ” شجرٍ أو خضار” في الكون. أوصاهُ فقط ألا يأكلَ من ثمر شجرةٍ واحدة كي لا يموت، لأنه ” يومَ تأكلُ منها موتًا تموت”، قال الرب (تك2: 17). حذَّرَ اللهُ الأنسان من خطر يحدقُ به وأرشدَه كيف يتعامل معه كي ينجو من شَرِّهِ فيحيا حياة السعادةِ والهناء. هكذا يفعلُ كلُّ إنسانٍ يخترعُ أو يصنع آلةً ما لترفيه حياة الأنسان. وكلُّ آلةٍ تحملُ معها ” الكاتالوك” Catalogue وفيه تعليمات كيفية إستعمال الآلة : سيارة كانت أم طيارة أم غسّالة أم كامرا أم طباخًا أم …. أى جهازٍ يستعمله الأنسان. لأنه عندما حَدَّدَ هدف الجهاز صَمَّمَه بشكل يُؤَّدي المطلوب. وزَوَّدَه بكل آلةٍ أو جزءٍ ولو، بُرغ ٍ صغير ، يتعاون بأداءِ دورِه ، ليعملَ الجهازُ بآنتظام فيُحَّققَ هدَفهُ. إذا نقصَه جزءٌ ، حتى لو بسيط ، سوف يعدُمُ التوازن ويسوءُ الأداء و يعطل. كذلك إذا أساءَ الأنسان إستعماله وخالفَ، سهوًا أم عمدًا، التعليمات المرفقة به، فسوف يخسرُ من كل بُّد ويتألم ويدفع ثمن غلطته.
لما خلق الله الأنسان خلقه للراحة. وكَوَّنه، جسديًا وروحيًا، بشكل يُحَّققُ لنفسِه هذه الراحة. وبما أنه عاقلٌ وحُرٌّ، فكرٌ وعاطفة، له رغبات وملذات، له حدودٌ في المعرفة والقدرة زوَّدَه الله بكل طاقةٍ يحتاج إليها ليُشَّغلَ ما يملكه من” أجهزة” ويُحَّققَ هدفَ حياتِه فيرتاحَ ويهنأ. و في نفس الوقت نبَّهَه، زوَّده بكاتالوك سلوكه ليُحَّققَ بسهولةٍ ونبلٍ حياته. عرَّفه أولاً بوجود خطرٍ يحيط به. فحَذَّره منه وأرشَدَه إلى سبُلِ حمايةِ نفسِه منه. لم يطلب الله من الأنسان غيرَ أن يكون” سيِّدًا”. ولم يفرض عليه أو يمنعْه حتى من الإنزلاقِ إلى فخّ ذلك الخطر. بل حَدَّد له حرفيًا موطن الخطر، وأرشده الى العلاج الوقائي منه. و أفهمه أنَّ الخطر ليس بسيطًا ، فلا يُعالج. إنه حَدِّيٌ ونتيجتُه الحتمية هي الموت، أي خسارة جميع إمتيازاته. وهل كان هناك خير أعظم من هذا، أن يحيا حياة الله، ولم يمنَحْه الله إيَّاهُ ؟. هل كان هناك محبةٌ وعنايةٌ أفضل من أن يوَّفرَّ له كلَّ قوتِ الحياة وآحتياجاتها ويُنَّبهه إلى ما يؤذيه ويعلمه كيف يقي نفسه، ولم يبذلْها الله له؟. وهل هناك أمرٌ سلبيٌّ في سلوكِ الله؟. لأنه هو صنع الأنسان فهو أدرى وأجدر ليصف له سبيل تصَّرفه فلا يخسر الحياة. فلماذا يتشكى الأنسان منه؟. لنصغِ الى الله يقول: ” أُحكموا بين كرمي وبيني : أيُّ شيءٍ يُعملُ للكرم وما عملتُه لحبيبي” ؟ (اش5: 4). إذن خلقَ الله الأنسان ” نديمًا له ” يُّحبُه ويُداريه، دون أن يفرضَ عليه شيئًا ما. لكنَّ الأنسان أخطأ فلم يسمع إرشادَ الله وخالفَ وصيَّتَه، وخسر بالنتيجة مقامه. إستحى من الله و” خافَه” (تك3: 10) فآختبَأَ. ولم يُعاقبْه اللهُ ولا أزالْه من الوجود. حاول معالجة غلطته بالتسترعلى “عورتِه”. ولو إعترفَ بخطأِهِ وآعتذر لسامحه الله. لكنه لم يفعل. لم يخطر بباله الغفران بقدر ما أشغله الحَّقُ وآمتلكته العدالةُ بخسران إمتياز العيش في الجنة. لكنَّ اللهَ أظهر له حُبًّا فائقًا و رحمةً عظيمة. أولا وعدَه بأن يُعالجه هو كما يعلم ويفيدُ معه العلاج فيُعيده الى راحةِ الجنة. وثانيًا عَلَّمه كيفَ يسترُ عورَته فعوضَ ورق التين علمَّه إستعمال جلد الحيوان (تك3: 21). حتى هنا يُظهر اللهُ رغبتَه وفعلَه لمساعدة الأنسان لا لوضع حِملٍ على عاتقِه.
وما معنى الصوم والصلاة إذن ؟
ولما كثرت البشرية إزدادت معها الأخطاء والشرور. نبَّهم إليها الله وحذَّرَهم من أنَّ الخطايا تجلبُ عليهم الدمار، لأنّ “الله لم يصنع الموت، ولأنَّ هلاك الأحياءِ لا يسُّرُه (حز18: 23). لكن الأشرار جلبوا على أنفسهم الموت بأعمالهم وأقوالهم ” (حك1: 13-16). رأى الله أنَّ ” الناس يتصَّورون الشرَّ في قلوبهم ويتهيَّأون له نهارًا وليلا” (تك6: 5) فحَذَّرهم من النتيجة ودعاهم الى علاج الشر بتغيير السلوك. مع إبراهيم يقول له كن كاملا. مع موسى يقول لبني إسرائيل ” كونوا قديسين ” ويعطيهم نموذجًا في ذاته ” كما أنا الرب إلهكم قدوس” (أح 19: 1). ويُعطيهم الوصايا وسيلةً لتقديس ذواتهم وعلاجًا لشرهم فلا يخسروا إمتيازاته. و مع يسوع يعطيهم الله دستورا، الخطبة على الجبل (متى5: 1-16)، يُنظمون بموجبه سلوكهم.
أما الصوم والصلاة فدعا إليها فقط. سبق وعلم الله الصيام والصلاة على يد موسى. وطلبها ” تكفيرًا” عن الخطايا. حتى دُعيَ اليومُ المخصص لذلك بـ “يوم الكفَّارة” (أح23: 26-32) . إبراهيم صلَّى الى الله لمَّا تشَّفع لأهل سدوم وعمورة، ولآبنه إسماعيل. موسى أيضا صلَّى وتشَّفعَ لشعبه. إنما لم يكن الله من طلب الصلاة أو فرضها. إيمانهم برحمة الله وشفقتهم على الخطأة دفعتهم الى اللجوء الى الله. ويسوع تحَدَّثَ عن” الصدقة، والصلاة، والصوم” (متى 6: 1-18). إنها علاجٌ أصيل و وسائل قوية مُخْتَبَرة لمقاومة الشر ومكافحته. لأنها ممارسةُ الفضائل الألهية التي مارسَها يسوع نفسُه وقدَّمها الكتابُ ضمانًا لبلوغ الى الراحة الحقيقية التامة: ألا وهي : الأيمان و الرجاء والمحبَّة (1كور13: 13). فيسوع صام (متى4: 2) ، وصَّلى (لو6: 12)، وتصَّدق على الفقراء (يو13: 29) وشرح كيفية ممارسة هذه الأفعال، فقال :” إذا أحسنت الى أحد .. إذا صلَّيتَ … إذا صمتَ ” لا تتظاهر بها أمام الناس، بل إعمله خِفيَةً لا يعرف به غير الله. لم يفرضْ يسوع هذه الممارسات. فهي لا تنبع من هوية كيان الأنسان. ليس في تكوينه مرضٌ حتى يُعالجَ بها. الأنسان في خلقِه قدوسٌ لأنه نفخٌ من حياةِ الله. لكنها حصيلةٌ واقعٍ عاشَه الأنسان فتمَرَّض. ولمَّا تمَّرض إحتاج الى علاج لا يقيه فقط بل يداوي جروحَه، قبل أن تتحَكَّمَ فيه وتُـنتِنَ فتؤَّدي بحياته الى الموت (الهلاك الأبدي) . قدَّمها إذن دواءًا لعلاج الشر الذي سقط فيه الأنسان، ليرفعَه ويساعدَه على عيش الأيمان كما تقتضيه دعوة ” أبناء لله ، وصورة منه”.
فهذه الأفعال تنبعُ من طبيعتنا الروحية وتخدُمُها. الله هو محبة. والأنسان كذلك. والمحبة لا توجد إلا بالنظر الى الأخر والأهتمام به كما بأنفسنا، لاسيما بذوي الحاجة الأنسانية. الله هو قادرٌ على كل شيء، وهو أب يريد خير أولاده، فإذا عصيَ أمرٌ على الأبن يقدر الأب أن يُسعفَه ويحقق له حاجته. والصلاة ليست سوى الحوار مع الله أبينا. كذلك زوَّدَ الله الأنسان بالشهوة ليتواصل مع الحياة لا لآتباع النزوات المنحرفة أو التشَّبث بالملذات وإهمال الحياة الروحية، أي العلاقة مع الله. لأنه إذا خسرنا الله خسرنا كلَّ شيء. فنصَّلي إليه ونسأله أن يحمينا ويغيثنا ويعيننا، ولا نتشَّرد فنغرق في المطاليب الفاهية، أو الأساليب الدجّالة. وأيضًا نصومُ فنتَدَرَّبَ على كسر جماح رغباتنا و” نميتُ فينا ما للجسد ” فلا نحيا للجسد فنموت، إنما ” نميتُ بالروح أعمال الجسد لنحيا “(رح8: 13). ومع أنَّ هذه الفضائل والممارسات دعا إليها يسوع وبيَّنَ طريقة إجرائها إلا إنَّه لم يفرضها أبدًا، ولا رفعها إلى مستوى المحبة. لكنها بدأت على ما يبدو من توبيخ ضميرالأنسان و شعورِه بحاجته الى المساعدة، ولحُّبِه للحياة إلتجأ الى الله القدرة الوحيدة لأسعاف المحتاجين الميؤوسين. والرَّبُ لم يرفُض الطلب بل سبق الطلب وأرشدَ الأنسان الخاطيء بعدم اليأس والرجوع اليه ليعالجه بدواء رحمتِه الشافية. لا يريدُ الله لا أن يُضَّوجَ الناس ولا أن يقلل من إحترامهم، رغم أخطائهم، بقدر ما يمُدُّ لهم يده المعينة منتظرًا أن يتشَّبثَ بها الضعيفُ و البائس والخاطيءُ ليُنَّجيَه من ” ورطته ” ، ويداويَ جروح جسمه وروحه ، فيُفرج عن همومه ومعاناته ويُشركه في راحتِه. ربما نُحِّسُ نحن البشر بعدم الجرأة للأعترافِ بأخطائنا لله أو نخجلُ منه بسببها، مثل آدم ، فنحاول تبرير ذواتنا ونلقي اللومَ، إن لم يكن كلَّه، أغلبَه على الله ونطالبه أن ينزل إلى مستوانا فلا يكون أفضل منا وعندئذٍ لا نخجل منه لأننا نكون قد تساوينا ” في الهوى “. و قبل أن يتهمنا هو بالخيانة لعهدنا معه نتّهمه بالتعالي علينا والقساوة نحونا ونحسبُ أننا، إذا إتهمناه نكون قد كسبنا الجهاد فلا يُعاتبنا على شيء. نتجاهل الواقع مثل النعامة أو نتهَّربُ منه ، وعندئذ لات ساعة مندم.