أهلا وسهلا بالأخ فادي ألبير
كتب الأخ فادي يقولُ :” سؤالٌ عن كتابة الأناجيل الأربعة :
1ـ ماذا عن بقية التلاميذ؟. هل كتبوا والكنيسة رفضتْ هذا الشيء ؟
2ـ هل كانوا جهلة في الكتابة ؟. عفوًا عن التعبير. أسئلة كثيرة تجعلُنا نُفَكِّرُ بالموضوع.
3ـ لماذا إختارَتْ الكنيسة الأناجيلَ فقط من أقَّل عددٍ من التلاميذ ؟.
كتابة الأناجيل !
لم يكتب يسوع المسيح شيئًا. ولا طلبَ من تلاميذه أن يكتبوا. بل طلب منهم أن ” يشهدوا لأعماله وأقواله ” أمام كلِّ الشعوب :” إذهبوا الى العالم كُلِّه ، وأعلنوا البشارة الى الناس أجمعين ” (مر16: 15). الشهادة بإعلان الحقيقة التي أعلنها وعاشها وخَطها سبيلا لخلاص البشرية. فرَكَّز التلاميذ في كرازتهم على الحياة ” في المسيح” أي بأُسلوبه الألهي، لا كما إعتاد أهل العالم أن يفَّكروا ويتصَرَّفوا. لم يهتموا في البداية على كتابة أخبار يسوع. بل على الشهادة بقيامة الرب وإيصال أخبار يسوع شفهيًا (أع2: 42؛ 4: 33). نلاحظُ هذا في رسائل مار بولس. لقد إهتَمَّوا بترسيخ ما علمَّوه في حياة المؤمنين. فكتبوا الرسائل لمن بشَّروهم تأكيدا وتثبيتًا لما علَّموه عن يسوع المسيح.
لم تهتم كنيسة الرسل بدايةً بالكتابة. مات بعضُهم، كالقادة مثل بطرس وبولس، وآستشهدَ رعيلٌ مُهِّمٌ من المؤمنين الأوائل، نموذج الأيمان ورسل المستقبل، قبل كتابة الأناجيل. لمَّا لم يقوَ أعداء المسيح على منع التبشير بالمسيح، بدأوا بتشويه صورته والأيمان به. فأشعَرَ الروح القدس بعضًا من التلاميذ، أعضاء الكنيسة، بالحاجة الى كتابة ” أخبار يسوع ” بالإضافة الى تعاليمه، وتعليمه الألهي من خلال سيرته، لتكون وثيقةً، لمن لم يروا المسيح ولم يُعاصروا التلاميذ، تُثَّبتُ الحقيقة عن يسوع مؤَّيدةً تبشير الكنيسة المستمر عبر الأجيال الى نهاية الدهر، ليطمئنَّ المسيحيون الى الحقيقة التي قبلوها. وقد أجاد لوقا بتثبيت ذلك بقوة في ” تدوين رواية الأحداث، كما نقلها الينا الذين كانوا من البدءِ شهودَ عيانٍ و خُدّامًا للكلمة ، رأيتُ أنَا أيضًا ، بعد ما تتبَّعتُ كلَّ شيءٍ من أُصوله بتدقيق ، أن أكتُبَها إليكَ ( أيُّها المؤمنُ المُوَّقر)، حسبَ ترتيبها الصحيح، حتى تعرفَ صِحَّةَ التعليم الذي تلَقَّيتَه ” (لو1: 1-4).
الكنيسة والأناجيل !
أخبر لوقا أنَّ ” كثيرًا من الناس أخذوا يُدّونون رواية الأحداث التي جرت بيننا ” (لو1:1). لكنه بدا وكأنه غير مقتنع بها. ربَّما لقلة دقَّتِها العلمية النزيهة. ويشهد يوحنا على إِنتشار تعاليم خاطئة مناهضة للمسيح غَضَّ عنها البعض الطَرْفَ فلامهم :” أنت عندك من يتبعون تعليم النيقولاويين الذي أُبغِضُه ” (رؤ2: 15). ويشهدُ مار بطرس أنَّ أعداء الحَّق، وبعضَ المرتّدِّين، كانوا قد بدأُوا بتحريف بعض ما جاء في رسائل بولس بغية إبعاد المؤمنين عن المسيح (2بط3: 16-17).
فالروح القدس الذي قاد حياة الكنيسة، ولا يزالُ الى يومنا، ألهمَ بعض التلاميذ لتحرير الأناجيل، وأوحى ما جاءَ فيها عن المسيح. هذا ما يُؤَّكِدُه مار بطرس :” إنَّ الروح القدس دفع بعضَ الناس إلى أن يتكلموا بكلامٍ من عند الله “(2بط1: 21). كما يقول تعليم الكنيسة :” إنَّ اللهَ عمل، في فرط عطفهِ، على أن يبقى هذا الوحي الذي أنزله من أجل خلاص البشر جميعًا، كاملاً وسليمًا الى الأبد، وأن يُنقَلَ هكذا الى جميع الأجيال… كينبوع لكل حقيقة خلاصية ومصدر لكل دستور أخلاقي” (الوحي الألهي، رقم 7)؛ و” الحقائق المُوحَى بها من الله، والتي تتضمنها وتعرُضُها أسفارُ الكتاب المقدس، قد كُتبَتْ بإلهام الروح القدس ” (الوحي الألهي ، رقم 11). فليست الكنيسة من كلَّفت بعض التلاميذ لكتابة الأنجيل حتى تقبلهم وحدَهم. الروح القدس هو الذي إختار الذين عرفهم أكفاء وجديرين بالمهمة، لأنَّه قد زوَّدهم بموهبة خاصّة لأداء هذه الرسالة. يقول مار بولس بأنَّ الروح القدس هو :” الذي أعطى بعضَهم ( من التلاميذ والمؤمنين الأوائل ) أن يكونوا رسلاً، و بعضَهم أنبياءَ ، و بعضَهم مبَّشرين، وبعضهم رعاةً ومعلمين مُهَّيئًا بذلك الإخوة القديسين للخدمة في سبيل بناء جسد المسيح” (أف4: 11-12). كما ذكَّر الكورنثيين بأنَّ:” كلَّ واحد ينالُ موهبَةً يتجَّلى فيها الروح للخير العام… فوهَبَ أحدَهم الأيمان، والآخرَ الشفاء، ولسواه … وللآخر التكَّلم بلغات متنوعة، ولآخر ترجمتها. هذا كلُّه يعملُه الروح الواحد نفسُه مُوَّزعًا مواهبَه على كلِّ واحد كما يشاء …” (1كور12: 7-11).
عملُ الروح القدس !
فالروح القدس إختار مرقس ومتى ولوقا ويوحنا وأوحى اليهم أن يرووا، كتابةً، حقيقة الرَّب يسوع وتعليمه. لم يختر البقية لا لعدم أهليتهم، بل لأنَّه منح اولئك مواهب مختلفة : كالتبشير والتعليم والتدبير وتنظيم الرعايا وخدمتها. صحيح أنَّ الكنيسة هي التي أكَّدت نسبة الأناجيل إلى هؤلاء التلاميذ، كمَّا أكَّدت أن ما كتبوه هو هذا الحقيقة التي تسند إيمان المؤمنين وتُحَّددُ أخلاقَهم، لتتطابق مع أخلاق المسيح (في2: 5). لم يكتب تلميذ آخر إنجيلا رفضته الكنيسة. وآخِرُ سفرٍ من العهد الجديد هو إنجيل يوحنا وقد حرره حوالي سنة 100م. وكان آخر تلميذ ليسوع يموت مع نهاية القرن، وبموته يتوقفَّ الوحيُ الذي هو المسيحُ نفسُه ” الذي به كلَّمنا الله في الأيام الأخيرة ، وجعله وارثًا لكل شيء” (عب1: 2) ، دون أن يتوَقَّف الروح عن إرشاد الكنيسة الى الحَّقِ كله (يو16: 13)، لأنه يشهد ليسوع (يو15: 26)، ويُذَّكِرُ بكلامه ويُعَّلم فهمَ تعليم المسيح بشكل صحيح (يو14: 26).
وهذا الروح عينه سيكشفُ للكنيسة، كما كشف لبطرس كذب حننيا وسفيرة (أع5: 1-11) ، زورَ بعض الأسفار، كُتِبَتْ في القرن الثاني أو حتى الثالث الميلادي، والمعروفة بالأناجيل المنحولة، لتغَّلُبِ الأُسطورية في بعض أخبارها، ولاسيّما لعدم جدارتها أن تكون مرجَعًا للأخلاق الحميدة والمثالية، إذ لا تُجَّسدُ الصورة الحّقة للمسيح في الحياة. إهتَمَّت الكنيسةُ بأن تعرفَ كاتب الأنجيل وتثق بكفاءَتِه الأيمانية وأهليته الخلقية، دون أن تهتَّم بعدد الأنجيليين. إهتمت بالنوعية لا بالكميَّة، وآلتجَأت إلى أنوار الروح القدس واثقةً باَّن إختياره هو الأصَّح والأنفع.
ونِعِّمَ ما فعل الروح. لقد سبق وتنبَّأ الروح على يد حزقيال النبي عن” أربعة كائناتٍ تشبهُ البشر، ولكلِّ واحد منها أربعةُ وجوه .. وأجنحة .. ولوجوهها الأربعة ما يُشبهُ وجهَ بشرٍ من الأمام، و وجهَ أسدٍ عن اليمين، و وجه ثورٍ عن الشمال، و وجه نسرٍ من الوراء .. وكان كلُّ واحدٍ منها يسيرُ في آتّجاهِ وجهه، وتسيرُ الى حيثُ يشاءُ الروح… وفوق رؤوسِها قبَّةٌ كالبِلَّور الساطع ..وفوق القُبَّةِ شبهُ عرشٍ ، عليه شكلٌ كمنظر إنسان .. كان النور من حوله .. هذا منظرٌ يُشبه مجدَ الرَّب ” (حز1: 5-28).
وهذا يُذَّكرُنا برموز الأنجيليين الأربعة الذين تحَّدث عنهم سفرُ الرؤيا : ” وإذا عرشٌ في السماء، وعليه واحدٌ .. وحول العرش أربعة وعشرون شيخًا …و في وسط العرش وحوله أربعة كائنات حَيَّة مُرَصَّعة بالعيون.. الكائن الحي الأول يشبه الأسد، والثاني يشبه العجل، والثالث يشبه وجه إنسان، والرابع يشبه النسر” (رؤ4: 2-7). و رأت فيها الكنيسة، منذ عهد القديس إيرينه أسقف ليون في فرنسا ـ 130-202م ـ رموزًا للأنجيليين الأربعة : مرقس ولوقا و متى ويوحنا ، حسب أسبقيتهم في كتابة الأنجيل، وما يُمَّيزُ كلَّ إنجيل عن الآخر بالفكرة التي أراد إيصالها عن المسيح، نظرًا لمَن وجَّه إليهم إنجيلَه.
وكما سبق وأشار الروح القدس إليهم في الوحي، فقد أرشد أيضًا الكنيسة في أن تُمَّيز هذه الأناجيل عن غيرها وأنَّها وحدَها صحيحة فتعترف بها وحدَها وتتبعها رافضَةً كلَّ إنجيل آخر. من خلال هذه الأناجيل تشهدُ الكنيسةُ للمسيح وترفعُ التسبيحَ لله على كلِّ تدابيرهِ وتُقِرُّ أنَّ المسيح يسوع ” كان وكائنٌ ويأتي” (رؤ4: 8)، وأنَّه “هو هو بالأمس واليوم والى الأبد” (عب13: 8).
فالأنجيلُ” نهر الحياة ” يُسقي، بفروعه الأربعة، كنيسة المسيح بالحياة الألهية كما أسقى قبلها ” جنةَ الله” نهرُ عدن الذي :” تشَعَّبَ فصار أربعة أنهر، هي :” دجلة والفرات وفيشون وجيحون {النيل} ” (تك2: 10-14). وهكذا يبدو تحديدُ عدد مُحَّرري الأنجيل بأربعة تتميمًا لمشيئة الله ولرسالة الخلاص، والكنيسة أعلنت للعالم مشيئته وتستمِرُّ بإعلانها.