تذكار مار أَدَّي رسول المشرق
تُعَّيدُ له الكنيسة الكلدانية في مثل هذا اليوم من كل سنة. إنَّه أحد تلاميذ يسوع الـ 72. رافق مار توما في جولته التبشيرية لبين النهرين مع خمسة آخرين. أسسوا كنيسة الرها (أورفا). ولما غادر مار توما الى الهند سلَّم إدارة الكنيسة الى أدَّي. فتابع البشارة في وادي الرافدين متجها نحو الجنوب أربيل فالموصل ثم كركوك. توقَّف هنا وعاد الى الرها، وأرسل التلمذين ماري وأجَّاي ليُكملوا تبشير العراق كله. شفى الملك أبجر الأسود من برصِه وعمَّذه مع أهل بيته. وآسمُ أدَّي هو الأول في قائمة سلسلة البطاركة الكلدان.
تتلى علينا اليوم القراءات : أع9: 1-18 ؛ اش49: 7-13 عب10: 19-24 ؛ يو21: 1-14
القـراءة : أعمال 9 : 1 – 18 :– يضطهدُ مار بولس المسيحيين ثم يهتدي ويعتمد ويُبَّشرُ حالا بآسم يسوع.
القـراءة البديلة : اشعيا 49 : 7 – 13 :– يعدُ الرَّب أن يُسَّليَ شعبَه، يترَّحمَ عليه، يُخَّلِصَه ويُعيدَه الى ديارِه.
الرسالة : عبرانيين 10 : 19 – 24 :– يسوع المسيح هو المخَّلصُ والوسيطُ الوحيد للخلاص، وبالأيمان به نخلُص. ومن يخطأُ ثانيةً يصعبُ غفرانُه.
الأنجيل : يوحنا 21 : 1 – 14 :– يتراءى يسوع للرسل للمرة الثالثة والأخيرة بعد القيامة على بحيرة طبرية، ويُثَّبتُ بطرس في مُهِّمةِ قيادةِ الكنيسة.
أنا ذاهبٌ للصـيد !
قلقَ الرسلُ على مصيرهم المجهول الى الآن والضبابي في الأفق المُغَّبَر، وخطرُ الموت يُحدقُ بهم بسبب غياب المعَّلم، سندِهم الوحيد في العاصفة التي هزَّتهم وقلعتهم من جذورهم وقادتهم الى اليأس. فإنَّهم رُبَّما يُحِّسون أن كلَّ ما جرى لهم: من معاشرة المعلم، والأندهاش بأعمالِه، والأنتعاش بأقواله دخل كلُّ ذلك في مسيرةِ مغامرةٍ بلغت نهايتها. ولا يُبقي تعَّلقَهم بالمعلم سوى محَّبتِهم له وبصيصٍ من رجائِهم بتحقيق حُلمهم الذي كاد أن يتبَّخر(أع1: 6). فراودتهم أفكارٌ أن يستعيدوا قيادة دَفَّةِ حياتِهم كما يرونه الأجدى لآنقاذ حياتهم وصيانةِ كرامتهم، فقرر بطرس العودة الى مزاولة مهنته، فلا يُثَّقل أكثر على مُضيفِهم في أورشليم ولا يخسرعائلته بعدَ أن خسر المعلم. إنه أفضل حَلٍّ لرأبِ فشلٍ لم يتوقعه وفراغٍ لا يتحمله أكثر. إنَّه إحساسٌ طبيعي وحكمةٌ بشرية، ” ومن كان من الأرض فهو أرضِيٌّ وينطقُ بكلام أهل الأرض” (يو3: 31).
لم يعُد بطرُسُ واثقًا كُلّيًا من أنَّ الرَّبَ سيُثَّبتُه في منصبِه ومسؤوليته للكنيسة بعدَ أن نكرَه. إنَّه منطقُ إنسان راشِدٍ وعملي. لو كان أحدُ شُركائه الصَّيادين خانه لتخَّلى عنه بطرس و فصله من عمله!. هكذا يفكرُ بطرس أنَّه لم يعُد بعدُ أهلاً بثقةِ المُعَّلم. كان بطرس منصِفًا لمَّا لام نفسَه وبكى بُكاءًا مُرًّا (متى26: 75). ناح بمرارة وندم شديدين قائلاً:” دعاني يسوعُ صخرًا ولكني تحَّولتُ رملاً، فلن يبني على الرمل كنيسته، وإلى قصبَةٍ مرضوضة لا يسنُدَها!. ويلي ماذا أضعتُ؟؟ (مدراش سهرة خميس الفصح).
ونحن نذهبُ معك !
ليس غريبًا ولا بعيدًا أن يُفَّكرَ رفاقُه مثله. إنه يستحِّقُ عقوبة جرده من كل إمتيازٍ رسولي وطرده. وقد يطمع بعضُهم بمنصبِه.ولن يقوَ بطرس أن يُنافسَ من طمعوا بمنصِبِه. أما سبقت أمُّ إبني زبدى وطلبت تعيين إبنيها عن يمينه وشماله، ويُزيحَ بطرس قبلَ أن ينكرَه؟ (متى20: 20-23). كيف بهم الآن وقد نكره؟. لكنهم لا يتجاسرون أن يتحدثوا بذلك، لاسيما وقد تخاذل جميعُهم وتركوا المعلم وحده يواجه المحنة. ربمَّا فكر أغلبهم أنهم قد تعَّروا من نعمة الرب، الذي ظلَّ مع ذلك يُحَّبُهم. ولم يبقَ لهم سندٌ بعد المعلم غيرُ بطرس رئيسِهم في شركة الصيد (لو6: 9-10). وقد شَقّ عليهم بُعدُ المعلم. ولن يتحَّملوا أن يتيتموا أيضًا من أعَّز زميل ومُعين. ولا يتحملون البقاء بين مُعَّلَقٍ ومُطَلَّق!. لا يُخيفُهم بعد بحرُ العالم. ولا يهَّمُهم لا منصبٌ ولا مكسب. يتمنون لو ذهبوا إلى معلمهم لابسين ثوب الندامةِ والتوبة. إنَّه كريم، ولا يتنَّكرُ لهم مهما فعلوا. إنَّه يُحِّبُهم. ويبقى أمينًا لوعودِه ولا يتراجع عنها أو يُخلف بها. لكنهم ليسوا جديرين بفضلِه وسُمُّوِ محَّبتِه.
فخرجوا وركبوا السفينة !
خرج بطرس في سفينته ورافقه فيها ستَّة من رفاقِه المُنشَّدين إليه. فأداروا، في لحظةِ شِدَّة المحنة وذروة الضعف، ظهرَهم لدعوتِهم، إنَّما ببراءةِ قلبٍ وبنيَّةٍ مستقيمة ما يزالون ينهلون من نبع حب المعلم. لم يتحَّملوا غيابه ولا وزرَ البطالة. أطلقوا شراعَهم للريح مُتَّكلين على الله. لكنَّ الرياحَ لم تجرِ كما إشتهتها سفينتُهم. كان بآنتظارِهم جُهدٌ مُخَّيِبٌ وفشلٌ جديد. لقد تخَّلى عنهم الحَّظ ولم يصطادوا حتى ولا سمكة واحدة. بل ترَّبصت بهم مفاجأةٌ على البحيرة . رأوا شبحًا. إنسانًا في الجانب الآخر من الماء. حيَّاهم وسألَ قوتًا. ثمَّ بكلمة منه نالوا صيدًا وفيرًا. شكوا بأن يكون هو الذي إعتبروه بعيدًا عنهم وقد نسيهم وها هوأقرب إليهم من ظلهم . يعملُ لأجلهم. لم يتعوَّدوا على فراقِه وها هو معهم. لم يتعَّلموا أن يروه حاضرًا في حياتهم ، مع أنَّه لم يُغادر قلبهم وفكرهم، وها هو يكشف لهم حضوره.
لم يتجاسر أحدٌ منهم أن يسأله شيئًا. ربَّما إشْتَّدَ خجلُهم بهشاشةِ إيمانهم به. خيبةٌ جديدة ، جماعية هذه المرَّة، تُضافُ إلى نواقَصِهم ، لاسيما هجرهم له ساعةَ المحنةِ الشديدة. هناك خذلوه وهنا تراجعوا عنه. لكنهم لا يقوون على البُعدِ عنه، ولا مُبَّررَ لهم في كلِّ تصَّرفاتِهم. وبرحمته المعتادة يتغاضى عن فعلتهم، و بحبّه الشديد يصطادُهم مرَّةً أخرى مُبَرهِنًا لهم أن صيدَ السمك لم يعُدْ مهنتَهم ولا يفلحون به بعدَ الآن. إنَّهم مدعوون ومُهَّيَأون لصيد أفضل و أسمى : صيد الناس لله. لقد تبعوه واضعين يدهم على محراثه هو (لو9: 62) ليفلحوا حقل الآبِ السماوي، فلن يفلحَ معهم بعدُ شغلٌ آخر. لقد إختارهم لعمله ولتوفيرغذاء الحياة الأبدية . والرَّبُ هو يزودهم بقوت الحياة وبمتطلبات المُهمة ،” فرأوا جمرًا مُتَّقِدًا عليه سمكٌ ، و خُبزًا.. قال لهم : هلموا الى الطعام .. فأخذ الخبز والسمك وناولهم ” (يو21: 9-13) ثمَّ أرشدَهم إلى كيف يؤَّدون رسالتهم، لاسيما بطرس، وأين و متى.
أَ تُحِّبُني أكثر من هؤلاء ؟
بينما إنحرج التلاميذ بل ربما تندموا على تصرُّفهم أكَّدَ لهم يسوع أنَّ إختياره لهم لم يكن لا إعتباطيًا ولا عن نزوة عابرة أو تسَّرُعٍ غير مسؤول. ولم تُغَّيِرْ آلامُه وموته وقيامتُه شيئًا في خطَّتِه وقراره، رغم كلِّ ما احدثته في حياتِهم من تغيير. فهو يعرفُ ضُعفَهم قبلَ أن يختارَهم. وأوظفهم عندَه رغم نواقِصِهم وهفواتهم. لا يزالُ إختيارُه في محَّله. هو لم يتغَّيَر. بل عليهم هم أن يُتابعوا ويُكَّملوا تغيير رؤاهم ليروا كلَّ شيء في بصيرة الله وبمقاييسِه. إنَّ دعوتَهم من الله، ولخدمة الله، وبحسب خطَّةِ الله، وبقُوَّةِ الله (متى20: 23)، والمطلوب أن يصمدوا في نعمتهم ويتجاوبوا مع دعوتهم ويوظفوا طاقاتهم لخدمة الكلمة. عليهم أن يُجروا في حياتهم نقلةً جذرية بتغيير طرق تفكيرهم وعملهم لتتوافق مع طرق الله (اش55: 8-11) . ليس الله بشرًا فيندم ويُغَّير قراراتِه (عدد23: 19)، وليس بعيدًا عنهم وإن كان خفيًا. إنَّه معهم يُرشدهم ويُعينُهم. يريد منهم فقط أن يثقوا به ويُشاركوه عملَه. فالخلاص عملُ الله لكنه يُحَّققُه بيد الأنسان. هو يوَّجه وهم يجتهدون في الصيد. هو يبقى ربَّ الكون وهم يبقون فعلته الجدد. هو قادرٌ على كلِّ شيء و” خبزُه وسمكُه” جاهزٌ في كل وقت. لكنه يطلب من ثمار جُهدِهم ليفرحوا ويتشَّجعوا.
لم يلُم يسوع حركتهم في العودة الى الصيد. بارك بالمقابل وحدَتهم وتضامنهم مع بطرس الذي يبقى، رغم نكرانه، صخرة الكنيسة يقودها بتكليفٍ من المعَّلم وبرعايته ويجُّرُ شبكتَه الى بَرِّ الأمان. لم يتراءَ يسوع للرسل الذين تخَّلفوا عن بطرس في أورشليم. بل تراءى لبطرس ورفاقه ذوي النيات الصافية والمحَّبة الصادقة وثبَّتهم في إيمانهم. لم يسمح لأبليس أن يخدعهم. ويبقى بطرس هو الذي يُحِّب الرب أكثر من كلهم. الرب هو فاحص الكلى و القلوب ولا ينخدع بالمظاهر. الرب أسَّسَ الكنيسة وآختار رئيسًا لها. وهو يُقيم لها جيلا بعدَ
جيل من يخلف بطرس. وسفينة بطرس هي كنيسة المسيح. وكنيسته لن تتمَزَّق رغم ثقل مهامها وجسامة مسؤوليتها ومقاومة رياح العالم لها. و رسل كل العصور والأجيال يعملون
مع بطرس وتحت قيادته. بطرس ضمان أمانتها وثبات هوية حمولتها. نشاطها، ما يصيدون، هو لخدمة الناس وضمان حياتهم، أما بطرس وخلفاؤُه ورفاقُهم فالرب يتكَّفلُ بهم. هم يحمون حقوق الناس والرب يكفل حقهم. و” من يأكل من خبز الرب لن يجوع أبدًا ” (يو6: 35) لأنَّه يوَّفرُ حياةً تدوم للأبد (يو6: 27-51).
إِرعَ خِــرافي !
المسيح هو الراعي الصالح والصادق للأنسانية. إختار من ينوب عنه ويرعاها بآسمه. صحيحٌ أن بطرس نكر، لكنه تاب. لأنَّه يُحبُّ يسوعَ حُبًّا صادقًا. كان نكرانه نتيجة الصعف البشري. أما إيمانه بيسوع فلم يتزعزع ولم تقُّل محبتُه له. لقد صلَّى يسوع من أجله بنوع خاص قبل الآلام حتى لا يفقدَ إيمانه (لو22: 32) وإليه أوكل تثبيتَ إيمان رفاقِه، وليشهد أمام الملأ عن قيامته. كاد بطرس أن يقتنع بأن نكرانه أفقده حَقَّه وآمتيازَه، كما يحصلُ عند الناس. فجاء يسوعُ ليُبَّددَ شكَّه وشكَّ غيره. رسالة بطرس هي تثبيتُ إيمان الكنيسة، ولم يخطأ في ذلك. وإن كان قد قال ثلاثًا :” لا أعرفُ هذا الرجل”، بشهادة يوحنا، فها هو اليوم يُعلن ثلاثًا أيضًا، وأمام ستةِ شهود من ضمنهم يوحنا :” أنتَ تعلم أني أُحَّبُك أكثر من هؤلاء “. الحُّب الأصدق هو ضمانُ تحَّملِ المسؤولية. وبطرس وحدَه خاطرَ بحياته ودافع عن يسوع في بستان الزيتون. سيموت بطرس، لكنَّ مهمتَّه تدوم الى النهاية. وسيُقيم يسوع بعدَه نُوّابًا يخلفونه في رعاية قطيعه. فبطرس، وخلفاؤُه من بعدِه، يرعون الكنيسة ويضمنون حقيقة إيمانها وصدق شهادتها. وعلى المؤمنين بالمسيح الأيواء الى سفينة بطرس والأحتماء الى قيادته.