عــيد الجـسد ، أي القربان المقَدَّس
تتلى علينا اليوم القراءات: ملا 1: 6-11؛ تك14: 1-20 1كور 10: 15-17+11: 23-30؛ يو6: 51-64
القـراءة : ملاخي 1 : 6 – 11: — يتشَّكى اللهُ من سوء تصَّرف الكهنة والذبائح الدنيئة والسقيمة التي يُقَّربونها له. ويتحَدَّثُ عن تقدمة الخبز على المذبح رامزًا بذلك إلى ذبيحةِ القداس.
القـراءة البديلة : تكوين 14 : 1 – 20:– ثارَ ملوك فلسطين على حمورابي فقاد حملةً عليهم وكسرهم فآنهزموا وسلبوا معهم ثروات سدوم وأسروا رجالها، وكان لوطٌ أحدَهم. فقاد إبراهيم حملة عليهم وآسترجع الغنائمَ والرجال. يظهرُ عندئذٍ ملكيصادق كاهن الله العلي فيُقَّربُ لله خبزًا وخمرًا ويستلمُ العُشرَ من إبراهيم.
الرسالة :1 كورنثية 10 : 15 – 17 + 11 : 23 – 30 :– يُؤَّكدُ الرسولُ على وحدةِ المؤمنين بالمسيح تبَعًا لتناولهم جسدَه الواحد في القربان المقدس. ويُخبرُ عن تأسيس سِرِّ القربان المقدس وعن التقديرالواجب للقربان والأستعداد للتناول.
الأنجيل : يوحنا 6 : 51 – 64 :– ينقلُ يوحنا خِطابَ يسوع عن خبز الحياة الذي هو جسدُ المسيح وقوتُ الأنسان الحقيقي الذي يضمنُ الحياةَ للأبــد.
أينَ كرامةُ الله ومهابَتُه ؟
تشَّكى اللهُ من سوءِ تصَّرف الكهنة بتقديم قرابين دنيئة ” خُبزًا نَجِسًا “، وذبائح مَعيوبَةً ” الأَعمى أو الأعرج أو السقيم” من الحيوانات. ولامَهم لأنهم خالفوا الشريعة التي نهَتْ عن تقديم أمثالها قربانًا لله ” لا تذبحوا للرب إلَهِكم ثورًا أو شاةً يكون فيه عيبٌ أو عاهةٌ لأنَّ ذلك رجسٌ لدى الرب إِلَهِكم” (تث17: 1″. وقد رفضَ اللهُ ذلك منذ البدء عندما رفضَ قبول قربان قايين من الثمار الخائسة وحَذَّرَه أنَّ ذلك خطيئةٌ يُجَّربُه بها ابليس قائلاً:” إذا أحسنت عملاً رفعتُ شأنَك. وإذا لم تُحسِن عملاً ، فالخطيئةُ رابضَةٌ بالباب تترَبَّصُ بك وعليك أن تسودها “(تك4: 7). كان على الأنسان (قايين ) أن يتذكَّرَ جودَ الله ويعترفَ بفضلِه ومحَّبَتِه إذ وَفَّـرَ له كلَّ تلك الخيرات، ولا يسترخصَ اللهَ واهبَها بأن يُقَّدمَ له أجوَدَها وأفضلها إعترافًا منه بجميله الذي لا يُثَّمن ولا يُقابَل ولا يُعَّوضَ. الكون وكلُّ ما فيه مُلكُ الله (مز24: 1). و حتى حياةُ الأنسان هي مُلكُه ” نفَسُ من حياته نفخَها فيه “(تك2: 7). فبماذا يفتخرُ الأنسان او يذودُ حتى يتمَرَّدَ على الله ويخالفُ مشيئتَه فيُهينُ كرامتَه ؟.
هل يتجاسَرُ الكهنة فيُقَّربون تلك الحيواناتِ المعيوبة لحُكّامِهم؟. وإذا فعلوا فهل يرضى بها الحاكمُ أم يُعاقِبُ وقاحتَهم ودناءةَ تفكيرِهم وسوءِ تعامُلِهم؟. لأنَّ تصَّرُفًا مثل هذا يدُّلُ على شططٍ في أخلاقِهم وبالنتيجة على إنحطاط في كرامةِ الأنسان نفسِها، لاسيما للطبقةِ المُثَّقفة منه والقائدةِ للشعب ومُرَّبيَتِه على السلوك الحميد المثالي. لقد رفضَ الله من شاوُلَ الملكِ أن يُقَّربَ له ” خيرةَ الغنمِ والبقر” من غنائم الأعداء الوثنيين، وكان قد أمرَ بحرقِها، فرفض اللهُ تحَّديَ شاوُل إرادَتَه ونبَـذَهُ وسحبَ الملوكيةَ من نسلِه (1صم15: 21-26). اللهُ يريدُ الثقةَ به فالطاعةَ له ( هو6:6) والتقَّيُدَ بشريعتِه، لا لأنها فقط منه. كلا. بل لأنَّه هو صانعُ الأنسان يعرفُ ما هو خيرُ الأنسان وما يضُّرُه. ولأنَّه أساءَ، بسبب جهلِه، إستعمالَ حُرَّيتِه منذ البدء فتمَرَّد على الله وخسرَمجدَه، ولأنَّ للهِ خطَّةً يُرشدُ الإنسان الى تنفيذها حتى يُرَّجعَه الى مقامه الأول وإلى كرامتِه المفقودة، يطلبُ الله من شعبهِ، قادةً ومرؤوسين، أن يلتزموا بوصاياه، و ألا يثقوا كثيرًا بأنفسِهم، بعلمهم وقدراتهم، فلا يَتَّكلوا على قناعاتهم من فكرٍ أو قوَّةٍ أو رغبة (هو10: 13). وعلى مَرِّ التأريخ تشَّكى الله، وبمرارةٍ ولوعة، عن نكران الشعبِ المؤمن به لجميله ،” أنا الذي علَّمَهم المشيَ وحمَلَهم على ذراعيهِ، لكنَّهم لم يعترفوا أنّي أصلحتُ حالهم . جذبتُهم إلَّيَ بحبال الرحمةِ وروابطِ المحّبة، وكنتُ لهم كأبٍ يرفعُ طِفلاً على ذراعِه ويحنو عليهم ويُطعِمُهم” (هو11: 1-4). لكنَّ ” البنينَ الذين رَبَّيتُهم ورفعتُهم تمَرَّدوا عليَّ. الثورُ يعرفُ مُقتنيه والحمارُ معلَفَ صاحبِه. أمَّا بنو إسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهمُ شيئًا ” (اش1: 2-3). وهكذا تبَرَّرَ المثلُ القائل :” إِتَّـق ِ شَرَّ من أحسنتَ إليه “!. لا يخافُ اللهُ من الأنسان الشَّرير المُتمَّرد، فهو لا يقدر لا أن يُقَّللَ من مجده تعالى ولا أن يفرُضَ عليه شيئًا، ولا أن يتفَوَّقَ عليه. إنَّما يتألمُ له ويأسف لأنَّه يفقدُ أصالته الألهية وينحَّطُ إلى ثانويتِه الترابية ، فينخدعُ بنفسِه وبالعالم، ويتَّجهُ نحو شقائِه بخسارة المجد الأبدي.
كان القديس يوحنا ماري فْيَّـنِيْ، خوري قرية آرس في فرنسا(+1859م)، أفقرَ كاهنٍ يخدم في أصغرَوأفقرَ رعّيَة. وعندما يريد شراء أوانٍ للكنيسة للعبادة، كالكؤوس والبدلات، يطلبُ أفخرَ وأغلى واحدةٍ منها تقديرًا لمجد الله. لأنَّ كلَّ خيرٍ في الكون هو منه، فهو يستحَّقُ أن نرُّدَ له الجميلَ، من خيراتِه نفسٍها، بأفضلَ ما فيها، وما نقوى عليه. يليقُ بنا ويحُّقُ أن نكون ، في سلوكنا، كُرماءَ ونُبلاءَ، لاسيما مع أكرمَ وأنبلَ أب !.
من يأكل جسدي يحيا فيَّ !
كان الكهنة في العهد القديم يشتركون في أكلِ حِصَّتهم من بعض الذبائح أو التقادم (أح6: 7-11) التي يُقدِّمونها لله. أما وقد زال العهد القديم وحلَّ محَّله العهدُ الجديد ، بذبيحة المسيح الكفارية، فلا فقط الكهنة يشتركون بتناول ذبيحة المسيح بل كلُّ مؤمنٍ مُعَّمَدٍ بآسمه. فيسوعُ قال :” خذوا كلوا، هذا هو جسدي.. وخذوا آشربوا هذا هو دمي للعهد الجديد، يُسفكُ لغفران الخطايا ” (متى26: 26 -28). والدمُ مُقَدَّسٌ لأنه نفسُ الجسد فمُنعَ أكلُه ( أح17: 10-14)، وهو كَفَّارةٌ عن النفس” تُكَّفروا به عن نفوسِكم” (أح17: 11) وإنقاذًا من هلاكٍ محتوم (أح 12: 23). والتكفيرأو الغفران بالخبزِ والدم المُقَدَّسين قال عنه مار بولس بأنه يتِّمُ لأنَّه يوَّحد المتناولين بالمسيح نفسِه. فالقداس هو ذبيحة يسوع يُخبرُ بموت الرب ويُـؤِّون ذبيحَتَه كما على الصليب (1كور11: 26) ليغتسلَ بها كلُّ إنسان فيتطهر من خطاياه. وبتناول المؤمنين جسد يسوع يتَّحدون أيضًا ببعضهم بوحدةِ المسيح الحاضر في كلَّ واحدٍ بقُوَّة الجسد الواحد نفسِه الذي تناولوه.(1كور10: 15-17). فقد أصبحوا كلُّهم مسيحًا واحدًا، والمسيحُ نفسُه نبعُ حياةِ جميعهم.
كان بين الله وكهنة العهد القديم وحدةٌ هي أنَّ الكهنة كانوا موقوفين حصرًا على خدمته في الهيكل. وخدمتهم تكفلُ لهم معيشتهم. وبما أنَّ الله قدّوسٌ فالقداسةُ تُعدي اليهم أيضًا. فهم يتجَنَّبون كلَّ دنسٍ ونجاسة ويُكَّفرون عن دنس ونجاسات الشعبِ بكل فئاتِه. ولكن يبدو أنَّ الطابع الوظيفي إستحوذَ على حياتهم فاقدًا الأحساس الروحي. لأنَّ حياتهم لم ترتبط بقداسة الله وبتبَّنيها، بل بحرفية أدائِها وبأدوارهم الحِسِّية. لذا طرأ عليها إهمالٌ روحي عميق كما لاحظه ملاخي النبي، وبالتالي أثَّر على سلوك الشعب أيضًا فأهملوا شريعة الله لأنَّهم لم يُحِّسوا بحُّبِ الله بقدر ما تأكدوا من عظمته وجبروته، وخافوا منها أكثر من أن يُعِّزوها و يحتموا بها. حتى وحدةُ الكهنة بينهم لم تبدو مُهَّمةً أو مُثمرة ، لأنَّ كلَّ واحدٍ يؤَّدي وظيفته و يقدم خدمته الخاصّة كما هو مطلوبٌ لكي لا يُعاقبوا بالموت. لم يشعروا أنَّ حياتهم مرتبطةٌ بحياة الله أويحيون بقوَّةِ حياته. وحدتهم هي وحدة دائرة العمل الزمني والمحصورة بالهيكل شاؤوا أم أبوا. لقد إختارهم الله لخدمته، خدمةً أبدية، ولا خيارَ لهم لتبديلها (خر28: 40-43 ؛ 29: 9؛ عدد3: 11 -13). وبين عامة الناس سادت علاقةُ المنفعة وطغت بل غطَّت على علاقة المحبة والأكرام.
أما في العهد الجديد فقد تغَّيرت صورةُ الكهنوت من جهة ومن أخرى علاقة الأنسان كلِّه بالله. أصبحت علاقة الأنسان بالله تقاسُ حصرًا بالأيمان بيسوع المسيح وبالمشاركة في ذبيحته الكفَّارية. أما خدمة الله وقضيته فآرتبطت بتمديد رسالة المسيح وبالشهادة له لتثبيت سُلطانه على الكون كله. فالخدمةُ أصبحت رسالةً لا وظيفة. ولتأدية الرسالة وبروحية المسيح يلزمُ الأتّحادُ بشخصِه وتبَّني حياتِه حتى يحيا هو ويعمل فينا (غل2: 20). يقول مار بولس: “نحن جميعًا نعكِسُ صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة، فنتحَوَّلُ الى تلك الصورةِ ذاتِها، وهي تزداد مجدًا على مجد ، بفضل الرب …” (2كور 3: 18).
هذه الحياة تنمو وتتسامى عندما يقتاتُ المؤمن بالمسيح، والمدعو الى الكهنوت بنوع خاص، من حياة المسيح فتنمو فيه الحياة الألهية الأبدية. كما هي علاقة المسيح بالآب هكذا تكون علاقة المؤمن بالله عامة وبالمسيح خاصّةً، ” كما أنا أحيا بالآب الحي الذي أرسلني، فكذلك يحيا بي من يأكلُ جسدي” (يو6: 57). فمن يأكل جسد يسوع ويشرب دمه” يثبتُ في يسوع ، ويسوعُ يثبتُ فيه ” (يو6: 56). فهما مثل” الكرمةِ ( يسوع ) والأغصان (المؤمنون) (يو 15: 5). هكذا ليست وحدة المؤمنين، بينهم أو مع المسيح، مبنيَةً على وظيفةٍ نفعية. ليست مثل الاتحاد أو التحالف التي تقوم بين الناس بآتفاقات سياسية أو ثقافية أو تجارية أو ترفيهية أو تعاونية بناءًا على مصلحة مشتركة وحسب نظام يُتَّفق عليه، تلتزم به جميع الأطراف و إلا يبطل مفعولها وتنحَّلُ العهود. الوحدةُ مع المسيح قوامُها شخصٌ لا منفعةٌ، ولا يتغَّير ولا ينكث بعهده. بُعْدُ العهدِ أبديٌ. ولُبُّ العهدِ لا يتبدل وهو عيشُ صورةِ المسيح الذي دعا ، و يضمنُ جميع مُتطلبات الدعوة، ويُسَّهلُ نمُوَّها وإشعاعَها.
يسوع الذي هو واحد مع الآب هو صادقٌ وقدوّسٌ ومُحِّب، لا يكذب ولا يرمي ظِلاًّ (يع1: 17)، أمينٌ لوعوده (تث7: 9؛ 1كور1: 9؛ 10: 13). أرسل تلاميذه يتابعون مهِمَّتَه مُحَدِّدًا أن يشهدوا له ، فطلب منهم الأمانة لتكليفه وتعليمه حتى صار، بولس لا يدعو المؤمنين إلاّ بصفة ” قدّيسين أُمناء في المسيح ” (1كور4: 17؛ أف1: 1؛ كو1: 2؛ 1بط4: 19).
فالقربان المقدس الذي هو جسد يسوع المذبوح، وليمةً للمؤمنين، يقتاتون به من حياة المسيح لينموا في القداسة والحياة الألهية ويشُّعوها في العالم مُؤَّكدين له أن خطيئة الأنسان الأولى قد غُفرَت فعاد الى التمَّتُع بالحياة الكريمة والمجيدة ضامنًا أبديتها إن لم يتمَرَّد من جديد و يهمل شريعة الله، فـيغرق في سُنَّةِ أهوائِه وشهواتِه.