أهلا وسهلا بالأخ متي إسماعيل
كتب الأخ متي يسألُ :” لماذا يحتفلُ الطقسُ اللاتيني بـ “عماد الرب ” في الأحد الذي يلي السادس من كانون الثاني؟. هنا يُطلقون عليه ” عيد الظهور”. وكما نعلم أنَّ أُلوهية المسيح ظهرت يوم العماد؟. فلماذا هذا الفصل بين الحدثين ؟.
إختلافُ الطقوس عن بعضِها !
لم يكن للرسل طقسٌ مُوَّحد ومُثَبَّتْ لتتبعه الأجيال التالية وتتقيد به كلُّ الكنائس. إقتدوا بدايةً باليهود في طقوس عبادتهم من قراءةٍ للكتاب المقدس وشرح له بالإضافة الى أخبار المسيح وإقامة القداس مع التناول وممارسة المحبة الأخوية في مقاسمة الخيرات (أع 2: 42-46؛ 4: 32-35). ولمَّا إتَّفق الرسل بينهم و حَدَّدوا جهة عمل كل واحد منهم نظَّم كل رسول عمله وعبادة المسيحيين في حدود رعايته وسلطانه. ثم بارشاد الرسل وبرعايتهم ومتابعتهم صارت كلُّ كنيسة محلية تُدَّير شؤونها الأيمانية والأدارية. فتسهر على إستقامة الأيمان و نقاوة العبادة وتُنَّظمُها بشكل يُغَّذي حياة المؤمنين من تعليم المسيح وروحانيته.
وهكذا تنظمت الليترجيات المحلية العديدة والمختلفة بعيدة عن مركزية السلطة العُليا في الكنيسة، ولسبب ظروف الزمن. إِنما بقيت تلك السلطة المركزية في روما ترعاها، مباشرةً أو عن طريق رؤساء الكنائس المحلية، وتسهر على إستقامة الأيمان في العبادة وحمايتها من كل هرطقةٍ أو حتى غموض. وكما إستوحى الرسل من العهد القديم ما يتماشى ويُغني الحياة الجديدة في المسيح هكذا فعل خلفاؤُهم فآستوحوا الحضارات والثقافات المحلية ليُنَّظموا عبادتهم بشكل إلهي وإنساني، لأنَّ اللهَ تأنَّس ليُؤَّله الأنسان. فبنوا على المسيح وعلى شهادة الرسل وتصَّرفهم ما يخدم شعوبهم ويضمن لهم معرفة كاملة وعميقة لله، إنطلاقًا من المسيح، ويساعدهم ليلتقوا بالله وبالناس فيسلكوا معًا للحياة الأبدية.
الإختلاف في الطقوس أي في طريقة تغذية إيمان المؤمنين هو بذاتِه غِنًى، إِذ تتعَدَّد طُرق الوصول الى الله حسب ظروف كل شعب. أمَا إختلفَ الأنجيليون في كتابة أسفارهم ؟ لماذا ؟ لأنَّهم توَجَّهوا الى شعب معَّين وجمهورٍ تُمَيِّزُه خصوصيات، فآختاروا، من حياة المسيح وتعليمه، ورَكَّزوا على ما يُؤَّثرُ فيهم فينفعهم ويبني إيمانهم. إذًا إختلفت الطقوس لأنها تأَّثرتْ بالبيئة التي تنَّظمت فيها. فكما جعل الروح الغرباء أن يفهموا لغات مجهولة عنهم (أع 2: 7-11)، هكذا يجعلُ الغرباء يصلون الى الله بطقوس مختلفة وتكون ” عبادتهم الروحية ذبيحةً حيَّةً مقَدَّسةً مرضيةً عند الله ” (رم12: 1).
بين العماد والظهور !
أتى إستغراب السائل الكريم لأنَّه يعيش في ألمانيا ويمارس إيمانه في كنيسة طقسُها لاتينيٌّ غريبٌ، وإن كان كاثوليكيًا، عمَّا تعَوَّد عليه وهو كلدانيٌ من العراق. يُشّدِّدُ الطقسُ الكلداني على إعتلان المسيح للإنسانية على يد يوحنا وعلى ظهور الله في حقيقةِ جوهره” الثالوث”.
ظهر لموسى في حقيقة أنَّه ” الوجود : هو الذي هو”. وظهر في عماد المسيح أنَّه ” ثالوث : الآب والأبن والروح “. وهذا ما تشير إليه كلمة ” دِنْحا ܕܸܢܚܵܐ” أي” الظهور”، ظهور حقيقة الجوهر الألهي. وبالنتيجة يسوع هو المسيح، هو الله.
الظهور !
أمَّا الطقس اللاتيني فأحَبَّ أن يُرَّكز على الظهور الألهي وأبعاده في الأحد الذي يقع بين 2-8 كانون الثاني، أو في 6/1 ,ودعاه Epiphany، وعلى عماد يسوع Baptismوتداعياته في أحدٍ يليه. فصل بين الأمرين، وإن كانوا قد إكتملوا في حدثٍ واحد. دُعي الأحد الأول ” ظهور الرب ” والثاني” عماد الرب”. يرمزُ الأول إلى أنَّ يسوع ” جاء مخَّلِصًا لا فقط لليهود بل لكل الشعوب، وهو ملكُها. تشير اليه القراءة الأولى من نبوءة إشعيا : ” قومي آستنيري.. لقد وافى نورك. مجد الرب أشرق عليك.. تسير الأمم في نورك والملوكُ في نور إشراقك ..” (اش60: 1-6). وأورشليم رمزٌ للكنيسة التي ظهر عليها مجد الرب. و أيضًا خبر المجوس والنجم الذي ظهر لهم يُقرَأُ في إنجيل متى (2: 1-12). هذا النجم قاد الشعوب الى الأعتراف بلاهوت يسوع. يسوع هو الذي يجمع في ذاته كلَّ الشعوب، و الكنيسة تتابع مهمته. وهذا ما ستتكلم عنه الرسالة الى أفسس (3: 2- 6).
العماد !
ركَّز الطقس على العماد وأبرز بُعدَه اللاهوتي. يسوع يتضامن مع الإنسان في خطيئته. فهو ” يقبل أن يُشَّكلَ إنسانًا واحدًا كاملاً مع الخطأة “. دعا يوحنا الى توبة الأنسانية بالأعتراف بخطيئتها في آدم الذي” كان صورة لمن يجيءُ بعدَه” (رم5: 12-14)، والعمادُ رمزُالتوبة. عماد يسوع رمز توبة الأنسانية وآهتدائها الى طريق البر، وسيحملُ وزرَ الخطايا على الصليب ويغسلها بطلب الغفران عنها. بالعماد والصليب غلب المسيح الخطيئة والموت. يسوع يبدو مُخَّلصًا كما تنبَّأَ إشعيا ويُحَّققُ العدلَ ويُثَّبتُ الحَّقَ كما أخبرت عنه القراءة الأولى (إش42: 1-7). وبينما تؤَّكد القراءة الثانية شمولية الخلاص (أع10: 34-38)، يؤَّكد نَصُّ الأنجيل أن يسوع قدَّم نفسَه مسيحًا ” لا بصفته قاضِيًا قاسيًا، بل متواضعًا مع التائبين و متضامنًا مع خطيئة العالم” (متى3: 13-17).. فيسوع مثال من يريد أن يُصبحَ إبنًا لله، لأنَّ الله سيُقَدِّم للعالم كلَّ المعمدين أبناء له، لأنَّنا أصبحنا، بعمادنا، واحدًا مع المسيح ونِلنا الروح الألهي مثله، هو الذي تضامن معنا والذي دعاه الله ” إبني الحبيب، به سررتُ”. فيسوع إلَهٌ وإنسان. وكلُّ مُعَّمدٍ إبنٌ لله.
وبفصل الطقس اللاتيني العماد عن الظهور أغنى الصلاة وأعطى للمؤمن مدى أوسع للدخول الى حياة الله من جهة، ومن أخرى الى التذكير بدعوتنا كمُعَمَّدين بآسم الثالوث على مِلاكِ المسيح وتداعياتها. ومن عادة الأنسان أن يُفَسِّخَ كلَّ ما بين يديه كي يصل الى معرفة أعمق وأفضل وبالتالي إلى إستعمال ذلك الشيء والتفاعل معه بطريقةٍ أفضل.