تتلى علينا اليوم القراءات : ملا1:6-11 ؛ 1كور10: 15-17+11: 23-30 ؛ يو6: 51-64
الرسالة : 1 كور 10 : 15-17 + 11 : 23-30
يكتب بولس لأهل كورنثية وهم يونان، واليونان معروفون بأهل العقل والحكمة، فيعرضُ عليهم تعليمه ويطلب منهم أن يحكموا هم على منطقه إنْ كان سليمًاا أم لا. هو يُعلن فكرَه و إيمانه. لا يفرضُه عليهم. بل يُطالبُهم أن يعملوا جُهدَهم أولا في فهم الموضوع ثم الحكمَ عليه بعقل لا بعاطفة أو محسوبية. بولس يعرف أنَّ ما يقوله معقولٌ وعينُ الحَق. لكنه لا يفرِضُه بل يريدُ أن يقبله المقابل بحُرّيته وقناعته بعد أن يستعملَ عقلَه بنزاهةٍ وصِدق. وهذه هي ميزة البشارة المسيحية.
نحن كلُّنا جسدٌ واحد !
كيفَ نكون جسَدًا واحدًا ونحن أشخاصٌ مختلفون ولكل واحد منا جسدُه الخاص. هل نذوبُ في بعضِنا؟. هل نُلصَقُ ببعضِنا؟. كيف ؟. إنَّ جسمنا نفسَه يتكون من أعضاء كثيرة ومُتمَّيزة عن بعضِها. لكنها تُشَّكلُ كلها معا جسمًا واحدا. لأنَّها كلَّها يأتيها نفس الدمُ المحيي من نفسِ القلبِ الواحد. وكلها تستلم الأوامر من المُخّ نفسِه. وكلها تعملُ في إطارٍ واحد لتنعش الحياة وتحفظها. هكذا نحن المسيحيين أعضاءُ كثيرة ومتمَّيزة عن بعضها ولكنها تستلمُ حياتها من نفس المصدر وتغَّذيها بنفس القوت وتنَّميها وتصبو الى نفس الأتّجاه. فالأيمان بنفس المسيح والأنتماءُ إليه وحدَه، ونقتات من جسده ودمه، فتسري فينا جميعًا نفسُ الحياة ونفسُ القوة. فبتناولِ جسدِ المسيح الواحد نفسِه وشُربِ دمه الواحد نفسِه نُصبحُ كُلُّنا، وكلُّ واحد منا، مسيحًا لأنَّ المسيح الواحد يحيا فينا.
مثلً: بالتناول يُصبح بطرس المسيح (بقوة المسيح الحي فيه). و بولس أيضًا بالتناول يًصبحُ المسيح (بقوة المسيح الحي فيه). لقد قالها بولس حرفيا للغلاطيين :” لستُ أنا الحي. بل المسيحُ يحيا فيَّ “(غل2: 20). إذًا بطرس = المسيح. بولس أيضا = المسيح. والمسيحُ واحد. فإذًا بطرس وبولس أصبحا بقوة المسيح الذي فيهما واحدًا. و هكذا نقدر أن نقول بطرس هو بولس، وبولس هو بطرس، لا بالجسد المادي أو السلوك الفردي. وإنَّما بنفس الحياة الألهية التي يُشاركان فيها. هذا هو مفعول التناول. وكما تتحَّولُ مئات حبات الحنطة الى قطعةِ خبز واحدة، هي تختفي وتبقى متحدة ، و وحدتها هذه تُظهرُ كيانًا جديدًا يبرزُ ويُعرَف ويُسَّمى خُبزًا، هكذا يندمجُ كل المسيحيين في يسوع ويُكَّونون جسَدَه السّري. لذا لم يترَّدد بولس أن يقول بأننا كلنا نحن المسيحيين، حتى لو كُنا ملياراتٍ، ومنتشرين في الأقطار الأربعة، إلا إنَّنا ُشَّكلُ جسدًا واحدًا بقوة حياة المسيح التي تجري في جميعِنا. ولا يعني بولسُ تشكيلَ قوَّة عالمية زمنية لأغراضٍ دنيوية، إقتصادية أو سياسية. بل يعني وجودَ شعبٍ مُتَّحدٍ بالمسيح، مُتَأَّلهٍ وقوّي، وقد تأسس على الحق والبر، ويعملُ ضد الشر لخلاص كل الناس. فبنعمة سر القربان المقدس تتحَّول الجماعةُ المسيحية الى المسيح نفسه تعيش وتتصَّرف مثله، فيكون المسيحُ يحيا ويشُّعُ من خلال مليارات المؤمنين المندمجين فيه.
تلَّقيتُ .. بلَّغتُ !
الأيمانُ والحَقيقة وديعةٌ تُسْتَلَم وتُسَّلَم. يسوع عمل معجزات بتخويلٍ من الآب (يو5: 36) وقال للناس ما سمعه من الآب (يو8: 27)، وبلَّغ اليهود الحَّقَ الذي رآه وسمعه عند الله (يو8: 38-40) ، وأكَّد أنه يتحَدَّثُ بما يَعلمُ ويشهد بما رأى (يو3: 11) وأنَّه يبَّلغ تعليم الله (يو7: 16). أي كلُّ شيءٍ آتٍ من المصدر. وهكذا يفعل بولس وبطرس وكل التلاميذ فيُبَّلغون ما شاهدوه أو سمعوه أو أُمروا به ولم يتبعوا خرافات مصطنعة (غل1: 12-18؛ 2بط1: 16-17؛ 1يو 1: 1-2). فنقل بولس عن يسوع، وبعدما عاين لدى بطرس كيفية تجديد سر القربان، خبرَ تأسيس سر القربان المقدَّس لضمان حضور المسيح مع المسيحيين بصورة غذاء ليُجَّددوا ، بواسطته، حياتهم الروحية، ويشهدوا له بسلوكهم الألهي، ويسندوا جهادهم ضد الشر والفساد. فَسِّرُ القربان يُذَّكرُ ويُؤَّون حقيقةَ آلام المسيح وموته الكفاري وقيامته. و بولس صورة للمؤمن الحقيقي بالمسيح. والمؤمن بالمسيح هو تلميذُه وشاهدٌ له. وقد طالب مرارًا من الجماعات الكنسية التي أسَّسها أن تقتديَ به كما هو يقتدي بالمسيح (1كور11: 1 ؛ 1طيم1: 16؛ في4: 9؛ 2تس3: 7-9 ). وهنا، ودون أن يُدَّونها حرفيًا، يقول لنا إعملوا مثلي. لقد تلقيتم مني عن حياة المسيح وتعليمه ومشيئته، وجاءَ دوركم لتَنقلوا كلَّ ذلك بأمانة إلى كل من لا يعرف المسيح ولاسيما الأجيال التي تخلفُكم. كما تلقيتم تنقلون، وكما إستلمتُم تُسَّلمون.
ليُحاسب الأنسان نفسُه !
ويختم بولس كلامه فيدعو الى فهم هذا السر وتوقيره. إنَّه طعامٌ يُغَّذي الحياة الروحية كما تُغَّذي الأكلاتُ المادية الحياة الجسدية. إنما يفوقُ هذه التي تزول لأنَّ القربانَ يوَّفرُ الحياة الأبدية. فلا يكون تناول القربان مثل تناول الأطعمة المادية. فيدعو الرسول المتناولين أن ” يُحاسبوا أنفسَهم ” ويفحصوا ضمائرهم فلا يتناولوا وهم خطأة، وقبلَ أن يتوبوا ويتنقَّوا عن خطأِهم. يجب أولاً أن يؤمن بأن القربان المُكَّرس أصبح جسد المسيح ودمه. بغَّضِ النظر عن أنه يحتفظ بمُقَّوماتِه المادية الظاهرة. لا يمكن أن نرى جسد يسوع إلا بواسطة أعراضِه الحِسّية. لكن هذا المظهر يَدُّلُ على سِرٍّ لا نراه هو وجود يسوع بكل أبعاد جسده الممَّجد و لاهوته بشكل هذا الغذاء. ليس بعدُ خبزًا أو شرابًا ماديًا بل هو المسيح الحَّي الذي تغَّلبَ ، بذبيحتِه، على الشر وعلى الموت و دخلَ الحياة الخالدة ويُشركنا بتلك الحياة عن طريق تناول جسده ودمه. فمن لا يؤمن بهذا لا ينفعه التناول، وإذا تناولَ ” يحكمُ على نفسِه “. كمن يتناول حَبَّة باراسيتول للحمَّى عوض أثىنولول للضغط ويستمر على ذلك فيؤذي نفسَه، إذ تحصل له أمراض أو يهلك ،” لذا فيكم مرضى وضُعفاء .. ومن هلكوا “!.
وبالمقابل من يعرف أنَّ القربانَ جسدُ المسيح ودمُه ومع ذلك يتناول وهو غير لائق بمقام الرب فيه، إنَّه يُهين قداسة الرب. فهو لا يُحِّبُهُ، ولن يكون مسكنًا لائقًا ليُقيمَ فيه الله (ي14: 23)، و يكون كمن يضعُ جوهرة ثمينة في سلة القذارة. السَّلة لا تفتخر ولا يُكَّرمها أحد. الجوهرة تتشَّوه إذ تتلَطَّخ بالوسخ. لا يرى الناس جمالَها وبريقَها. إنها لا تفقد قيمتها بذاتها إنَّما يُقَّللُ الناسُ قدرَها ولا يشتهونها ولا يشترونها. فمن لا يوَّقر القربان يُشَّوه صورة المسيح ولا يُقَّدرُ جمال القداسةِ وغلاوتَها. فلن تكون شهادته عن المسيح صادقة وحقيقية. لن يبقَ بعد نورًا. لأنه عوضًا عن أن يُحَّببَ المسيح في عين الغرباء فهو يُبْعِدُهم عنه. لذا فهو” يجني على نفسِه “.