تتلى علينا االيوم القراءات : أع1: 21-26 ؛ عب12: 18-25 ؛ متى17: 1-8
الرسالة : عبرانيين 12 : 18- 29
دعا الرسول المسيحيين، من أصلٍ عبراني، إلى متابعة الجهاد للأكتمال في الأيمان وتحَّمل الضيق والألم على خُطى المعَّلم لأن الألم يُطَّهرُ النفس ويُقَّوي الرجاء، ولهذا يسمح به لله لهم لأنهم أبناؤُه يُؤَّدبهم، وعن طريقه يُسَّهل لهم نيل إكليل المجد. فلا يستهينوا بتأديب الرب لأنه عن محَّبة. وذلك نعمةٌ من الله فلا يكفروا بها. تنَّكرَ عيسو لنعمة البكورية من أجل وجبة أكل (تك25: 29-34) ولم تنفعه بعدَه الندامة المُرَّة لما أحَسَّ بعظمة تلك النعمة. وآرتعبَ الشعبُ على جبل سيناء حيث تجَّلى له الله وآقتربَ ليقبل العهدَ، فقابل رهبة ” نار حاميةٍ وضبابٍ و ظلام وإعصار” (خر19: 16)، فطلب ألا يُكَلِّمَهم الله بل أن يكلِّمَ موسى خوفًا من أّلا يموتوا وموسى يبَّلغُهم كلامَ الله (تث5: 25-27).
إحذروا أن تُعرضوا عن سماع الله !
يُذَّكرُ الرسولُ المؤمنين بأحداث تجَّلي الله على جبل سيناء ونتائجها برفض الشعب قربَ الله و حديثه المباشر. فيُفهمُهم أنَّ الأقترابَ من الله نعمة عظيمة. كان الأنسان الأول يعيشُ مع الله في راحةٍ وسعادة. فيدعوهم الى عدم المساومة بين الأيمان بالله والخيرات الزمنية، وعدم الأنهيار أمام ألأضطهاد الذي كان قد ذرَّ قرنه منذ أكثر من عقدٍ، والذي يُهَّدِدُ بالموت. حتى الموت نفسُهُ نعمةٌ وغنيمة (في1: 21)لأنه يُنهي حياة الشقاء الذي إنقلبَ إليها الأنسان بسبب الخطيئة (رم5: 12) ويستعيدُ راحته إذ يقودُه الموت إلى الحياة مع المسيح في نعيم الفردوس المفقود. إنما يتحَقَّقُ هذا إذا سمع المؤمن لله وحافظ على قربه منه وأمات جسدَه ليحيا للروح ويسلكَ دربَه لأنَّ الروح ينزعُ الى الحياة والسلام (رم8: 4-14). وإذا كان تجَّلي سيناءَ فعهدُه الأول مُخيفًا بل مُرعبًا حتى ” إرتعبَ موسى نفسُه وآرتعَد”، إلَّا إنَّ العهد الجديد على جبل طابور، وعلى يد المسيح كان هنيئًا ومريحًا. فبينما خافَ الناسُ في سيناء من المنظر الرهيب المُفزع والتهديد بالبطش الذي رافقه لمن يتجاوز حدَّ الجبل المُحَدَّد (خر 19: 21) نقرأُ في الأنجيل عند التجَّلي عن راحة التلاميذ الشهود وعن أُمنيتهم في إطالة البقاء هناك: ” يا سَيِّد ! ما أجملَ أن نكون هنا “!( متى17: 4). قارن شارحٌ للكتاب المقدس و قال عن المشهدين :” ترَّكز الوصف في العهد القديم على: الجبل الملموس، الفرائض، التحذيرات المخيفة، العقوبات المنتظرة ؛ أما المؤمنون بالمسيح فما نالوا مثل العهد القديم. .. في عهد سيناء كلُّ شيء مادّي رهيب. أما في التنشئة المسيحية فكلُّ شيءٍ سماوي و روحي”، يتعَلَّقُ بالأيمان والخلاص” (أف2: 8)، لا بشريعة النواهي الزائلة (كو2: 20-23).
وهذا يعني أن العهد في المسيح ووصِّيَتَه هي الأصَّح والأكمل، في حين يبقى العهد الأول تهيئةً فقط للثاني. ومن عرفَ الثاني لا يليقُ به أن يتعَّلق بالسابق الزائل. وكم بالحري عليه أن يتعَّداه إلى الجديد الذي لا يزول. وإنُ كان الله هوالمُتكَّلم في الأول دون أن يرُى إلّا إنَّه يبقى هو أيضًا المتكلمُ في الثاني، : ” هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررتُ. إسمعوا له “. إنهم قريبون من الأله الذي” يدينُ الخلقَ أجمعين”،.. من” يسوع وسيطِ العهد الجديد”. ففي شخص يسوع هو الله المُتجَّسد، وقد عاين البشرُ مجدَه وأحنوا أمامه قاماتهم. شعبُ سيناء لمْ يرَالله ولا حتى موسى نفسُه رغمَ طلبه إلمُلّحِ على ذلك (خر33: 18-23). أما شعبُ يسوع فرأى مجدَ الله ” وجهًا لوجه “، إذ قال :” من رآني رأى الآب ” (يو14: 9)، لأني ” أنا والآب واحد” (يو10: 30).
عدم العودة إلي عهد سيناء !
إستنتجَ الرسولُ : ” إذًا يجبُ ألّا يرجعوا إليه ” (شرح خر19: 21). لا يحتاج المسيحي إلى العودة الى عهد سيناء، لأنَّ أُسسه وبنوده مختلفة. كانت الأولى ناقصة ومُهَّيئة لنظام العهد الجديد. ولما جاء الجديد زال القديم. ذلك ” لأنَّهم لم يثبتوا على عهدي، قال الرب، فأُهمِلُهم أنا أيضًا” (عب8: 13). العهد القديم لم يُثمر لأنه كان من الأرض فأُلغيَ (متى21: 43)، ومن الباطل العودة إليه. كان ماديا يخص النواهي والتحذيرات تخُّصُ الجسد. أما الجديد فهو من السماء (عب1: 1-3 ؛ يو3: 13)، روحي يخُّص تجسيد حياة الله .عاشت الأنسانية زمنًا طويلا مرتبطةً بالأرض وحياة العالم. آن الأوان لتعيش نموذج خالقِها حياة الفكر والقلب، حياة الضمير. في سيناء قامت هوَّةٌ وحواجزُ بين الله والأنسان. الله قدّوسٌ والأنسان قد تدَّنس. أما في طابور فالله قد تأنَّس والأنسان تقَّدس بآتحاده بالله. في سيناء تكَلَّم الله فقط مع موسى، أما في طابور فكان موسى مُصغيًا والأنسان يتكلم مع الله دون وسيط. لا يُخيف الله مثل الأول لأنّ الأنَسان بات يسمع صوته، فقد صار الله في داخلهِ.
إنها خليقة جديدة صُنعَت على الصليب وباتت تقتاتُ من جسد الله المُتجَّسد ودمه. حافظ العهد الأول على روح العنف و الأنتقام لأنَّ الأرض تطالبُ بدم هابيل (تك 4: 10). تلك عدالة البشر. أما عدالة الله فظهرت في دم المسيح وأعلنت الغفران (لو23: 34) مصالحة بذلك الله مع البشر، وفاتحةً باب العودة الى الفردوس، مملكة نعيم الله (عب10: 19. ولمَّا أصبحت حياةُ الله داخل الناس، وعادَ الأنسان داخل الفردوس فكيف يعودُ المؤمن ويعزلُ نفسَه من جديد عن الله، وعن مبادئِه؟. والعهدُ الجديد يملكُ في جوهره تجَدُّدًا يحميه من التعَتُّق. لن يشيخ ولن يزول لأنَّه قادرٌ أن يُغَّير الأنسان ويقوده الى كماله. كوَّن موسى شعبًا تزعزعه أركان العالم. أما المسيح فاَّسسَ مملكةً لا تقوى عليها ” أبوابُ الجحيم “(متى16: 18)، لأنَّ سيِّدَ هذا العالم قد حُكمَ عليه (يو 16: 11)، وفقد سُلطانه على الإنسان المُتاَّلِه (يو14: 30). مملكة المسيح تأسست على القِيَم الألهية، و نال لنا ” فداءًا أبديًا ” (عب9: 12). والله وحده كامل، لا يتغَّير، لا يشيخ، ولا يزول. وما يقوم عليه يبقى مثله كاملا أبديًا لا يحتاج الى تغيير. ومن يمتلكه ثم يتنازل عنه ويخرج من مملكة الله سوف يخسر. وأنهى الرسول كلامه في هذا الصدد فقال: ” فنحن وقد حصلنا على ملكوتٍ لا يتزعزع، فلنتمَّسك بهذه النعمة ونعبد الله عبادةً يرضى عنها، بتقوى و ورع ” (عب12: 28).