الأحد الثاني للصيف !

تتلى علينا اليوم القراءات : اش3: 16 ـ 4: 6 ؛ 2كور3: 4-12 ؛ لو15: 11-24

الرسالة : 2 كورنثية 3 : 4 ـ 12 (18)

v يتصاعدُ التَوَّتُر بين بولس والكورنثيين المُفتخرين والمتباهين بثقافتهم الفكرية أو بتراثهم الديني الموسوي فينفشون ريشَهم في وجه بولس ويُضايقونه، لأنه على ما يبدو، رفضَ التكتَّل الذي يقيمونه حول هذا أو ذاك من الرسل. يرفضُ الأفتخارَ بأحدهم وتفضيلَه على غيره. باني الكنيسة ونورُها وقائدُها هوالمسيح. أمَّا الرسل، ومنهم بولس، فهم يعملون وُكلاءَ للمسيح. هذا عنوان مهمتهم ، ومطلوبٌ منهم الأمانة. لذا فمحاسبتُهم وتقييمُ عملهم يعودان الى المسيح لا الى المؤمنين. فلا تهُّمُ بولسَ دينونتُهم، ولا ينتظرُ مديحَهم. إنَّ ضميرَه مُرتاحٌ ، والرَّبُ كفيلٌ بأنْ ” يُنيرَ خفايا الظلمات ويُظهرَ سرائرَ القلوب ” (1كور4: 5).

عهدُ المسيح عهدُ الروح !

فوصايا الله نحتَ موسى حرفَها على حجر، والشريعة كتبَ حرفَها على الورق. ومع ذلك لم يثبت الشعب على العهد. أما المسيح فقد طبع شريعتَه في فكر السامعين وقلبهم. كما تنبَّأَ عنها النبي: ” سأقطع لبني إسرائيل عهدًا جديدًا…وأجعلُ شريعتي في ضمائرهم وأكتبُها في قلوبهم ..”(إر31: 31-33؛ عب8: 8-10). كان هدفُ الشريعة أن تقودَهم إلى المُخَّلص الموعود. و تُهَّيئَهم لآلتقاطِ كلمتِه وحفظها وتفعيلها في حياتِهم. ولم يتحَقَّق ذلك لأنَّ االشعبَ لم يستوعب البُعدَ الروحيِ للعهد وقوَّتَه، فنقضَه. أمَّا المسيح فلم ينقض العهدَ الأول بل كمَّلَه (متى5: 17). ولأنَّه لم يُثمر بيد الشعب المختار فقد لغاه الله وعقد، على يد المسيح، عهدًا جديدًا يُنتجُ ثمرًا ( متى21: 43) يُغَّذي الحياة الأجتماعية ويُريحُها. فالمسيحية تسلُكُ هذا سبيلَ الروح لا الحرف .. وينزعُ المؤمنون الى ما هو للروح .. الحياة والسلام” (رم 8: 4-6). والعهد على يد موسى لم يُخَّلص الأنسان ولا غفر خطيئته، لذا دعاه بولسُ ” عهد الحرف”. و لا حياة للحرف إذ هو بلا روح، فهو بذاتِه مميت. أمَّا الحياة فهي في ما يدعو إليه الحرفُ . و خدمَةُ ذلك العهد دعاها بـ ” خدمة الموت”، بينما دعا خدمة عهد المسيح بـ” خدمة الروح” ، لأنَّها خدمة الله الحي. والله روحٌ وخدمته أيضًا تكون روحية. والروح يتفَوَّقُ على الحرف كما تتفَوَّق الحياةُ على الموت. والحرفُ وحدَه بدون الحياة يقتُل. الحرف وسيلة فقط ، من خلاله ، يصلنا صوتُ الروح. وصوتُ الروح هو الأساس لا الحرف الذي يعزفُه.

أُحيط العهدُ الأول بالمجد !

رغم حرفية خدمةِ العهد الأول إلا إنَّها أُحيطت بالمجد. إِذ كان مجدُ الله ينعكسُ على وجه موسى. عندما كان يتحَدَّث إلى الله كان وجهه يشُّعُ مجدًا خافَ منه الشعب فآضطُرَّ موسى أن يُغَّطيَ وجهه بقناع، مع أنَّ ذلك الإشعاع كان يزول بعد فترةٍ وجيزة (خر34: 29-35). ولا يترَدَّد بولس في القول بأنَّ مفعول ذلك القناع إنتقل الى المؤمنين وتوَّغلَ الى قلوبهم ” فغُشِّيَ على بصائرهم .. ولا يزالون لا يرون أبعدَ من الحرف .. ولن ينزعه عنهم غير المسيح.. الذي هو الروح” ( آيات 14-17).إ أمَّا خدمة العهدِ الجديد فتفوقُ على الأولى حتى بالمجد. لأنَّ المجدَ الذي توليه إلَهيٌّ مباشر، أصيلٌ وخالد. لمَّا تجَلَّى يسوع المسيح، يرافقه موسى و ايليا، كشفَ مجدَ لاهوتِه وإلَهية عهده الجديد { فأشَّعَ وجهه كالشمس، وتلألأت ثيابُه كالنور} ، لم يُرعِبْ مجدُه البشرـ الرسلَ ـ بل إرتاحوا إليه وتمَّنوا أن يتمَتَّعوا بآستمرار بسنائه ودُفئِه هذا . فلم يتقَنَّع يسوع ولا آضطرب الرسل بل قال بطرس:” يا رب ، حسَنٌ أن نكون ههُنا ” (متى 17: 2-4). تمَتَّعَ الرسلُ ولو لفترة قصيرة بالمجد الحقيقي الذي يُريحُ الأنسان ويرفعُه الى مستوى الروح لا الحرف، والواقع لا الخيال. عرف الرسل أنَّ المجد الذي رأوه في يسوع هو مجد الله نفسِه لأنَّ من يراه يرى الله الآب!. وعرفوا أيضًا أنَّ هذا المجد يتطلب ، ممن يبتغيه ويصبو إليه، أن لا يسلك سبيل الجسد والحرف المميت بل أن يتعَمَّقَ في هدف كلِّ شريعة، وفي الحياة التي تصبو اليها، قبل التوَّقف على مظهر حرفها، ثمَّ الإلتزام بمتطلباتِها.

ونحن نعكسُ صورة مجد الرب !

هكذا فمجدُ ما يُوعدُ به في العهد الجديد، حتى لو ظلَّ الآن خفيًا، لكنه يفوقُ المجد الظاهر لعهد موسى وشريعتِه لأنَّ هذا مخيفٌ زائلٌ أمَّا الجديد فخالدٌ مريح. والمؤمن بالمسيح مدعُوٌّ للأشتراك في مجده وإشعاعِه للعالم. بل إنَّه مدعوٌ لأن يتحَوَّلَ إلى صورة الرب نفسها وينال من مجدِه و” يزدادَ مجدًا على مجد” (آية18)، براءةً على براءة، يشُّعُ فيه الحَّق ويتلألأُ الحَّب ، ونكون حَقًّا نورَ العالم (متى5: 14). وقد صلَّى الرب يسوع ودعا ليتحَقَّقَ هذا في المؤمنين به : ” المجدَ الذي أوليتني ، أوليتُهم إِيَّاه، ليكونوا واحدًا كما نحن واحد : أنا فيهم وأنت فيَّ ..” (يو17: 22-23). وأضاف :” أنا أدعو لهم .. وأنا أتمَّجدُ بهم ” )يو17: 9-10). هذا الأيمان وهذا الرجاء يقودان بولس إلى التبشير ويسندانه في الصبرعلى الأهانات والضيم مُقتديًا بمعلمه المسيح. وهذه هي قوَّته التي تُعينُه فيتحَّدى كلَّ منافسةٍ أو مكيدةٍ أو خطر يُهَّددُ مُهِمَّتَه، وكلَّ متطاولٍ أو مُعادٍ يُحاولُ عرقلَتها. إنَّه لا يتباهى بنفسِه ولا يُكابرُ على أحد، بل يريدُ أن يعرفَ كلُّ الذين يختلفون معه في وجهة نظر الأيمان أنَّه صريحٌ وأنَّه واثقٌ من صِحَّةِ ما يُعَّلم. وسيقولُها للغلاطيين :” عرضتُ على الأعيان البشارة التي أُعلنها .. مخافة أن يكون سعيي باطلاً .. مَدُّوا إِليَّ وإلى برنابا يُمنى الأِتّفاق ..” (غل2: 2-9). وقد سبق وكتبَ لهم ما هو أشَّدَ ثقةً، دحضًا لكل بلبلة يُحدثُها معارضوه :” لو بَشَّركم ملاكٌ من السماء .. أو أحدٌ بخلاف ما بشَّرناكم به، فليكن ملعونًا!.. أَ تراني أستعطفُ الناس..؟ أم أتوَّخى رضى الناس ..؟ لو كنتُ الى اليوم أتوَّخى رضى الناس لما كنتُ عبدًا للمسيح “(غل1: 8-10). لم يقوَ معارضوه، لا من خارج الكنيسة ولا من داخلها، أن يُثنوه عن الجهاد من أجل المسيح و إعطاء الشهادة الصادقة عنه.

يُذَّكرُ الكورنثيين بذلك وهم من جملة من مرمروا عليه الحياة فقال:” يُضَّيقُ علينا من كلِّ جهة.. نحارُ .. نحن مُضطهَدون.. مُجَدَّلون .. نحملُ في أجسادِنا كلَّ حين آلامَ موتِ المسيح ..” (2كور4: 8-10). وسيُضطَرُّ، دفاعًا عن نفسِه، إلى تعرية مُتَّهميه قائلا :” أخشى عليكم أن يكون مثَلُكم مَثَلَ حوّاء التي أغوَتْها الحَيَّة بحيلتها، فتفسُدَ بصائِرُكم وتتحَوَّلَ عن خلوصِها لدى المسيح”؛ وإلى فضح منافسيه الذين يُطالبون أن يُكَرَّموا مثله:” هؤلاء القوم رسُلٌ كَذّابون وعَمَلةٌ مُخادعون يتزَّيون بزِيِّ رسلِ المسيح. ولا عجبَ فالشيطانُ نفسُه يتزَّيا بزِيِّ ملاكِ النور..” (2كور11: 3-15). بولس لا يُجاملُ ولا يُحابي، يبقى أمينًا لدعوتِه و وفيًا لرسالته ويُقِرُّ أنَّ قوَّته ونجاحَه ” لا تعودان إليه بل إلى الله ” (2كور4: 7).