تتلى علينا اليوم القراءات : اش6: 1-13؛ خر19: 1-9 عب12: 18-25 ؛ متى 17: 1-8
القـراءة : إشَعيا 6 : 1 – 13 :– رأى إشَعيا اللهَ في رؤيا والملائكةُ تُمَجِّدُه وتُنشِدُ : قدّوسٌ. ثم يُطَهِّرُ الملاك شفاه النبي فيُرسَلُ الى الشعب ليُنَبِّهَه على آثامه.
القـراءة البديلة : خروج 19 : 1 – 9 :– قادَ اللهُ اليهود خارجَ مصر. إختارهم و كوَّنهم شعبًا خاصًّا به يحميه ويرعاهُ على شرط أن يحفظَ كلامَه.
الرسالة : عبرانيين 12 : 18 – 25 :– في العهد القديم خاطبَ الشعبُ اللهَ بواسطة موسى. أمَّا في العهدِ الجديد فيُحَدِّثُه مباشرَة دون وسيط.
الأنجيل : متى 17 : 1 – 8 :– يتجَلَّى يسوع أمام الرسل بحضور موسى وايليا. و صوتُ الله من السماء يُؤَّكدُ أنَّ يسوع هو الله، ومن يؤمنُ به ويتبعُه يخلص.
قُدّوسٌ قدّوسٌ قُدّوسٌ !
إشتهر بين الناس عن الشخص القدّيس أنَّه قديرٌ حتى يصنعُ المعجزات فمُهابٌ، وأنه فاهمٌ يُدركُ أُمور الحياة فمُحترَمٌ، وأنّه لطيفُ المعشرة فمحبوبٌ. ولكن تبقى صفاتُه غير كاملة لأنه قابلٌ للتغيير والنسيان والضعف فالخطأ. ويجتهدُ دومًا ليتحَسَّن ويمتَدَّ نحو الأفضل. يحلم ويتمنى الكمال لكنه لا يُدركُه. وعرفنا من رؤيا إشَعيا أنَّ ملائكة كانت تحملُ عرشَ الله تستُرُ وجهها مهابةً ورجليها إعتذارًا وتتنادى بعضَها قائلةً :” قُدّوسٌ، قدوسٌ، قدوس الرَبُّ القدير. الأرضُ كُلُّها مملوءة من مجده”. إنَّ الرقم ثلاثة رمزٌ للكمال. فالله ثالوثٌ لأنه كامل، وقدوسٌ ثُلاثيًا لأنَّه يمتلك بدرجة الكمال صفات القدرة والحكمة والمحبة أي الحياة. فالحياة الحَقَّة هي تلك التي تمتلكُ ناصية الوجود والكون والكائنات، لأنَّها قادرة على كلِّ شيء، وتعرف كلَّ شيء، وتُحيي كلِّ شيء. إنَّه قُدّوسُ القديسين. هذا هو الله القدير على كلِّ شي (2كور6: 17). سيرى حزقيال رؤيا مماثلة (حز1: 4-28) ولاسيما يوحنا الرسول حيث يُنشد حاملوا عرش الله الترنيمة نفسَها. إنَّما بتغيير الجزء الثاني:” ق.ق.ق …كان وكائنٌ ويأتي” (رؤ4: 2-8). وستقول الرسالة الى العبرانيين أنَّ يسوع المسيح ” هو هو بالأمس، واليوم، وإلى الأبد” (عب13: 8). إنَّه الله بحيث من يراه يرى الأب (يو14: 9). وكان قادرًا في كل لحظة أن يطلب أكثر” من إثني عشر جيشًا من الملائكة تخدمه وتحميه” (متى 26: 53). وقد تجَلَّى في مجده الألهي على جبل طابور.
بينما الناس تولد ، تنمو ثم تموت لأنَّها خلائق ناقصة، الله لا ينمو ولا يموت لأنَّه لم يولد بل هو منذ الأزل، كاملٌ و” كلُّ هبةٍ صالحة تنزل .. من عند أبي الأنوار. وهو الذي لا يتغَيَّر و لا يكذب”(يع1: 17). فالله يستحِقُّ التسبيح والتمجيد، لأنه لا مثيل له، فهو الخالق والمخَّلص وراعي البشرية كلها. أما البشر فهم على الأرض منشغلون جِدًّا بأمور الحياة الزمنية وقلَّما يؤَّدون المجد لله، كما يلزم على كل خليقة أن تفعلَه. سيفعله في السماء المُخَّلصون القديسون مع الملائكة (رؤ7: 9-12). المسيح أيضًا إستَحَّق مجده لأنه أتَمَّ عمل الله وأرسى قاعدة إستمرار مُلك الله على الأرض :” أبتِ مَجِّدُ إبنَكَ ليُمَجِّدَك إبنُك” (يو17: 1).
من أُرسل ؟
هذا الله القدوس الكامل يهتم بالأنسان. لا يرفضه لأنه أخطأ ويُخطيءُ. ولأنه خلقه عن محبة عظيمة وأشركه في وجوده، يريد أن يشركه ايضًا في مجده. وإذا كان اللهُ الأبنُ قد تجَّلى في لاهوته على جبل طابور فهو لم ينفصل عن ناسوته المُزمع أن يُمَجِّدَه في السماء للأبد لمَّـا يُصبحُ ملكًا على الأرض وفي السماء. وقد صقله عبر التأريخ وهيَّأَه لهذا المجد. صحيح أن التأريخ يوصمُ الأنسان بوصمات عارٍ مُخجلة لخياناته وتخاذله أمام العاطفةِ والشهوة و آهتمامٍه الزائد بالجسد والعالم وحاجاتهما. لكن الله أقامه دومًا من سقطاتِه وأرسل إليه أُناسًا إختارهم وقَدَّسَهم، مثل إشَعيا النبي وغيرهم. لما رأى إشَعيا قداسة الله ومجده وعظمته صَغُرَت ذاتَه في عينَي نفسِه ولم يرَ غيرَ بؤسِه وشقائِه وفسادِ شعبِه، صرخ :” ويلٌ لي، هلكتُ. فإني رجلٌ دنسُ الشفتين {أغلط بكلامي}، ومقيمٌ بين شعبٍ دنسِ الشفاه”. لكن آختيار الله له لم يدعه ييأس فيسقط، بل طَهَّرَه فأحرقَ الملاك سوءَه وخطاياه بجمرةٍ من مذبح الرب قائلاً :” أُزيلَ إثمُكَ، وطُهِّرَت خطيئتُك”. ثم أرسلَه الى الشعب، الى البشرية التي قفلت باب فكرها وقلبها عن الله، ليُنَّبِهَها ويُحَذِّرَها ويدعوها إلى العودة اليه وحفظِ كلامِه. وسوف يُكَرِّرُ يسوع العملية فيظهر في مجده لكثيرين، لتلاميذه، ويُذَكِّرهم بكلام الله الحق ، داعيًا الى سلوك طريق البر، ويُطَّهرُهم بغسلهم (يو13: 4-5) وبالغفران (لو23: 34)، ثم يُرسلهم الى العالم (يو17: 18؛ 20: 21) مُكَلِّفًا إياهم أن يُبلغوا الأنسان، كلَّ إنسان، الحقيقة الألهية التي عايشوها معه (متى28: 19-20)، ويشهدوا له (أع1: 8). طَهَّرَ الأنسانية من دنس الخطيئة بنار حُبِّه المُضطرمة على الصليب وأعلن غفرانًا عامًّا لخطيئة الأنسان بسفك دمه تكفيرًا عنها، وفتح بذلك بابَ المجدِ من جديد أمامه. وبصعوده الى السماء وجلوسه عن يمين القدرة ضمن مجد الأنسان للأبد. لم يدع الأنسان عبدًا أسيرًا لدى ابليس للأبد. بل حَطَّمَ بذلك كبرياء ابليس وأعوانه وبدَدَّ ضلالهم وأزال مملكتَهم.
عانى إشعيا الأمَرَّين من جراء فضح الشروالأشرار من أبناءِ شعبه حتى قيل عنه أنهم قتلوه نشرًا بمنشار (عب11: 36-38). وعانى رسلُ المسيح مثل أنبياء العهد القديم وأشد (2كور 11: 22-29). لكن المعارضة والأضطهاد لم ولن تقوَ لا على هدم بنيان الله ولا على تغيير خُطَّتِه أن تعود غالبية البشرية إليه وتتمجَّد معه في فردوسِه. سيهدم الله قلاع ابليس قلعة بعد قلعة ويُدَّمر ويُخَرِّبُ مدن الشر مدينة بعد مدينة ويُبيد قادة الشر وممالك الفساد الواحدَ تلوَ الآخر إلى أن يصفى الجذرُ البشري من كل نقصٍ وعيب.
فمجد المسيح هو مجد الله، وكلامُه هو وصايا الله، وتلاميذُه هم رسل الله، به إرتضى الله لأنه أطاعه. لقد أظهر للناس حقيقة الله: من هو ، كيف هو ، وماذا يريد ، و وصَّى رسله ، ” الذين قبلوه وآمنوا به ” (يو17: 7-8) أن يواصلوا إبلاغ تلك الحقائق ويشهدوا لها بحياتهم ليضمنوا لأنفسهم المجد معه (يو17: 12 و24 ).