الأحد الثالث للصيف

تتلى علينا اليوم  القراءات   : اش5: 1-7؛ تث5: 1-16  2كور7: 1-7 ؛ يو9: 1-10

القـراءة : إشَعيا 5 : 1 – 7 :–  شَبَّه اللهُ شعبَه المُختار بكرمٍ زرعَه ، فلحه، ووَفَّرَ له كلَّ ما يلزم لكنه لم يُثمرْ. فيحرمه إمتيازَ” البكورية” ويسحبُ عنه حمايتَه فيتعَثَّر ويتشَتَّت.   

القـراءة البديلة : تثنية 5 : 1 – 16 :– يُذَّكرُ موسى الشعبَ بالعهد وبعناصره الأساسية من الفرائضِ والأحكام مع الدعوة إلى الألتزام بحفظِ وصايا الله.

الرسالة : 2 كور 7 : 1 – 7 :–  يدعو الرسول إلى قداسةِ السيرة، ثم يتَطَرَّقُ إلى خلافاتِه مع أهل كورنثية التي إنتهت بآعتذارهم له.

الإنجـيل : يوحنا 9 : 1 – 10 :–  يقُصُّ شفاءَ الأَعمى من مولِدِه. يُرَكِّزُ على رفض الفرّيسيين آلأعترافَ بيسوع أنَّه المسيح، وعلى ضُعفِ إيمان الشعب.

الأعمى والفرّيسيون !

إفتخرَ الفريسيون بموسى. وآعتدادُهم به كادَ أن يُزيحَ اللهَ وعهدَه وشريعَتَه عن أذهانِهم و ضمائِرِهم وحياتِهم كلِّها حتى صاروا لا يرون غير ما رأى موسى أنَّهم ” شعبٌ مختار” فوق كلِّ الشعوب، وقداستُهم تتحَدَّى كلَّ التعاليم والدساتير أو التقاليد، فترفعُهم إلى مستوًى أعلى من كلِّ الشعوب، وتعصمُهم وتعزلُهم عن باقي البشر. وكلمة ” الفريسي. بْريشا” تعني ، بالآرامية،” المُنعَزل”. فهم في كفَّة وبقية البشر في كفَّة. يتباهون بأنفسِهم كأنما لو كانوا في أعلى قمةِ جبل الأنسانية، فتصَوَّرواغيرهم في عمقِ وادٍ سحيق من الجهل والشر لا يصلهم نور الحياة فآزدرَوهم. وآختفى اللهُ قليلاً فقليلاًعن حياتهم، عدا إسمه من شفاههم، ليمتلئوا من ذواتِهم. وقد قالها يسوع في وجههم :” نقضتُم كلام الله من أجل سُنَّتكم” (متى 15: 6).

وفي غيرتهم وقناعتهم بأنهم ” خيرُ أُمَّةٍ أُخرجت للعالم”، وأنَّهم يتبعون موسى بأمانة، بلغَ بهم الجهلُ إلى أن يَتَحَدَّوا حتى شريعة موسى ويقيموا بآسمه سُنَّتَهم، مُحَوِّرين كلام الله و شريعةَ موسى معًا؛ “قال موسى: أكرم أباكَ وأمَّك .. وأما أنتم فتقولون: إذا كان عند أحدٍ ما يُساعدُ به والديه، ثم قال هذا قُربانٌ لله { حتى إذا لم يفعله} .. يُعفى من مساعدة والديه. و تنقضون كلام الله ” (مر7: 9-13).جاء هذا التصريح ردًّا على سؤالِهم ” لمَ تلاميذُكَ لا يجرون على سُنَّةِ الشيوخ؟”. لم يتحَدَّثوا عن سُنَّةِ الله، بل عن “سُنَّةِ الشيوخ”، أي سُنَّة البشر (مر7: 5-8). وعن شريعة ” أحبب قريبك كنفسك” و” ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان” فقد جهلوها أصلاً. فتحَدَّاهم يسوع وأكَّدَ أنهم لا يعملون بأحكام شريعة موسى (يو7: 19), ولا يعرفون الله (يو8: 55).

نحن تلاميذ موسى !

وفي قِصَّةِ الأعمى المذكورة برهنوا عن أنّهم لم يفهموا موسى ولا حرفَ شريعتِه بالأضافة إلى روحِها، رغم إدِّعائِهم أنهم تلاميذُه (يو9: 28). وصدق مار بولس عندما قال عنهم :” إلى اليوم عند قراءةِ موسى لا يزالُ القناعُ على قلوبِهم” (2كور3: 15؛ خر34: 33). وقد غشيت أبصارُهم على حدِّ ما ورد في الكتاب :” أعطاهم الله ذِهنًا كليلاً، وعيونًا لا تُبصِر، و آذانًا لا تسمع إلى اليوم” (رم11: 8).لهذا لم يترَدد يسوع عن فضح جهل الفريسيين وما يَغُشّون به الناس: ” لكم من يشكوكم. موسى الذي جعلتم فيه رجاءَكم. لو كنتم تُصَدّقون  موسى لصَدَّقتموني لأنه أخبرَ عني في الكتاب “( تث18: 15-19؛ يو5: 45-46). وهكذا سقط قناعُ غِشِّهم وآنجلى مكرُهم وتبَخَّرَ إدِّعاؤُهم بأنَّهم أُمناءُ لشريعة موسى. إنهم لم يحفظوا منها غيرَ حرفِها. أمَّا روحُها فقد أفرغوها منه وآستبدلوه بروح ذهنيتِهم الضّيِّقة والمُتعَصِّبة والفاقدة للحياة.

لقد وجد هذا الروح الشّرير دربَه إلى بعضِ المسيحيين أيضًا. فدعا بولس طفلاً مَن خضع لهذا الروح، لأنّ بعضَهم نادى :” أنا مع بولس” وغيرُه ” أنا مع أَبُلُّس”.. بينما المفروضُ فيهم أن يقولوا :” أنا مع الله” الذي يبقى وحدَه مصدرَ الوحي والحَقّ والحياة (1كور3: 3-5). فآستخلصَ العِبرَةَ :” فلا يغُرَّنَ أحدٌ نفسَه ” (1كور3: 18). لأنَّ موسى يبقى، رغمَ عظمتِه، نبِيًّا رسولاً لله. ولم يكن عظيمًا إِلاّ لأنَّ اللهَ إختارَه، وهو لبَّى الدعوة بترَدُّد ولكنه تفاعلَ معها بإخلاصٍ وجِدّية، حافظًا كلامَ الله.

أنتَ تلميذُ هُ !

بينما فشل الفريسيون في أن يتعَرَّفوا على المسيح الموعود والمنتظر بشوق (يو4: 25، 29)، بسبب عمى فكرهم وقلبهم لأنَّهم لم يعتبروا أعماله سوى التي كانت، في مظهرها، تخالف شريعة موسى، رغم أنَّها كانت متطابقة مع إرادة الله (يو5: 36؛ 12: 49)، إفتهم الأعمى كيف أنَّ يسوع يكمل الشريعة (متى5: 17) رغم عدم مراعاته السبت كما أراده الفريسيون (يو9: 16). وبينما جهل الفريسيون روح الشريعة وسلوك الله ولم يُبصروا قُوَّته وغطَّوا عيونهم عن معجزاته لأنّهم لم يروا أبعد من أنفهم، لقد رأى الأعمى ما لم يُبصروه، وعرف ما لم يدركوا معناه أي أنَّ الناصري هو ” نبي” (يو9: 17)، أي رجل الله. بل رأى فيه أكثر، أنَّه ” إبن الأنسان الموعود، المسيح ابن الله الحَّي” (متى16: 16)، فقال ليسوع :” لقد آمنتُ سَيِّدي. وسجد له “.

وحيثُ أصَرَّ الفرّيسيون على أنَّ يسوع ليس من الله وأنَّه رجلٌ خاطيء ومجهول غير مُعتَبَر (يو9: 16، 24-29)، لأنّه لا يتماشى مع تقاليدهم، أَكَّدَ الأعمى أنَّه لو لم يكن يسوع من الله لما إستجاب له الله فشفاه، ولا إستطاع أن يعملَ كلَّ الخير والمعجزات التي يجريها علنًا (يو 9: 31-33). لقد نظر إليه من خلال كلام الله الموحَى، وآعتبرَ أعمالَه دليل مسيحانيته (متى 11: 4-6). ولمَّا إستولى الفرّيسيون على مفتاح المعرفة الدينية وآحتكروا علم الكتاب والوحي (لو11: 52)، إعتبروا أنفسَهم مثالا ومقياسَ إِدراك الحَّق مع رؤيةِ درب الخلاص والحياة (يو9: 41)، أفلسوا أمام بساطةِ هذا الأعمى وجهله بالشريعة ولكن إمتلاكه هذا الأيمان الأصيل الذي قرَّبه إلى الله فعرف أن يُكرم اللهَ بقلبه لا بشفتيه ويعبدَه بالروح والحق (يو4: 24؛ متى 15: 8-9)، وليس بالألتزام بتقاليد الشيوخ التي تراعي هوى الجسد و الناس (كو2: 20-23؛ غل5: 2-6).

لقد برهن الأعمى أنَّه فعلا ” تلميذُ يسوع ” الذي يدخل الى العمق ولا يتوَقَّف على القشور.

إنَّه عرفَ اللهَ حَقًّا فعرف أن يكتشفَ إصبعَه في شفائه كما في كلِّ أحداث الحياة البشرية. فخضع لإرادة الله وآمن به من خلال أعماله، فسأله ونال الشفاء. فالله لا يستجيب للخطأَةِ، لكنه لا يحكم أيضًا عليهم (يو8: 15ح 12: 47). ولا ينبذهم، ولا يُبَرِّرُ سوءَهم (يو7: 28؛ 8: 55). إنَّما يستجيب لكل من يُؤمنُ به ويُحِبُّه (يو3: 36؛ 14: 13-14؛ 16: 23). بينما لم يعرف الفرّيسيون الله (يو7: 28؛ 8: 55)، عرف الأعمى أنَّ اللهَ أبٌ حنون. لم يكن له بصرٌ لكنه نظر إليه بفكره وقلبه، ورآه بإيمانه وحُبِّه، وقصده بآهتمام وثقة، لا عن فضوليةٍ أو خبثٍ أو سوء نيّة (متى22: 15؛ يو8: 6). ظلَّ الفرّيسيون مُتشَبثين بحرف الشريعة وبتعاليهم عن غيرهم وآحتقارهم ، بينما إنتقل الأعمى بتواضع ليعيشَ روحَها وجوهرَها.

أَ تُعَلِّمُنا وقد وُلِدتَ في الخطيئة ؟

موقفٌ آخر يُبَيِّنُ فيه الأعمى عمقَ إيمانه بينما كشف الفريّسيون عن أنانيتهم وسطحية إعتقادهم. إنَّهم لا يُفَكِّرون سوى بأنفسِهم. ويرضون عن أنفسِهم. وفي نفس الوقت يحتقرون الآخرين ويدينونهم. لقد سجَّل لوقا مثالاً من هذا النوع في مثل الفرّيسي والعَشّار. قال :” مثلُ قومٍ يعتبرون أنفسَهم أبرارًا ويحتقرون سائر الناس” (لو18: 9).فأبرزَ عقلية الفرّيسي ونفسيَتَه وهو يمدحُ نفسَه أمام الله ويهين العَشّار ويزدري به وذلك في صلاةٍ كادَ أن يقولَ لله : أنتَ مديونٌ لي لحسناتي وأفضالي. ولا يجوزُ أن تُعاملني مثل العشّار ولا أن ترفَعَه هو الى مستواي !(لو18: 11-12). لقد سمحوا لأنفسِهم أن يُخاطبوا اللهَ وكأنَّه موَظَّفٌ لديهم يُنَّفذُ أوامرهم.

هذا بالأضافة الى تأويل الأمور خَطَأًا: ” من أخطَأَ هو أم والداه حتى ولدَ أعمى”؟. إعتبروا المرضَ عقابًا إلَهيًّا وآعتبروا بالتالي الأعمى” خاطئًا”. أما تكفيه بليَّتُه حتى يُضاف إليها حملُ الخطيئة؟. لم يسمحوا للأعمى أن يُخاطبَهم نِدًّا لند ولا أن يُعَلِّمَهم. بل عَلَّموه الدرسَ : مَن يتطاولُ على علمهم وعقيدتهم لا فقط يُنبَذُ بل ويُوَّقَفُ حدَّه :” أَ تُعَلِّمُنا أنتَ..”؟. إخرَسْ. ثم طردوهّ. ولأنَّ يسوع لم يُسَجِّلْ عضوًا لدى مؤَّسَستِهم فلا ” يعرفون من هو؟ ولا من أينَ هو؟. ولأنَّه لم يتعَلَّم في مدارسِهم (يو7: 16) فهو مرفوضٌ ومنبوذ. ولا رّادَ لقرارهم. أمَّا الأعمى فكان يبحثُ عن النور وعن الحياة الحقَّة. ولما سأله يسوع عن إن كان، بعكس الفرّيسيين ، يؤمن به، أجابه ببساطة ” مَن هو لأومن به”. ولمَّا عرف أنّ من شفاه هو الذي يُحَدِّثُه لم يترَدَّدْ بإعلان إيمانه ساجدًا له.

والمسيحي !

سؤالٌ يطرحُ نفسَه : أَ ليس فينا من يعتبرُ أنَّه عرفَ الله ، وأنَّه مؤمن بالمسيح يسوع، لكنه ليس في الواقع، مؤمنَا إلا بنفسِه؟. أ ليس فينا من يَدَّعي أنَّه قد إستولى، بعمادِه، على مفاتيح ملكوت السماء فيقبل فيه من يشاء ويسُّدُ بابَ الخلاص بوجه من يشاء؟. أَ ليس فينا من يُفَسِّرُ شريعةَ الله كما تخدمُ منفعته ويدين من يُخالِفُ رأيَه؟. أَ ليس فينا من يتباهى بإيمانه ويزدري غيرَه مع أنَّه لا يملكُ من الأيمان إلاّ قشرَتَه؟. وكم مسكينٍ بسيطٍ وجاهلٍ بالشريعة أقربُ إلى الله فكرًا وقلبًا من معلمي الأيمان؟. وقلبُه ينبضُ بحُّبٍ صادق أكثر من قلوبِ روّاد الكنائس وزوّار الأديرة؟. وكم بريءٍ حكمنا عليه، وصالحٍ إتَّهمناه بينما الحَّقُ والبر بريئَان منا؟. وكم واحدٍ فينا يقيمُ لنفسِه، بآسم يسوع، شريعةً خّاصة تعارضُ شريعة الله إنْ لم تكن تُحاربُها؟. وكم مرَّةٍ ومَرَّة إحْتَجْنا إلى التواضُع، والثقة بالله، والبحث عن نور الحق، وسؤالِ الله أن يشفيَنا من عمى القلب ويُزيلَ غشاوة الشَّر عن أذهاننا، وكان الله حاضرًا ليستجيبَ لنا لكننا لم نفعل بسبب كبريائنا وقناعاتنا؟. وكم مَرَّةٍ ومرّة تصَّرفنا كتلاميذ موسى وطالبنا تنفيذَ شريعته، ولنا نحن جوهرة المسيح وآعتذرنا عن التمَّسُك بها؟. أ ليست هذه كلُّها أعمالَ أُناسٍ جهلة مُنافقين كالفرّيسيين، بينما علمنا المسيح أنَّه :” إذا لم يَفُقْ بِرُّنا بِرَّ الكتبة والفريسيين لن ندخل ملكوت السماء ؟(متى5: 20).  المسيح هو النورُ للعالم (يو9: 4-5). المسيح هو قُوَّةُ الله وحكمتُه جاء ليُعالج أمراضَ الأنسانية ويُخَّلصها من ضيقها. فالمسيح هو يُفَسِّرُ إرادةَ الله ويُكَمِّلُ شريعة الحرف بشريعة عهد الروح والدم. ومن له المسيح له عيونٌ تُبصرُ حتى لو كان أعمًى، وقلوبٌ تنبضُ بالحياة. أما من يرفض المسيح فذاك هو الأعمى لا يُبصرُ غيرَ ما هو حِسَّي فقط. فمعرفة الحَّق نورٌ وجهلُهُ ظلامٌ وضلال، والإلتحاقُ بالمسيح مَكسَبٌ و مَغْنَم ، أمَّا الإعتزالُ عنه أو محاربتُه فسخافةٌ وإهانةٌ بشأن الحَّق وجرمٌ بحَّق الأنسان.