تتلى علينا اليوم القراءات : يو2: 1-10 ؛ 1كور 1 : 18–31 ؛ متى27: 62-66
الرسالة : 1 كورنثية : 1 : 18 – 31
نحن بين صلب المسيح أمس الجمعة وقيامته غدًا الأحد. وكلا الحدثين يُحَّيران المنطق الأنساني و يعجزان على فهمه وقَّبولِه. فعلاً لما تحَّدث بولس عن القيامة أمام مثَّقفي أثينا ” إستهزأَ به بعضُهم، وقال له آخرون : سنسمع كلامك في هذا الشأن مرَّةً أُخرى” (أع17: 32). بل إتَّهمه والي قيصرية فسطس فيلكس أمام الملك أغريبا بالجنون قائلاً له: ” جُنِنْتَ يا بولس، فإنَّ تبَّحرَك في العلم أفقدَك العقل” (أع26: 24). ليس سهلاً أن يستوعب الناسُ كيف يُصلَبُ الله ويموت، وهو ذات الجبروت والخلود ؟، ثم كيف يقومُ مَيِّتٌ وقد ظلَّ في القبر أكثر من يومين؟؟. إستثقلَ تصديقَ هذا اليهودُ و الوثنيون معًا وآستنكروه. وفي هذا السبت، الذي يُعرفُ بسبت النور تيَّمُنًا بنور الحَّق الذي أضاء المؤمنين الجُدُد المُعَّمَدين فيه والذين عبروا من ظلمة الضلال الى نورالقيامة المجيدة، يُسَّلِطُ بولس النور على حَّقيقة الصليب ورمزه وما يعنيه، بالنسبة الى المسيحي.
الصليب : لدى غير المسيحيين !
الصليبَ آلة التعذيب والإهانة. يُعَّلقُ عليه المُجرمون الخطيرون. إعتبرَ قادة اليهودَ يسوع مُجرِمًا يستحِّقُ أقسى العقوبات لأنَّه :” ها قد جَدَّف.. يستوجبُ الموت” (متى26: 65-66 ؛ يو19: 7)، ” إِصلُبْهُ ! إِصلُبْهُ ” (متى27: 22؛ يو19: 15). ويكتب بولس للغلاطيين بأنَّ يسوع” صار لعنةً من أجلنا. فالكتابُ يقول:” ملعونٌ كلُّ من ماتَ مُعَّلَقًا على خشبة” (غل13 : 13؛ تث21: 23). وعليه فاليهود تعَّثروا وسقطوا وخسروا إمتيازَهم. صار الصليبُ عثرةً لهم، وبسببه تمَّردوا على الإعتراف بأنَّ يسوع هو” المسيح المُخَّلص”. فحِكمَتُهم وقراءَتُهم للأحداث غَوَّشتْ عليهم الرؤيا فأعثَرَتهم و،بالنتيجة، لم يتعَّرفوا على مسيح الرب. وما تزالُ هذه العثرة قائمةٌ إلى يومنا هذا.
أما حكماء الوثنيين، ويونان موطن ومنبعُ الفلسفة { الحكمة البشرية }، حتى قال عنهم لوقا : ” وكان جماعةٌ من الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين يُجادلون بولس” (أع17: 18)،وأضافَ :” كان الأثينيّون جميعًا ، والأجانب المقيمون بينهم ، يصرفون أوقاتَ فراغِهم كُلِّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا” (أع17: 21)، فهؤلاء الحكماء إعتبروا الصليبَ إهانة وحماقة وضُعفًا لا يسمحُ، منطقيًا، أن يعترفوا بالمصلوب عليه ” إِلَهًا”. منطقُ حكمتهم لا يقبل أن يكون إلَهٌ أضعفَ من الناس، يُهينونه ويقتلونه ولا يقدر أن يُدافعَ عن نفسِه ولا حتى أنْ يرُّدَ التهمةَ عن نفسِه. نعم هذه حكمة البشر ومنطقُهم أنَّ من هو إِلَه لا يقدر إنسان أن يقفَ قدّامَه. وفعلاً ذكَّرَ يسوعُ بطرس بذلك عندما حاول أن يُجاهدَ في سبيل الله والحَّق ويُدافعَ عن يسوع في بستان الزيتون فقال له :” أَ تظُّنُ أني لا أقدرأن أطلب إلى أبي فيُرسلَ لي في الحال أكثرَ من إثني عشرَ جيشًا من الملائكة..”؟(متى26: 53). لكن الوثنيين يعترفون بالواقع الملموس الذي حصل، لا بالإِدّعاء.
إِعتقدَ اليهودُ بصحَّة إيمانهم فوقَ كل إيمان أو مذهب، وآقتنعوا بأنَّ رؤيتهم ومبادئهم هي أفضل من كل ما يُخالفُها. وإذ لم يُلَّبِ يسوع مطلبَهم بإجراء معجزة فيُخَّلِصَ نفسَه وينزل من الصليب (متى27: 40) رفضوا الأيمان به أنَّه المسيح حكمةً وإيمانًا، وقناعةً بأنفسهم. و آعتقد الوثنيون بصِحَّةِ عقلهم فوق كل عقل وفكر، وآقتنعوا بأنَّ سلوكهم منطقيٌّ أكثر من كلِّ مسلك آخر، حتى آحتقروا في أثينا التعاليم التي يبَّشر بها بولس، وتعالى عليه أهل كورنثية فآستصغروه، حتى بعض المهتدين الى المسيح (2كور10: 7-12). آمن الفريقان بمبدأ القُوَّة و الفرض في التعامل مع الآخر، فرفضَ كلاهما قبول” الصليب” آيةً و وسيلة لخلاص الأنسان. وكل من لمَ يرَ في الصليب ما يراه المسيحي، كرَهَ الصليبَ ورفضَ سبيله، وعاداهُ بعضُ آخرون.
الصليب : لدى المسيحيين !
نفى بولس كلِّ رؤية للصليب بعيدةً أوغريبة عن رؤية الكتاب المقدَّس الأصيلة وقدَّم بعدَه للكورنثيين الصورة الأيمانية الحقيقية للصليب. فقال بإيجاز:” الصليبُ عندَنا نحن أصحابه الذين يسلكون طريق الخلاص هو قُدرَةُ الله وحكمةُ الله” (آية 18 و24). كان اللهُ قادرًا أن يُعاقبَ البشرية الخاطئة وأن ” يفنيها بنفخةِ فمهِ” (2تس2: 8؛ رؤ2: 23)، وكان يسوع الذي أقام لعازر من القبربعد أربعة أيام من موته (يو11: 39)، وأعاد البصر إلى من كان أعمى منذ ولِادته (يو9: 6-8)، وشفى مريضًا يعاني من الكساح 38 سنة (يو5: 5-9) كان قادرًا أن يفُّكَ مسامير قيوده بحركةٍ بسيطة، لكنه لم يفعلْ لأنه كان يلزم عليه أن يشرب كأس الألم والفداء حتى الثمالة لتكتمل الكتب المقدسة (متى26: 54). وما كانت ستكتملُ ذبيحة فدائه إن لم يمت وتتم فيه كل النبوءات.
لكن وراء سكوت يسوع المطلق وعدم إتباعه ما يفعله عادةً أبناءُ العالم دافعًا أقوى إلا هو القدرة الألهية التي تسنده في صموده في الحَّق وعدم تخاذله ، وأيضا ليُميت الشَّر، بموته الطوعي، ويسحق رأس من أمات الأنسان بالخطيئة فأفقدَه راحة النعيم مع الله. لا يموت عن نفسِه بل عن غيره. وهذا الغير ناكر الجميل وخاطيء يتمَّرد كلَّ يوم على مشيئة الله. لكنَّ الله يُحِّبُه ولا يريدُ أن يهلك للأبد. وليس قادرًا على أن يدفع ثمن خطيئته ويستعيد كرامته و مجدَه. لا يُشفى داءُ الخاطيء بكسر ظهرِه أو سحقِ رأسِه. يُشفيه فقط مرهم الرحمة والرأفة .والله وحده قادرٌ على ذلك. طلب فديةً بريئة. ولمَّا لم يجد تجسَّد هو نفسُه وتطَّوع لدفع تلك الفدية. والفدية هي العمل بمشيئة الله (عب10: 5-7)، وهي الثبات على الحق. وكان العمل بمشيئة الله طعام يسوع (يو4: 34). ولأن يسوع ثبت في الحق عاداه اليهود و صلبوه. كلُّ ذلك لأنَّ الله وحده كان قادرًا ولأنه وحده أحَّبَ الأنسان إلى حد تحمَّل عقاب الخطيئة بدلاً عنه ولأجل خلاصِه. يقول بولس:” لكنَّ الله برهن عن محَّبتِه لنا بأنَّ المسيحَ ماتَ من أجلنا ونحن بعدُ خطأة (رم5: 8).
الله أحكم من الناس !
فلم يتحمل المسيح عذابات الصليب والموت لأنه كان ضعيفًا، أو كان مخالفًا، بل لأنَّه أحَّبَ البشر أعظم حب (يو13: 1؛ 15: 13). كان قادرًا أن يسحق رأس المتمَّردين لكنه أبى ذلك ، والعفو عند المقدرة، وأراد أن يكسبهم بالحب فأظهرَ لهم أعظم حُبٍّ ممكن فعانقَ الصليب وقدَّسَه لمَّا خَضَّبَه بدمه وجعله آيةً وقُوَّة بها نغلبُ نحن أيضًا عدُّونا الشَّرير. وبمثالِه برَّرَ لنا تعليمه القائل” لا يريد موت الخاطيء بل أن يتوب ويحيا أمامه “(حز18: 23)؛ والتعليم الآخر”لا تقاوم الشرّير” (متى5: 39)، و” أحبوا أعداءَكم، وأحسنوا الى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم ” (لو6: 27)، ولاسيما ” لا تدع الشَّرَ يغلبُكَ، بل آغلِبِ الشَّرَ بالخير”(رم12: 21).
أصبحَ الصليبُ بركةً نطلبُها وفخرًا لا نستحي به، حتى قال الرسول: ” يُفاخرُ البعضُ بالختانة أما أنا فلن أفاخرَ إلا بصليب رّبنا يسوع المسيح” (غل6: 14). نعم الصليب رمزٌ للبذل والتضحية، وبالتالي رمز تحَّمل الألم، لكنه أيضًا إشارة مرورية تقودنا في طريق المجد. فيسوع تمَّجد بصليبه لِما أظهرَه من حَّقٍ ومحَّبة وقدرة إطاعة كلام الله. وإذا أردنا أن نضمن طريق المجد فلنا أن نسلك أنوار الصليب، ونصبح “.نَيِّراتٍ كالكواكب في الكون” (في2: 18). هذا ما قاله بولس الخبير بالآلام حتى قال أيضًا:” إني أحملُ في جسدي سِمات يسوع (غل6: 17)، وأضاف:” أشاركُ يسوع في آلامه وأتشَّبه به في موتِه على رجاء قيامتي ..” (في3: 11).يقول كلَّ هذا لأنه إختبر الألم مثل المسيح، وعاين مجدَ المسيح ونال الوعد بالمشاركة فيه إذا سلك درب الصليب. فبلَّغَنا بأنَّ ” صلبان (آلام) هذا الدهر لا تُقاس بالمجد المزمع أن يتجَّلي فينا” (رم8: 18).
الله أقوى من الناس !
يُنهي بولس كلامه قائلاً:” ما يبدو أنَّه حماقةٌ من الله هو أحكمُ من حكمة الناس. وما يبدو أنَّه ضُعفٌ من الله هو أقوى من قُوَّة الناس” (آية25). أين حكمة الناس ؟. إنها في مهَّب الريح، ترتفع وتنخفض حسب أهواء الناس. أين قُوَّتهم؟. السلاح ينطق، والسلاح يُدَّمر لا يُعَّمر. و السلاح يحصدُ الموَّدة ليزرع عوضها الحقد والكراهية. العُنف يسيل الدماء، وبالأخص دماء الأبرياء، ويُشَّردُ المواطنين، ويُكَثِّرُ الأراملَ والأيتام. هل رأينا حربًا تقيم متنزَّهات أو تشَّغل معامل؟. وهل أنهت القوة خصومةً أو حَلَّت خلافًا؟.وهل رأينا حِقدًا أو عِقابًا يُؤالفُ بين القلوب ويبني الصداقات؟. أما الصليب فحيثُ ما آنتصب سادَ الإخاءُ والأمن والسلام. فالبذلُ في المحبة والألم في الرحمة هي طريق الحياة ، والصليبُ يُرشدُنا إليها. فشلت حكمة العالم حيث نجحت حكمة الله. وآنهارت قوة العالم حيث إشتَّدت، وما تزال تشتَّد، قوة الأيمان. حكماء العالم لم يعرفوا الله وأقوياؤُه لم يُحَّققوا السلام. لذا لم تستند بشارة الخلاص على” أساليب الحكمة البشرية في الأقناع، بل على ما يُظهرُه روحُ الله وقوَّته،حتى يستند إيمانكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر” (1كور2: 5). فالصليب يرتفعُ لا تهديدًا ولا دعاية إعلامية، بل منارة للحكمة والقدرة ، ولهيبًا للحَّق والمحَّبة.