عـيد الكهنـــوت
نُعَّـيدُ كهنوتنا ، إِنَّما بكأس المرارة وألم الذبيحة
الكهنوت تواضعٌ وخـدكة إنسانية : / روحية -:- إصنعوا هذا لذكري / جسدية -:- غسل أرجـل التلاميذ للعلم :- إِنَّ رتبة غسل الأرجل لمْ تُذكر، رغمَ روعة رموزها، لا في كتاب الحوذرا ، المطبوع قبل 150 سنة في روما، وهو يشمل كلَّ الصلوات الطقسية المطلوب أداؤُها في الصلاة صباحًا و مساءًا او في القداس، ولا أُضيفت إلى الطبعات الجديدة اللاحقة، ولا ذكرتها مصادر تأريخية كلدانية رسمية. طبعت في الموصل لدى الدومنيكان سنة 1907م مع رتبة مسحة المرضى وصلوات أو رتب أخرى لآستعمال الكهنة، وقد دُعي الكُتَّيبُ بـ ” أيادي الكهنة “. وأُضيفت قراءاتُها الكتابية إلى النصوص الطقسية الأخرى المطبوعة على حدة، ما عدا إلى كتاب ” ܢܲܩ̈ܦܵܝܵܬܼܵܐ الملاحق ” الخّاص بقداديس الآحاد والأعياد. مع العلم كان غسل الأرجل واجبًا تجاه الضيف (لو7: 44) وغسلت المجدلية أقدام يسوع (لو7: 38؛ يو11: 2)، وغسل يسوع أرجل تلاميذه (يو13: 5)، وآشترط بولس على الأرملة المسيحية أن تكون قد ” إستضافت الغرباء وغسلت أقدام الأخوة القديسين ” (1طيم 5: 10).
تتلى علينا اليوم القراءات : خر12: 1-20 / 1كور5: 1-5 ؛ 10: 15-17 ؛ 11: 23-32/ يو13: 1-17 غسل الأرجل ؛ القداس : متى26: 1-5، 14-30
الرسالة : 1كورنثية : 5 : 1-5 ؛ 10 : 15-17 ؛ 11 : 23 – 32
يُلاحظ القاريء أنَّ مُنَّظم الطقس جمعَ آياتِ هذا النص من فصول متعَّددة تلائم المناسبة. بدأ بآياتٍ تخُّصُ الفصح مباشرةً، داعيًا إلى التخَّلُصِ من خميرة الأفكار والعادات القديمة ، يهوديةً كانت أم تراثية، لتجديد الفكر والروح بمباديء المسيح التي تبني الحياة الآلهية في المؤمن المسيحي. فدعا الى عدم التقَّيد في أعيادنا المسيحية بشريعة موسى الحرفية سَمَّاها ـ الخميرة القديمة ـ، ولا بآخلاق وعقلية أهل العالم الوثنية وسَمَّاها ـ خميرة الشَّر والفسادـ بل بالنقاء والحَّق المجبولةُ طبيعتنا عليها وسَمَّاها ـ فطيرٌلا خميرَ فيها ـ أي لا فسادَ فيها ولا شر ، لأنها خُلقت على صورةِ الله القدوس. وبهذا يدعونا الرسول إلى أن نحتفل بأعياد الفصح و القيامة بقداسة السيرة، ونستعِّدَ لها ،فـ ” نتطَّهر” كما قال، من الشر الذي يكون قد تعَّلقَ بنا إذ نعيش في عالم يسودُه الفساد، ونتعامل مع أُناسٍ لم يعرفوا الله ولا أحَّبوا المسيح. ثم يدور الكلام عن سِرّ القربان المقَّدَس، موضوع إحتفال اليوم.
أُكَّلمُكم كما أكلمُ عُقَلاء !
يفترضُ بولس أن سامعيه وقارئيه من الذين ” يعقلون” أي يتصَّرفون بوعي ويتفاعلون مع النص بمنطق الحَّق. وهذا يعني الأصغاءُ بآنتباه وتركيز، أو القراءة بآهتمام وبحث عمَّا بين الأسطر، لإدراك معنى الكلام كما يعني به قائله لا كما يَخُّص السائلَ عنه، قبل أيِّ رَدِّ فعلٍ أو تعليق أو حكم. العاقلُ يفهمُ أولا جيّدًا ما إطلَّعَ عليه وعندئذ يبحث كيف يتفاعل معه أيضًا بمنطق. وهنا بمنطق إيماني لأننا نحرُثُ في حقلِه ونبتغي قطف ثمارِه.
إنَّنا جسَدٌ واحد !
إننا في سِرِّ القربان المقَّدس نأكلُ جسدَ المسيح ونشربُ دمَه. لمَّا سبقَ يسوع وتكَّلمَ عنه، قبل أن يُؤَّسِسَه، تراجعَ عنه أتباعٌ كثيرون (يو6: 66). لأنَّهم لم يفهموا ما عنى به ولم يعقلوا كي يتعَّمقوا فيما قاله، كتابيًا وإيمانيًا، وتصَّرفوا بعاطفة وسطحية الأدراك. لكنَّ بطرس لقط كلام يسوع ورَدَّ بعفويتِه المعتاد، كما ردَّ عندما سألهم عن نظرتهم عنه بأنه المسيح ابن الله (متى 16: 16)، فقال :” إلى من نذهب يا سيّد وكلامُ الحياة الأبدية عندك” (يو6: 68). قبل أن يتكلم أصغى بطرس إلى الروح القدس، وأجال في ذهنه ما مكتوبٌ عن المسيح وأنَّه ” إبنُ الله الحَّي”، وأنَّه لا يمكن أن يقول غير الحقيقة. وعندما قال لهم ” إصنعوا هذا لذكري” فهم أيضًا ماذا يعني يسوع، فتفاعل معه بإيمان ونَفَّذَ دون آعتراضٍ أو جدال ما طلبه منهم. وفهمَ معه بقية الرسل، إذ لابُدَّ وموقفُ بطرس ثبَّتهم في إيمانهم (لو22: 32). وعندمَّا يأكلُ جميعُ المؤمنين جسد يسوع الواحد ويشربون من دمه ماذا يحصل؟. يحصل أنَّ المسيح الكامل حاضرٌ هو نفسُه في كلِّ الذين تناولوه. والمسيح واحدٌ لم يتجَّزَأ تبَعًا لأجزاءِ الخبز الصغيرة، أو لِكَم قطرةِ من الدم التي يتناولها كلُّ واحد. المسيح كلُّه، بلاهوته وناسوتِه ،يحُّلُ في المؤمن. وبالنتيجة يُصبحُ الآلافُ والملايين ومجاميعُ الرعايا الصغيرة المتناولون، واحدًا بقوَّة المسيح الواحد الساكن في جميعهم في نفس الوقت. يقول مؤلف كتاب ديداخى ، تعليم الرسل، بأنَّ الخبز الواحد يتكوَّن من عشرات بل مئات حبات الحنطة، و هكذا يتكَوَّن جسدُ المسيح السِرّي / الكنيسة / من المؤمنين المُتّحدين بينهم بالمسيح الحاضر في جميعهم. وبهذا يُفهمنا الرسول أننا نحن المسيحيين لسنا أفرادًا منعزلين مُشَّتتين تُذَّريهم كلُّ ريح. بل نحن نُشَّكلُ إنسانًا مسيحيًا مؤمنًا واحدًا، وبهذا نحن في العالم وللأيمان شهادة قوية لا يجوز الأستهانة بها. هذه الوحدة بالمسيح سِلاحٌ ماضٍ لعمل الخير ونشر الحقيقة. وإذا كنا واحدًا في المسيح يكون قد أصبحنا نحن ” المسيح المنظور”، نعيشُ حياتَه وننشرُ تعليمه.
سَلَّمتُ إليكم ما تسَّلمتُه من الرب !
لا يعني بولس بهذا أنَّه يتعالى فوقَ الرسل أو لا يعترفُ بتعليمهم. بل يعني أنْ لا أحدَ بشَّره بالمسيح، بل المسيح نفسُه بَشَّره (غل1: 11-12)، لمَّا دعاه الى التوَّقف عن إضطهادِه ضِدَّ المسيحيين وأن يتبعَه كما فعل مع بطرس وبقية الرسل، وأفهَمه ماذا سيفعل. يقولُ ” لا أظُّنُ أني أقَّلُ شأنًا من أولئك الرسل العظام “(2كور11: 5). بل إِنه مؤمن بالكنيسة جسد المسيح السري (أف1: 22-23) والرئاسة فيها، فسبق بشارتَه بعرض تعليمه على الرسل. و يقول أنهم لم يُضيفوا عليه شيئًا بل مَدُّوا إليه يمين الأتفاق (غل2: 2 و 6-9).
وبعدَ أن أكَّدَ أن ما تفعَله الكنيسة بخصوص ” سِرّ القربان المقدس” هو من إرادة المسيح و من تأسيسه وليس بادرةً من الرسل، تحَّدثَ عمَّا فعله المسيح وكيف أمرهم بتكرار ما فعل لتمديد ذبيحة الخلاص عبر الزمن ليُعاينها كلُّ البشر ويشتركوا بثمارها. كانت ذبائح العهد القديم تُقَّرب بدم الحيوان، أما ذبيحة العهد الجديد فتُقَّرب بدم الأنسان البار، المسيح، ليُكَّفرَ عن خطيئة الأنسان، لأنه لا غفران إلا بالدم (عب9: 22). فكسرُالخبز، القداسُ، كما دعاهُ الرسل هو ذبيحة الغفران التي قدَّمها يسوع عنّا. كلمَّا كرَّس الكهنة الخبز والخمر بآسم يسوع يكون هو حاضرًا في تلك القرابين كما كان على الصليب ليَضُّخَ لنا من جنبه المفتوح ، على مَرِّ الأجيال، ماءَ الحياة الذي لا ينضب معينه (يو4: 14)، ودمَها ليغسلَ به خطايانا (رؤ1: 5 ؛ اف5: 26؛ طي3: 5؛ رؤ7: 14).
ليمتحن كلُّ واحدٍ نفسَه !
فعلى المتناول أن يؤمنَ بذلك وإلا يضع نفسه تحت حكم الدينونة. ليس القربان خبزًا إعتياديًا ليأكلَه أيٌّ كان. ومن لا يؤمن بتحَّولِ القرابين، بعد تكريسها، إلى جسد المسيح ودمِه يُنافقُ إذا تناول. والمنافقُ مُدان. إِنَّ تناولَ جسد المسيح ودمه يتطلبُ قلبًا نقّيًا وفكرًا مُستقيمًا. ” قلبًا نقّيًا أُخلُقْ فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جَدِّدْ في أحشائي” (مز51: 12). والنقاوة المطلوبة مع الأستقامة لا تتحَّقق بالصوم المادي من الطعام، بل بالصوم االروحي من الشَّر والفساد. لهذا طلب الرسول من المتناولين أن يفحصوا ضمائرهم إولا ليتأكَّدوا من خُلُّوِ أنفسِهم مما يُكَّدرُ و يُعارضُ قداسة الله الحالِ فيهم. عندما نستقبلُ ضيفًا كريمًا وعزيزًا نتهَيَّأُ لآستضافتِه بزينة البيت ونظافتِه ولاسيَّما بالمظهر الخارجي لأعضاء الأسرة بما يليقُ بمقام الضيف. وقد لامَ يسوع سمعان الفرّيسي عندما إستضافَه وقصَّرَ في أداءِ واجباته تجاهه، بينما كثَّر من نفاقِه لمَّا أدانه، في قلبِه، إذ سمح يسوع لخاطئةٍ أن تقتربَ منه وتلمسَه (لو7: 39 و44-46). كان باطنه مُخالفًا لمظاهر التكريم بدعوته إلى الطعام عنده. بينما كانت الخاطئة ممتلئة بمشاعر المحبة والتوبة الصادقة بعكس مظهرها الخارجي. وقد لاحظ بولس أن أهل كورنثية لا يُراعون جيِّدًا قواعد تبجيل القربان بل يتناولون بشكل روتيني، وللتظاهر بالأيمان. لامهم على ذلك. ولم يترَدَّد في تفسير وجود أناسٍ مرضى و خطأة بينهم لأنهم” لا يراعون جسد الرَّب “.
قبل إبرامِ العهد مع الشعب المختار على يد موسى طلب الله أن يلتقي بالشعب فأمرَ موسى قائلاً: ” قُل لهم : طَّهروا نفوسَكم اليوم وغَدًا، وآغسلوا ثيابَكم، وآستعِّدوا لليوم الثالث..” ( خر 19: 11). ورسم لهم حَدًّا لا يتجاوزونه في صعودِهم الجبل لئلا يهلكوا. إنَّ قداسةَ الله تتطلب من الأنسان قداسةً مماثلة، نقاوة الجسد والروح، حتى يتِّمَ ويُثمرَاللقاءُ بينهما. هكذا تُشَدِّدُ الكنيسة على الأستعداد للتناول بشكل يليقُ بقداسةِ الله، حتى يكون التناولُ مثمرًا في حياة المؤمن. تسيرُ الكنيسة على خُطى بولس الذي طالبَ المسيحيين أنْ يُعَّيدوا ” بخميرة الطهارة والحق”، وأن يستعيدوا نقاوة الطبيعة البشرية المخلوقة على صورة الله بغسل جروحها الأثيمة بدم المسيح الصافي. كلُّ قداس يُقام هو عيدُ فصحٍ وقيامة، ذبيحةُ موت وحياة، يعبرُ الله إلى حياتنا البشرية الضعيفة والمتألمة، يُطَّهرُنا من أدناسِنا وأوجاعِنا، ثمَّ يُعَّبِرَنا الى ضفتِه الألهية ليُشركنا براحته، خيراتِه ومجدِه.