المُعترف هو من ” إعترفَ بالمسيح ولم ينكُرْهُ وسفكَ من أجله دمَه “!. أُقيمَ هذا العيد خصّيصًا لذكرى إستشهاد أكثر من 60.000 مسيحي كلداني، بينهم 104 أسقف وكاهن وشماس وعلى رأسهم البطريرك شمعون بر صّباعى، في 13 نيسان 344م ، يوم جمعة الآلام، في مدينة كرخ ليدان. وإذ أمر الملك شابور الثاني بحرق جثثهم هبَّت رياحٌ عاصفة وغطتهم بجبل من الرمال. أصبح بعدَه مزارًا تجري عنده المعجزات، يقصده المؤمنون للتبَّركِ منه.
تتلى علينا اليوم القراءات : أع6: 8-7: 10 ؛ عب11: 3-11 و32 – 12: 2 متى10: 16-33
الرسالة : عبرانيين 11 : 3-11، و 32 – 12 : 2
للشهود على الحَّق، سيما الذين صمدوا في إيمانهم حدَّ الإستشهاد، معترفين بسيادة كلام الله وشريعته، لهؤلاء مكانة خاصَّة في الكنيسة. ومكانتهم عظيمة لأنَّهم آمنوا ولم يهابوا الموت والألم بل تحَّملوا عذاباتٍ مرة وأحيانًا قاسية و وحشية لأجل كلمة الحَّق. عند كتابة الرسالة الى العبرانيين لم يكن بعدُ قد إستشهد من تلاميذ المسيح غير إسطيفانوس ويعقوب إبن زبدى (أع7: 54-60؛ 12: 1-2). لكن الحَّق الألهي موجود منذ بدء الخليقة و الأيمان بالله وكلامه ينطلق منذ وجود الأنسان. والمسيح جاء ليشهد للحَّق (يو18: 37) الذي كادَ أن يضيع وأن يُضرمَ شعلة ناره التي كادت أن تنطفيء ،فيقول :” جئتُ لأُلقي نارًا على الأرض وكم أتمنَّى أن تكون قد إشتعلت” (لو12: 49). هذا الأيمان بالله تقول عنه الرسالة أنه كان شريان حياة الآباء الأولين الأبرار في العهد القديم، يرفعه العهد الجديد رايةً ومنارة يقود جميع الناس، بنوره ودُفئِه، الى الحياة الحَّقة.
تصديقُ ما لا نراه !
ما هو الأيمان ؟ يبدأ الرسول بتعريف الأيمان. إنَّه ” تصديقُ ما لا نراهُ ” (آية 1)، ولمسُ ما لا يقعُ تحت الحواس. إذا أخبرتَ يومًا طبيبًا عن شِفاءٍ إعجازي يرُّدُ عليك:” أنا لا أُومن إلا بما أراه بعيني وألمسُه بيدي، فأُعالجُه”. فالطُبُّ يُعالجُ الجسد وبدواءٍ ملموس يُشترى من الصيدلية. إمّا إذا شُفيَ مريضٌ بغير دواءٍ ومن دون علاج طبيب يقول لك أنا لا أُفَّسرُ كيف تمَّ ذلك. أما المؤمن فيقولُ هناك خالقٌ أعطى العقل للطبيب. فالخالق أدرى وأقدرَ من الطُّبِ ومن الطبيب. فحيثُ يفشل الطب والطبيب يقدرُ اللهٌ أن يشفيَ ويعيد الى خليقته عافيتها التي أخذها منها عدُّوه. المؤمن ، وإن لم يرَ الله، لكنه يُصَّدقُ ما قاله الأقدمون منه بأنَّ الله موجودٌ ويعتني بالناس كأبٍ بأولادِه، لأنَّه يُحِّبُهم، وينتبهُ إلى أنَّاتِهم في ضيقهم، ويرحمُهم فيستجيبُ لهم إذا سألوه بثقةٍ بنوية.
إضافةً الى خبرة الحياة، للأنسان عقل به يُلاحظُ الكون والكائنات ويُعاين فيها أمورًا عجيبة ومُدهشة ويتأملُ سِرَّ حياة الكائنات، فيقتنع أنَّ كلَّ ذلك مع نظامه الرائع، الذي لا يمكن أن يُقَّلد، ليس وليد صُدفةٍ ولا بقوَّةٍ ذاتية، بل له صانعٌ ماهرٌ وراعٍ لا تغفله عينهُ لحظةً. ويُريدُ خيرَ الكائنات ويهتَّمُ بها بآستمرار، ويتفاعلُ معها لتدوم الحياة وتكتمل. لذلك على الأنسان، خليقةِ الله، أن يتعامل معه ويُصغيَ إليه ويحفظ كلامه.
وعلاوةً على الفكر إستقبل البعضُ إيحاءاتٍ من الله، مباشرة أو عن طريق الأحداث الزمنية بها عرفَوا مشيئة الخالق، كما نالوا منه عونًا وضماناتٍ ثَبَّتَ إيمانهم به. فما رواهُ موسى عن بداية الكون لم يكن سهلا قبوله بمحض الفكر لولا سبقته أحداثُ وإيحاءاتٌ حملت الناس على الأيمان بما نقله رجلُ الله. فما رواه لم يُبرهن عليه بآختبارات أو ببراهين فلسفية، بل معجزات الخروج من مصر، عملُ الله كان كفيلا ليؤمن الشعبُ بما أوحاه الى موسى فيقبل به. فقال الرسول:” بالأيمان ندركُ أنَّ الله خلقَ الكون بكلمةٍ منه” (آية3). وعليه سبق بولس وكتب للكورنثيين :” كلامي وتبشيري لم يعتمدا على أساليب الحكمة البشرية في الأقناع، بل على ما يُظهرُه روحُ الله وقوَّتُه. حتى يستند إيمانُكم الى قدرةِ الله لا الى حكمة البشر” (1كور2: 4-5).
الوثوقُ بما نرجوه !
فالأيمان يضعُ الأنسان في قالبِه. ليس الأنسان كاملا لا في معرفته ولا في قدرتِه. إِنَّه مائتٌ في جسده لكنه يشتاقُ ويُحِّسُ أنَّ الموتَ ليس فناءًا، وأنَّ الحياة لا تنتهي، بل يلمعُ في روحه بريقُ حياةٍ أقرب إلى الله، الخلود معه. فالأنسانُ يرجو راحة الحياة في العدل والأستقامة ، على الأرض وللأبد. إنَّه حَّقٌ. لأنَّ الله إذا خلقَ الأنسان فليس للشقاء والضيق والتعاسة. و ليس عدلاً أن يُسَّيبَه فريسة للشرير وللشهوات، أو ضحيَّةً للنكباتٍ دون إغاثة وإعانة. هل يُنجبُ أبٌ طفلاً ويعرضُه لمساوئ الحياة ويُهمله بلا عون ولا رحمة ؟.يقول الله:” لو نسيت المرأةُ رضيعها، فأنا لا أنساك ” (اش49: 15). هذا الرجاء بحياة النعمة قائمٌ على الثقة بالله الذي برهن خلال التأريخ أنه يريدُ خير الأنسان وراحته وأنه أمينٌ لوعوده.
بالأيمان قدَّم.. رفعَ .. لبَّى .. !
وهنا يذكر الرسولُ مؤمنين من العهد القديم ، آباءًا وأنبياءَ وقادة ، رجالاً ونساءًا، نماذجََ لأيمان حَّيٍ فعَّال نال رضى الله، حتى بـ “الأيمان شهدَ لهم الله أنهم أبرار”، و” لا زالوا يتكلمون بعدَ موتِهم”. أي يبقى إيمانُهم مدى الحياة درسًا ونموذجًا يُقتدَى به. فذكر هابيل وأخنوخ ونوح وإبراهيم مع سارة، واسحق ويعقوب ويوسف وموسى، والقادة الذين لأيمانهم بالله وثقتهم به ” أخضعوا الممالك وأقاموا العدلَ ونالوا ما وعد به الله وسَدُّوا أفواه الأسود ” (آية 33). كما يذكرُ أنَّ بعضَهم واجهوا، بسبب صمودهم في الحَّق وجهادهم لأعلاء اسم الله وتمجيدِه، آلامًا وآضطهادات تحَّملوها فقاسوا، بفرح وراحة، ” الهزءَ والجلد ، بل القيودَ و السجن، و رُجموا ونُشِروا وقتلوا بحد السيف، وتشَّردوا .. لا يستحِّقُهم العالم، فتاهوا في البراري و الجبال والمغاور وكهوف الأرض ” (آية35-38). لم يكن إيمانهم بأنفسهم و لا كان رجاؤُهم بالخيرات الزمنية التي لم يُقَّصر اللهُ في توفيرها لهم. كان إيمانهم بالله وبأنَّ له جزاءًا مجيدًا ومُفرحًا يُكرمُهم به عنده.
لم يكن إيمانهم أمرًا سهلا. إبراهيم مثلا لم يكن سهلا عليه أن يؤمن بالله ويثق بوعده أن يُرزقَه إبنًا وريثًا له وهو قارب المئة عام وزوجته، أم تسعين سنة ! وعاقر لا تُنجب، أن تقُّرَ عيونهما بمولودٍ يمَّددُ ذكرَهما للأبد. مع ذلك آمنا وغَذّيا رجاءَهما بثقتهم بالله أنه قادرٌ أن يفعلَ ما يشاء، وأنه أمين يفي بوعده. وثقا أنَّه يُحَّققُ ما أوحى به إنما على طريقته هو وحسب نظرته وفكره لا حسب توقعاتِهم، ” في وقت رضايَ أستجيبُ لك” (اش49: 8). تمَسَّكوا بإيمانهم ورجائِهم، رغم عدم منطقيته أحيانًا، بموجب الحكمة البشرية، ولم يتخَّلوا عنه حتى عند الضيق.
آمنوا أنهم غرباءَ نزلاء !
صمدوا في إيمانهم، مع أنهم لم يحظوا برؤية المخلص الموعود وماتوا فيه لا من أجل خير زمني ولكن لأنهم ” آمنوا أنهم غرباء ” عن هذا العالم فآشتاقوا الى وطن أفضل منه حيث، يقول الرسول، ” بالأيمان رأوا وجه المخَّلص وحَّيوه عن بُعد”. فعلا أكَدَّ يسوع أنَّ إبراهيم إبتهج على رجاء أن يُعايش أيّـامه، و رأى يومه وفرح (يو8: 56). لذا لم يُبالوا بأفراح الزمن أو شدائده بل بالأمانة لله والسلوك في رضاه. وهذا ما حدث أيضا لشهداء العهد الجديد الذي آمنوا أنهم نزلاءُ فقط على أرض الغربة فرفعوا أشواقهم وألحاظهم نحو السماء، مزدرين بالأهانة والعذاب، وعاينوا وسط آلامهم، مثل اسطيفانوس، مجد الله (أع7: 55-56)، فصمدوا مُرَّتلين ومسَّبحين الله حتى وقَّعوا بالدم شهادتهم عن المسيح. يختم الرسول كلامه بآستخلاص الدرس وحَّث المسيحيين إلى عدم السقوط تحت ثقل هموم الحياة الزمنية، بل ترك فاصل كبير للأيمان ومساحة كافية للبرهان عنه بثقتنا بالله وآمتدادنا نحو الوطن الخالد السماوي، ويقول :” لنُلقِ عَنَّا كلَّ ثقلٍ وكلَّ خطيئةٍ عالقةٍ بنا، فنجري بعزم في ميدان الجهاد الممتَّد أمامنا، ناظرين الى رأسٍ إيماننا ومُكَّملِه، يسوع الذي تحَّمل الصليب مٌستّخِفًا بالعار، من أجل الفرح الذي ينتظرُه ..” (آية 12: 1-2). وقد دأب بولس في رسائله يدعو المؤمنين الى الثبات في الأيمان الراسخ والمتأصل في يسوع المسيح. هكذا فعل مثلا مع أهل كولسي، قائلاً:” أُسلكوا في الرب يسوع ..متأَّصلين وراسخين فيه، ثابتين في الأيمان الذي تعَّلمتموه .. شاكرين كلَّ الشكر. وآنتبهوا ألا يسلبَ أحدٌ عقولَكم بالكلام الفلسفي والغرور الباطل القائم على تقاليد البشر..” (كو2: 7-8).