بمناسبة زيارة ذخائر القديسة ترازيا الطفل يسوع للرعية الكلدانية في سودرتالية ، ضمن جولتها في البلدان الأسكندينافية، طرقت السمع أسئلةٌ وآنتقاداتٌ “غريزية” وآحتجاجات من وراء الستارة، وبأصواتٍ خافتة أحيانًا، ولاسيما نقاشاتٌ علنية مفادُها أنَّ الكاثوليك عبدوا ، بتظاهرتهم الدينية، عظام إنسانةٍ لا تختلفُ عن بقية الناس، فسجدوا لعظام إعتبروها ذخائرَ، وكادت أن تكون أقربَ الى” عبادة أوثان ” مما إلى تكريم مزعوم. هذا للبعض وبينهم أفرادٌ كاثوليك. وأما غيرهم من الكاثوليك فتساءَلَ هل من الواجب عليهم المشاركة في إحتفالاتٍ مماثلة، حتى إذا لم يكونوا مُقتنعين؟.
تباركَ الله !
نعم تباركَ الله حتى على الأنتقادات والإحتجاجات ” الصامتة ” والإتهامات. إنها علامةُ أنَّ المؤمنين ليسوا غرباء عن ساحة الأحداث، حتى لو كان تفاعلهم سلبيًا، وأنهم لم يفقدوا إيمانهم حتى لو كانوا غيرَ ممارسين له بالشكل المفروض والبنَّاء. هكذا علَّم مار بولس ألا نُحاربَ من يختلفُ معنا ويُعارضُنا لأنَّه ينفع بإعلان جانبٍ آخر من صورة الأيمان، يقول: ” البعضُ يُبَّشرُ بالمسيح بنيَّةٍ صالحة، وغيرُهم عن حسد ومنافسة. هؤلاء يدفعُهم التحَّزبُ .. و أولئك تدفعهم المحبة.. ولكن ما هَمَّني، ما دام التبشيرُ بالمسيح يتّمُ في كلِّ حال، سواءٌ كان عن إخلاصٍ أو عن غير إخلاص..” (في1: 15-18).
تكريم أم عبادة ؟
إنَّ تعليمَ الكنيسة الكاثوليكية ينبُذُ كلَّ عبادةٍ لأيِّ شخصٍ أو شيءٍ كان ما عدا ” لله “. لأنَّ العبادة تعني :” الإعترافَ به إلَهًا، وخالِقًا، ومُخَّلِصًا، ورَبًّا وسَيِّدًا لكل ما هو موجود” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 2096). أما الخلائق، فمهما سمت، ” لا وجودَ لها إلا بالله” (ت.م. ك.ك، رقم 2097). أمَّا عبادة الأوثان فهي” عدم الأيمان بآلهةٍ أُخرى غيرَالله “، أي” تأليهُ ما ليس بإلَه”، وتبجيل الأنسان أو أية خليقةٍ أخرى عوضًا عن الله”(ت.م.ك.ك، رقم 2112 و 2113 ). ولم يعتبرالكاثوليك يومًا إلَهًا غيرَ الخالق السَّيد والمُخَّلص الوحيد والديان العادل. ولم يعبدوا إنسانًا حتى ولا قدّيسًا مهما عَظُمَ مقامُه، حتى ولا الطوباوية مريم العذراء رغم سُمُّوِ شأنِها، ورغمَ كلَّ العظائم التي صنعَها الله فيها وعلى يدِها (لو1: 49).
ما يفعلُه الكاثوليك هو الأعترافُ بما فَضَّلَه الله على بعض مُختاريه لأجل الشهادةِ لمجدِه تعالى نفسِه وبهدفِ بناء الكنيسة لأجل تأديةِ رسالةِ الخلاص المُوَّكَلَة عليها. هؤلاء المؤمنين الذين إشتركوا بقداسةِ الله بالعيش في الحَّق والمحبة على طريقةِ اللهِ نفسِه. والذين أيَّدَهم الله بإجراءِ معجزاتِ أشفيةٍ أو إنقاذٍ من أخطار الموت لمن طلبوها بشفاعَةِ صلاتِهم، ليُبَيِّنَ أنَّه قد إرتضى سلوكَهم وباركَ فأنجحَ جهودَهم ونشاطَهم. لقد خَوَّلَ الرَبُّ تلاميذَه إجراءَ آياتٍ لمساندةِ رسالتِهم (متى10: 8)، وقد أجروا فعلاً المعجزات وآفتخروا بها (مر6: 13؛ لو9: 17-20). ويؤمن الكاثوليك بأنَّ تلك المعجزات يُجريها الله مُباشرةً بناءًا على طلب القديس من الله أوالأيعاز إلى المطلوب أن يتحَّقق. مثلاً لما شفى بطرس مُخَّلعَ الهيكل لم يطلب من الله أن يشفيَه بل قال:” أُعطيكَ ما عندي. بآسم يسوع الناصري قُمْ وآمشٍ” (أع3: 6). وعليه أكَّدَ سفرُ الرؤيا بأنَّ صلاة القديس يتقبلها الله ويرتاحُ إليها فقال : ” فتصاعدَ من يد الملاك دُخّانُ البخور مع صلوات القديسين أمام الله ” (أع8: 4).
فصلاةُ القدّيس ليست سوى تتمة لأعماله التي مجَّدَت الله، لذا ينتظرُها الله بفارغ الصبر كي يستجيبَها. هكذا قال الرب يسوع: ” كلَّ ما تسألونه بآسمي أعملُه .. لم تسألوا الى الآن شيئًا بآسمي. إسألوا تنالون ويكون فرحكم تامًّا “(يو14: 13؛ 16: 14). ولا فقط إستجاب للرسل بل إستجابَ أيضًا لأيمان المؤمنين بأنَّ بطرس قادرٌ لا فقط أن يُشفي بالكلام بل حتى بسقوطِ ظِلِّه على المرضى (أع5: 15). وبولس يشفي المرضى بمناديل أو مآزر لمست فقط جسدَه (أع19: 12). حتى جسد القديس وكلُّ ما له علاقة به ولمسه بشكل أو آخر يصبحُ وسيلةً للشفاء. وقد كرَّم المسيحيون لا فقط شخصَ القديس بل حتى رفاته وتراب قبره وآستعملوها علاجًا لنيل الأشفية. لأنَّ الله الذي عاشَ في قلب وجسم هذا القديس أعطى الجسدَ وما لمسَه قوَّةً تُظهرُ مجدَه تعالى. وصليبُ المسيح هو أولى الذخائر المُكَّرَمة. ومثلَهم القديسة ترازيا التي، وإن كانت إنسانًا مثل كلِّ الناس، إلاّ إنَّ الله وهبَها نعمةً خاصَّة إكتشفت بها حُبَّ الله العظيم مع تواضُعه البليغ فسلكت طريق القداسة بشكل خاص ومختلف عن غيرها وهي” أن تكون طفلةً صغيرة في أحضان الله ” تُحِّبُه وتثقُ به مثل طفل مع أبيه. إفتهمت دعوة الرب أن يعيشَ الأنسانُ، مهما تقَّدمَ عمرُه أو تسامى علمُه أو تعاظمت ثروته، مثل طفل يشعرُ بضعفِه ويطمئنُّ لقرب الله منه فيثق به ويتكلُ عليه بكل شيء (متى18: 3). ملكوت الله يرفض المتكبرين والملحدين والفاسدين وعباد المال والمنصب. يستقبل فقط المتواضعين مثله والمحبين للآخرين والمتكلين عليه تعالى بثقة بنوية. وقد أبدى الله رضاه عن ترازيا فأجرى المعجزات على يدها وبشفاعتها. وقد سمَّت أسلوبَها في بلوغ القداسة ” طريقة الطفولة الروحية “، أي طريق المحبة والتواضع والثقة بالله والأنعدام بين يديه كطفلٍ فيحتضِنُه اللهُ ويرفعه ويُقَّويه ويُزَّينُه معه في مجده وراحتِه.
إقتدوا بي كما أقتدي بالله !
وإذا إحتفلت الكنيسة وكرَّمت القديسين في ذخائرهم فليس ذلك سوى لأنَّ الله سبقَها ومجَّدهم في السماء ويريدُ أن يُقَّدمَهم للناس مثالا يحتذون حذوهم. الرب يسوع علَّمنا طريق المحبة والتواضع في تجَّسده (في2: 5-9) وأرانا نموذجًا عمليًا عنها في غسله أرجل تلاميذه قائلا: “أعطيتكم مثالاً تقتدون به” (يو13: 15). وطلب مار بولس أن نقتديَ به كما يقتدي بالمسيح (1كور11: 1). وتُقَّدمُ الكنيسة القديسين نماذج نقتدي بهم. وقبل أن تفعل ذلك تصَّلي الى الله ليُعطيَها إشارةً من السماء بمشيئته بآستجابة شفاعتِهم. ولكي تُشَّجعَنا على الأقتداءِ بهم تُعلنَ لنا سيرتهم وترفعُهُم على المذابح مصابيحَ تشُّعُ لنا فضائلهم وكيف سمَوا في القداسة. هذا ما تنويه الكنيسة وليس عبادَتهم بل تكريمهم وتحفيزنا للتمَّثلِ بهم. ليست القداسةُ جبلا شاهقًا يصعبُ تسَّلُقُه يُدَّوخ الناظر إليه فكيف بالذي ينوي إرتقاءَه. ولا هي وادٍ سحيق يُرعبُ النزول إليه. ولا هي بالقيام بأعمالٍ جبّارة. هي بآستجابة دعوة الله لكل واحدٍ. يدعو الله كلَّ واحدٍ الى أداءِ مُهّمةٍ إنسانية لخدمة البشرية وبناء مملكتِه على الأرض. ويُعطيه النعمة الضرورية للقيام بها. ومن يتحَّلى فعلاً بالقداسة يُكَّلِلُه الله بإكليل المجد (2طيم4: 8). فالقداسة هي أنجاز تلك الخدمة بأمانةٍ. والأمانة تتطلب التخَّليَ عن الذات، كما تخَّلى الأبن عن مجدِه وأطاعَ حتى الموت، والإستجابة لمشيئةِ الله بوعيٍ و فرح وتصميم كما كان الأبن لا يقولُ ولا يعمل إلا ما طلبه منه الله الآب (يو8: 28-29). هذا ما يُسَّمونه “البطولة” في درب القداسة. وهذا هو ما فعله القديسون. وتقول الكنيسة أنَّ كلَّ مسيحي مدعو الى القداسة. حتى قال يسوع نفسُه أنَّه ” قدَّس نفسَه بالحَّق” من أجلنا (يو17: 19) لنتعَّلم دربَ القداسة و نسلكه من أجل خلاص العالم. لا بل سمَّى مار بولس كلَّ المعَّمدين بآسم المسيح ” قديسين”، أي قد وُضعوا على طريق القداسة ولا يحتاجون الى سوى البقاء فيها. والقديسون المُعلنون مثالٌ لنا في ذلك.
دعوا العظام ترتاح، ولا تُقلقوا الروح !
إستنكرَ بعضُ المعارضين للأحتفال بذخائر القديسة بحجَّة أنَّ روحَ الميِّت ليست موجودة في الأشلاء الباقية من الجثة. فماذا يعني تكريم عظامٍ لا روح لها. فآعتبروا ذلك “عبادة أوثان”. وآرتأَوا أنَّه من الأفضل تركُ الميِّت في راحة ولا يُقلقونه فيُزعجونه. وهل ينزعجُ جسمٌ أو عضوٌ منه بلا روح؟. بل وهل ينزعجُ مَيِّتٌ من تكريم الناسِ لجسدِه؟. أما حَرِّيٌ به أن يتهَلَّلَ ويبتهج؟. إذا قامَ عرسُ فرحٍ في السماء لتوبة خاطيءٍ (لو15: 7و10) أفلا يفرحُ صاحبُ الجسد نفسُه عندما يُكَّرِمُه البشر؟. وهل تشَّكى مَيِّتٌ يومًا لدى مؤمنٍ بسبب تكريم الكنيسة لجسمه؟. وهل طالبَ الموتى يومًا إيقافَ إعجابِ الناسِ بهم؟. نحن نعلم، بعكس ذلك، أنَّ الشهداءَ الأبرار في السماء يطلبون من الله أنْ يُعَّجلَ في الأنتقام لدمائِهم و الإقتصاصِ من أهل الدنيا الأشرار(رؤ6: 10). أما يفرح الميِّت، بعكسِ ما قيل، عندما يحُّسُ أنَّ الأرضَ تشتركُ مع السماء في تكريمِه وتقديمِه للناس بطلاً إيمانيًا ونموذجًا يُقتدى بِهِ؟. أم نحنُ البشر على الأرض لا نتحَّملُ عدالة الله (متى20: 15)، فنرى بعضًا من جنسِنا وجمعِنا ينالون المجدَ و شرفَ التقدير و التكريم لأنهم لا يُقاسموننا آراءَنا وعقائِدنا، فيرون كلَّ ما نفعله من خلال عدسةٍ سوداء؟. أ ليس هذا هو المجد الذي وعد به الرب للقديسين، على الأرض،” أضعافَ ما تحَّملوه من شدَّةٍ وضيق في جهادِهم ضدَّ الشَّر والفساد (لو18: 30)؟. ويؤولُ ذلك المجدُ، في النهاية، الى تمجيد الله نفسِه الذي يصنع المُدهِشات والمُعجزات في الذين يُحِّبونَه من كلِّ قلبِهم و يسمعون كلامه ولا يدينون غيرَهم.
هل المشاركة مُلزمة ؟
أخيرًا تساءَلَ البعضُ من المؤمنين الممارسين عن إلزاميةِ المشاركة في الإحتفاءِ بالقديسين من عدمها رغم إيمانهم الكاثوليكي، لأنَّهم في شكٍّ من صحَّةِ الأحتفاء بالقديسين كون التكريم يليقُ ويتعَّلق فقط بعبادة الله. مَيَّزنا أعلاه بين عبادة الله وتكريم القديس الذي سبقنا الله فكَرَّمَه بإجراءِ معجزاتٍ بشفاعتِه. طرحَ المؤمن سؤالاً بدون معنى حتى لا أقولَ ” سخيفًا”. إذ كيفَ أنا كاثوليكي ممارس لأيماني الذي تعرُضُه عليَّ الكنيسة وفي نفس الوقت أُخالفُ آدابَها و ممارساتِها؟. إما أنا مؤمن بكل شيءٍ تُعَّلمُه الكنيسة، من ضمنِه تكريم القديسين، وإما أنا لا أومن بالكنيسة بل أومن بنفسي وعقلي. لستُ أتكلم من باب الحُرَّية. الأنسان حُرٌّ أن يسلكَ كما يشاء حتى لو عارضَ نفسَه وقناعتَه الخاصَّة به. الأنسان قادرٌ أن يختارَ بين الخير و الشَّر، بين الحَّق والباطل. لا أحدَ يرفُضُ له هذه الحرية. ترك المسيحُ الحرية لبطرس أن ينكره وليهوذا أن يخونَه. لكنَّه ترك لهما أيضًا حرية التوبة. الواحد تاب والآخر إنتحر. لكن الحديثَ هنا من باب الضمير والأستقامة والأمانة للذات. هل أنا مؤمن وأتبع ما تطلبُه مني الكنيسة، لأنَّ الرب قال:” من سمع منكم سمع مني، ومن رفضكم رفضني” (متى10: 40). أم أنا مُلحِدٌ لا أومن بغير نفسي وعقلي فأتبع رأيي الشخصي؟. ليس معقولا ولا منطقيَا أن أومن بصِّحَةِ ما تعَّلِمُه الكنيسة وأُخالِفُ ممارساتِها، أو أقَّلَه أنتقِدُها. الخللُ هو عندي وليس عند الكنيسة التي كلَّفها الرب يسوع، مُخَّوِلاً إيَّاها سُلطانَه الألهي، بأنَّ ” تتُلمِذَ العالم ، وتُعَّمدَ الناسَ وتُعَّلمَهم بأنْ يعملوا بكلِّ ما أوصاهم به ” (متى28: 20). كرامةُ الأنسان أن يُطابقَ فعلُه كلامَه، وإلا فهو فريسِّيٌ منافِق (متى 23: 3).
طلبَ مار بولس من أهل كورنثية وتسالونيقية أن يُذعنوا لمن وقفوا أنفسَهم على خدمة الآخرين وأمثالِهم ومن شاركهم في السعيِ والجهد (1كور16: 16؛ 1تس5: 12). وطلب من تلميذه طيمثاوس أن يُكَّرمَ مُضاعَفًا من يتعبون في الكلام والتعليم (1طيم5: 17)، الذين ترتضيهم الكنيسة، فكيفَ بالذين جاهدوا وأعلنَ اللهُ نفسُه رضاه عنهم؟. أما قال عن إبنه الذي إرتضى به (متى3: 17؛ 17: 5)” مجَّدتُه وسأُمَّجِدُه ” (يو12: 28). وعلى تلاميذ المسيح أيضا أن يُمَّجدوا من مَجَّدَهم الله، القديسين المُقَّدَسين بالحَّق، والمُتّحدين مع الآب و الأبن (يو17: 21)، فيُمَجِّدون بذلك اللهَ نفسَه. نعم لأنَّ الله يتَمَّجدُ في قِدّيسيه، لأنه هو الذي يُطالب بالقداسة (أح19: 2؛ 1بط1: 15؛ 1تس4: 3). فيتمَجَّدُ بمن يستجيبُ له. هذا من باب الأيمان والأخلاق أن نُكَّرمَ القديسين ونقتديَ بهم. لكن التكريم والأقتداء ليسا محصورين بالأحتفاءِ برفاتِهم أو ذخائرهم في تظاهرةٍ دينية، نحن مدعوون إليها للأستفادة لكننا غيرُ مُلزَمين بالحضور. لربما لا يسمح عملنا بذلك. ليس الحضور الأهم. الأهم هو أن نعترفَ بفكرنا بقداسةِ المُكَّرَمين وأن يجذبنا مثلهم. وإذ نعاينُ مجدَهم نحاولَ الأقتداءَ بهم ، برغبتِهم وسلوكهم في تقديس ذواتِنا فنحيا دعوة الله لنا مثلهم بحُّبٍ وسخاء. يُشَّجِعُنا مثالُ سيرتهم على الصمود في الحق والبر والجهاد في أن نعكسَ حياةَ الله وإشعاعَ قداستِه في سلوكِنا، متَّكلين عليه وطالبين عونَه.