تُعَّيدُ الكنيسة الكلدانية تذكارَهما، كلَّ سنة ، في 15 تموز
لم يترك التأريخ، عن حياة يوليطي، أثَرًا كبيرًا عدا أنَّها كانت من عائلةٍ ثريّة و ذي نسبٍ شريف. ولا يُذكرُ من كان زوجُها ، وكيف كان. يبدو أنَّه كان، على الأرجح، وثنيًا ثم آهتدى الى المسيحية على يد يوليطي. كانت يوليطي تعيشُ في مدينةِ إيقانون (أيقونية) من أعمال ليكاؤونية (في تركيا) (أع14: 1-7). وعلى أيّام الأمبراطورين: ديوقلسيانوس (284-305م) وشريكه مَكسيميانوس (286-307م) الشهيرين بآضطهادهما القاسي ضِد المسيحين. وكان دومطيانوس، والي المدينة، متوَحِشًّا معروفًا بظلمِه وبطشِه.
كانت يوليطي غنيّة، لها أملاكٌ طائلة، ويخدُم بيتَها خَدَمٌ وحشم. ولمَّا توُفِّيَ زوجُها ،بسبب إضطهاد المسيحيين، خافت يوليطي بالأخَّص على إبنِها الصغير من حسدِ الأشرار وطمعهم. فكَرَّتْ بأن تتركَ المنطقة وتُهاجرَ الى حيثُ لا يعرفُها الناس، و حيثُ تسودُ ظروفٌ آمن للحياة. فتركت أهلها وأملاكَها وبلادَها وآنتقلت الى سلوقية في بلاد إيسوريا حِفاظًا على إيمانها مع مستقبل طفلها. أخذت معها إبنَها قرياقوس، البالغ من العمر ثلاثة أعوام، مع خادمين للخدمةِ والحراسة. كان حاكمُ الولايةِ ، ويُدعى ألكسندروس، يتعَقَّبُ المسيحيين ويُعَذِّبُهم ليحملهم على الجحود بالمسيح وعلى عبادةِ الأصنام. كان في إضطهاده قاسيًا جِدًّا على المؤمنين. تركت
يوليطي هذه المنطقة أيضًا وهاجرت الى مدينة طرسوس.
إستشهاد قرياقس وأُمِّه !
بعدما إستقَرَّت يوليطي في طرسوس نُقلَ الحاكمُ ألكسندروس أيضًا الى تلك المدينة. وبدأَ بملاحقةِ المسيحيين. و بلغه خبر يوليطي وآبنها. فأرسلَ في طلبها ليُحَقِّقَ معها. أخذت معها إبنَها ودخلت على الحاكم. أما خادماها فهربا خوفًا على حياتِهما. لكنَّهما تابعا أمرَها من بعيد. و لمَّا كانت المحاكماتُ علنية، يحضَرُها الشعبُ ويُهَوِّسُ لها، إختلط الخادمان بين الناس ليحضرا، خِفيَةً، محاكمة سَيِّدتِهما، فيقفا على مصيرها وعلى ما تؤولُ إليه الأمور.
سألَ الحاكم يوليطي عن إسمها ومهنتها وبلادها. أمَّا هي فلم تُجِبْ إلا بـ” أنا مسيحية., ولن أُقَرِّبَ الذبائح للأوثان”. إستاءَ الحاكمُ من جُرأتِها وآشتَدَّ غضبُه عليها. سحبَ طفلها من حِضنِها وأبعده عنها ليُؤَّثرَ عليها. ثمَّ أمر فشَدُّوها على وتدٍ لتُجلَد. وآنهالُ عليها الجَّلادُ ضربَا وحشيًّا. وكان قرياقس يبكي على أُمِّه و يصرخ ويطلب إعادته إلى أُمِّه. حسُنَ الطفلُ في عيني الحاكم فأشفقَ عليه وأمرَ فأتوا به عنده. إحتضنه ولاطفَه وكفكف دمعه. ثم وضعه على ركبتيه، وحاولَ
أن يُقَّبله. لكن قرياقس دفعه بيديه الصغيرتين. ثم بدأ ينبشُ وجهه بأظافره ويرفُسه برجليه الناعمتين محاولاً جُهدَه أن يفلت من حضن الحاكم ليذهب عند أمِّه. حاول الحاكم كثيرًا إشغاله بألاعيبَ وأمور صبيانية ليَلهوه عن أمِّه. لكنه كان قد رّكَّزَ نظره على أمِّه صارخًا مثلها :” أنا مسيحي”.
لمَّا رأى أن الطفل مستمِرٌّ على رفسِه وجرح وجهه هاجت وحشيَتُه فمسك قرياقسَ من رجلِه ورفعه عن الكرسي وضربه بقُوَّة على الأرض. إرتطم رأسُه بالحجر وتهَشِّمَ على الدرج فسال دمه وآندثر مُخُّه. علا الرعبُ وجوهَ المشاهدين لرؤية المنظر. وآنكمشتْ أساريرُ الحاكم نفسِه وبدأَ يرتجفُ. أما يوليطي فلم تذرف عليه حتى ولا دمعةً واحدة. بل سادها الهدوء والإرتياح لأنَّ إبنَها نال الحياة الأبدية ولم ينكر المسيح. كان يُخيفُها أن يحدث ذلك لو ماتت قبله. وحُبُّها لله أنساها آلامَها وقوَّاها على تحَّملِ مُصيبتِها. فصرخت :” يا رب، أشكركَ لأنه طاب لك أن ينال إبني قبلي إكليل المجد”.
هكذا روت الموسوعة التأريخية الخبر. هناك رواياتٌ مختلفة عن قتل قرياقس. تقول إحداها أنَّ الحاكم طعنه بسكاكين مُحَددة، وأُخرى أنه قطع رأسه بالسيف!، وذلك بعد أن عذبه أنواع العذابات الوحشية.
سمع الحاكم صلاة يوليطي وأحَسَّ نفسَه مُهانًا إذ لا تعتبرُه ولا تهابُه. وإذ تأَكَّدَ أنه لن ينفع معها شيء لجحد إيمانها، أمرَ أن تُشَّدَ من جديد وأن يُثقبَ جنباها بحديدٍ مُحَمًّى، وأن يسكبوا قارًا مغليًا على رجليها، وأن يُبَلِّغَها الجَّلادُ الإنذار الأخير: ” يا يوليطي إرحمي نفسَكِ. قَرّبي قرابين للآلهة فلا تموتين مثل إبنِكِ”. أما هي فلم يُرعِبْها لا التهديد والتعذيب، ولا الإغراءُ والترغيب، بل أجابت :” أنا لا أذبح لعواميد طرشاءَ وخرساء. أنا أسجدُ لربِّنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد الذي خلق بواسطته كلّ شيء. وإني أتلَّظى شوقًا لأذهب وألتقيَ إبني في ملكوت السماء”. و صمدت القديسة في إيمانها. فأمر الحاكم بقطع رأسها، وأن تُلقى جُثَّتُها بعدَه مع جُثَّة إبنها حيثُ تُرمى جثامين الأشرار والأشقياء.
شَدَّ الجندُ فم يوليطي وقادوها الى مكان الإعدام. ولما وصلت هناك طلبت أن تُمَهَّل لتصلي قليلا. ولما سمحوا لها ركعت وصلَّت قائلة :” يا رب أنتَ دعوت إبني عندك قبلي. يا يسوع طاب لك بسبب مراحمك الغزيرة، وإكرامًا لآسمك القُدوس، أن تُنقِذَه من آلام هذه الحياة، وتجعله صديقًا لك بين قِدّيسيك، إلتفِتْ إليَّ وآرحم أمتَك وأعطني، وإن كنتُ غير جديرة، أن أشترك بموكب العذارى الحكيمات اللواتي يحبنك ويسجدن لك للأبد. روحي تباركُ إلى الأبد الآبَ الذي خلق هذا الكون ويحميه مع روحك القدوس. آمين”. عندئذٍ ضرب الجلادُ عنقَها وألقوا جثَتها مع جثَّة قرياقس خارج المدينة. كان ذلك يوم 15 تموز سنة 305م. وفي اليوم التالي جاء الخادمان ورفعا جثتيهما ليلا ودفناها بإكرام.
إنَّ مار قرياقس شهيد مشهور في الكنيسة المشرقية / الكلدان. ومذكور كثيرًا ، يوميًا في ترتيلة الشهداء، وتذكارُه مع أُمِّه موثوقٌ برتبة صلاة طقسية خاصَّة. كما بُنيت على إسمه كنائسُ عديدة وفي أماكن مختلفة من بلاد ما بين النهرين، لاسيما في العراق.
لتكن صلاة مار قرياقس وأمه يوليطي معنا، تحمينا من كلِّ سوء، وتسندُ جهادنا ضد شَّر الناس الأشرار.