الأحد الأول للصيف

يُدعى هذا الأحد ” نوسَرْ ديل ” ويُفَسَّر بـ” عيد الله “، ويُحتفَلُ فيه بعيد الرسل الإثني عشر. والصلوات الطقسية ، بكل أجزائِها ، مُرَكِّزةٌ على الرسل و على كرازتهم ومِحنهم ومعجزاتهم وكيف نصَّرهم الله ثم إستقبلهم بالمجد في ملكوتِه. تُنَوِّه بعضُ الصلوات إلى رسل كل زمان وتَخُصًّ بالذكر آباء مجمع نيقية ، 325م ، الذين قاوموا الإنحرافات وحافظوا على الأيمان المُستقيم ، وحددوا متى وكيف تحتفلُ المسيحية كلها معا بعيد القيامة.  

 

                عــيد الرسل الأثني عشر   

تتلى علينا اليوم القراءات: أع5: 12-16؛ 1مل18: 30-39  1كور4: 9-16+2كور1: 8-14؛ لو14: 1-14

القـراءة : أعمال 5 : 12 – 16 :–  حياة الرسل والمسيحيين الأوائل المتمَيِّزة بالمحبَّة. الرسل يُبَّشرون والمؤمنون يزدادون. ويتفاقم الأضطهادُ ضِدَّهم لكنهم يصمدون بقوَّة نعمةِ الله.

القـراءة البديلة :  1 ملوك 18 : 30 – 39 :–  بعد جفافِ ثلاثة سنين ونصف يعودُ إيليا ، يتحَدَّى كهنة البعل ويغلبُهم بإيمانه وقبول الله ذبيحته فيتوب الشعب و ينزلُ المطر.

الرسالة : 1كورنثية 4 : 9 – 16 + 2 كورنثية 1 : 8 – 14 :– يُخبرُ بولس عن أوضاع االرسل القاسية. فهم يُهانون ويُعَذَّبون ويُهَدَّدون بالقتل، مع ذلك يفتخر بها بولس لأنها دليل حضور الله معهم ، ذلك بنجاح بشارتهم.

الأنجـيل : لوقا 14 : 1 – 14 :–  يشفي يسوع مريضًا في السبت ويُعلن أن الشريعة لا تمنعُ فيه عملَ الخير. ثم ينصح بالتواضع وبمساعدة المحتاجين، وبالأخص الذين لا يقوون على رَدِّ الجميل ، والله هو المجازي.

الرسول والشِــدَّة  !

لقي بولس الضيقَ والشدَّة حتى قاربَ الموتَ مِرارًا عديدة، وذلك بسبب البشارة بالمسيح. أهمُّها في فيلبي إذ أتت من داخل الكنيسة، وبنيَّةِ الإساءةِ إليه (في1: 12-19)، وأخرى من تجار السحر حيث كادوا أن يُميتوه لكنه إنتهى في السجن (أع16: 16-40). لكن بولس يتحَدَّث هنا عن آسية. ربما يقصدُ ما لقيه في أفسس وكاد رفيقاه أن يُقتلا في الفتنة التي أثارها الصاغةُ ضِدَّهم (أع 19: 23-33).إنَّما كان ذلك حدثًا واحدًا فقط. أمَّا بولس فقد تألَّمَ كثيرًا وذرفَ دموعًا سخينة حتى” كاد أن ييأسَ من الحياة ” (2كور1: 8)، وأغلبها محنٌ ومكايد ينصبها له اليهود لقتله (أع20: 19). فحسبَ جهادَه هذا حربًا ضد وحوش،” ضِدَّ ولاة هذا العالم، عالم الظلمات.. والأرواح الشّريرة (أف6: 12). ولم يلقَ الضيقَ في أفسس وحدَها بل في كلِّ مكان بشَّر فيه. كانت حياتُه الرسولية جهادًا قاسيًا وحربًا بلا هوادة أثارَها ضِدَّه أعداؤُه وأعداءُ المسيح. 

شعر بولس أنَّ جهادَه لم يخلُ من خطر الموت حتى أكَّدَ :” إني أذوقَ الموتَ كلَّ يوم”(1كو  15: 30-32). لكنه شعر أيضًا أن تلك العذابات ليست خافيةً عن الله فتعَّزى بقول المزَّمِرُ :” من أجلك نُعاني الموتَ طِوال النهار، ونُـعَّدُ كأننا غنمٌ للذبح “(رم8: 36). وما يعنيه الرسول بـ”الموت” ليس فقط موت الجسد. لأنَّه لا يهُّمه ذلك كثيرا. فقد قال:” حياتي هي المسيح. والموتُ غِنمٌ .. ولي رغبةٌ في الذهابِ لأكون مع المسيح ” (في1: 21-23). إنما يعني الألمَ الروحي بسبب شَّر الناس، وغيرتِه على الكنيسة وخلاص المؤمنين المُهَدَّدين من إبليس وأعوانه، لاسيما الأخوة الكَذّابين (أع20: 29 ؛ 1بط5: 8 ؛ 2بط2: 1). يتألَّمُ من خِداعِ الرسل المُزَيَّفين ودجلهم (2كور11: 13-14). وإضافةً إليها يتحَمَّلُ عذابات الجسد : من أخطار عديدة ومختلفة، وجلدٍ ورجم، وجوع وعطش، وجُهدٍ وكَّدٍ وسهر (1كور4: 9-13). ومن آلام النفسِ والروح حتى صاح :” أيُّ إنسان يضعفُ ولا أضعفُ أنا؟. وأيُّ إنسان زلَّت قدمُه ولا أحترقُ أنا بالنار” (2كور11: 29).

الحكمةُ من الشِدَّة  !

رغم كلِّ ضيقِه هذا لا يبدو الرسول أنَّه يتشَّكى من حاله. بل يريدُ أن يُرَّكزَ على نُقطةٍ مهّمة : ما يراه البشر من الضعفِ والضيق والألم ليس ثمرَ الرسالة ومحتواها. ليس دليل ضُعفِ من ألرسولَ على أنَّه لا يقدر أن يحميَ عُمّاله. وليس علامَةَ زوال البشارة وآندِحارِها. إنَّ ذلك فقط علامة:  على أنَّ الأنسان ضعيفٌ بذاتِه، لكنه قوّيٌ بالله، وأنَّ ما يقومُ به ليس عملَه بل عمل من هو أقوى منه ” الله”. علامة على أنَّه يُشاركُ اللهَ في حياتِه ويُتَـمِّمُ عمله في خلاصَ الأنسان. وعلامة أنَّ بين الله والأنسان فرقٌ شاسع، لكن عملَهما مشترَكٌ. يدعُو اللهُ الأنسان الى بيتِه، يعِدُه بحماية حياتِه، ويُكَلِّفُه بعملِ ما يضمن ذلك. هذا العمل يتطلب فكرَا، و وعيًا وقُوَّةً أسمى من التي يمتلكها الأنسان. ويتطلبُ وسائلَ وأدواتٍ لا يملكُها. يُوَّفرُها له الله نفسُه. وعليه هو أن يتدَرَّبَ على إستعمالِها، فيشتغلَ بوسائل الله وطُرُقِه. مطلوبٌ منه ألا يتّكلَ على نفسِه، بل أن يثقَ بالله، وأن يلتزمَ بما يطلبُه منه الله. وبما أنَّ أبناءَ العالم يُقاومون مُخَططَ الله وعملَه فلا بُدَّ من أن يقوم صِراعٌ وجهاد.  ونتيجة لذلك يصيبَ الرسولَ، جروحٌ وضيقٌ و حتى خطر الموت. ولكن ليست تلك نهاية المطاف.

ليس الله غافلاً عن حياة الرسول وعن مُعَوِّقات البشارة. الروح القدس يقودُ الرسل (أع16: 6-10) ويحميهم (أع18: 9-10). إنه يُنجدُ “عمَّاله” ويُنَّجحُ جهادَهم. على الرسول فقط أن يتحَّلى بالصبر، ويُقاوم ويصمدَ في الجهاد، ورجاؤُه في الرب، وليس في فكره وخُطَطِه و سِلاحِه. عليه أن يتجَرَّدَ من ذاته، كما تجَّردَ يسوع من ذاته وآتخَّذ صورة العبد وأطاع حتى الموت على الصليب (في2 : 7-8) وأن يتخَّلَ عما يتصَوَّرُه قوَّة وحكمة ليتفاعل مع مشيئة الله. عليه أن يتخَّلَ عن دروبِه و وسائله ليسير في درب الرب ويتمَسَّكَ بكلمته. وعندما يختفي ما للأنسان عندئذٍ يظهر ويبرز ما لله :” تكفيك نعمتي. في الضعفِ يبدو كمالُ قدرتي ” (2كور12: 9). أ ما هكذا جرى ليوسف الصِدّيق ؟. لموسى ولِلأنبياء إيليا وإرَميا ؟. هو نفس الله ونفس الرسالة ونفس الطريقة. ثبَّتها يسوع بتجرده وطاعته وصموده و أورَثها لتلاميذه. فعلى الرسول أن يعمل بنعمة الله لا بحكمةِ البشر(1كور2: 5)، وأن يرتفعَ هو إلى مقامِ مُرسِلِه ويتصَّرف كأنَّه هو الله. وهذا نصيب رسل كلِّ الأزمنة على صورة الرسول الأوحد الذي أرسله الآبُ مباشرة :” كما أرسلني الآب كذلك أنا أُرسلُكم “( يو20: 21؛ 17: 18). عليهم أن يُجَّسدوا المسيح في مجتمعهم وعملهم وحتي في تفكيرهم ؛ ” حياتي هي المسيح. فما أنا أَحيا بعدُ، بل المسيحُ يحيَا فيَّ ” (غل2: 20). فالرسولُ مِرآةٌ يعكسُ حياة الله وعمله، وشاهدٌ على أنَّ اللهَ صادقٌ وأمين.

المسيحي والشِدَّةِ والضيق !    

للهِ حكمتُه وخُطَّتُه، وللعالم فكرُه وأُسلوبُه. والمسيحي يعيشُ في العالم لكنَّه ليس من العالم (يو15: 19؛ 17: 14 و16). يتعَلَّمُ في العالم  لكن فكرَه وعلمَه من الرب، من المسيح : ” لم ننل روحَ العالم، بل نلنا الروح الآتي من عند الله. وأما نحن فلنا فكرُ المسيح” (1كور2: 12-16). وتعلم الرسلُ من المسيح الأخلاق (في2: 5)، والخدمة (يو13: 15)، وصاروا قُدوةً لنا لنقتديَ بدورنا بالمسيح :” إقتدوا بي كما أَقتدي أنا بالمسيح” (1كور11: 1).

إنَّ المسيحي مُجَرَّبٌ بأخذ العَدوى من العالم وأن يقتديَ بأهله وحكمته وحتى التباهي بقُدرته. لكنه مدعُوٌ أن يُسَّلِطَ ضوءَ إيمانه على سلوكِه ليكون مِن “أبناءِ الله بلا عيب، في جيلٍ ضّالٍ فاسدٍ تضيئون فيه ضياءَ النيِّراتِ في الكون” (في2: 15). فالمسيحي يُدركُ أنَّ قوَّتَه ليست من ذاته بل من الله. ويُدرك أيضًا أنَّ القُوَّة ليست بالفرضِ والتكسير والتحطيم، كما يجري في الثورات، وإرغام الآخرين على الإنصياع لمشيئتِها. بل هي بمعرفةِ الحَّق، أن يعرفَ الله ، وبآمتلاكِ الحُّب وتفعيله. قد يكون في عين العالم خاطِئًا أو ضعيفًا أو حتى شّاذًا. ولكن ليس العالم مقياسَ الحَّق، ولا هو نور المحبة. بل الله هو الذي يُنيرُ العقل بما هو الحق ويُلَّينُ القلب بما هو حب صادق. فما يكون في نظر العالم جهلا وضعفًا قد يكون في نظر الله قوَّة وحكمة (1كور1: 17-25). وقد يزدري أهلُ العالم تقَّيُدَ المؤمن بمشيئةِ الله ويُهينونه وحتى يضطهدونه. وهذا يُسَبِّبُ للمؤمن ألمًا وضيقًا وخوفًا. ولكن لا يصُّحُ ذلك. لم يفهم العالمُ سِعةَ الحب وقُوَّته. تعَوَّد أهل العالم على البغض والعنف عوض الأتكال على الحب واللطف. أمَّا المؤمن ” إبنُ الله ” فينظر الى المسيح المصلوب بسبب حُبِّه ويُدركُ أنَّ الصلبَ شهادةً للحق قادت يسوع الى مجد القيامة والإنتصار الحاسم. كان ضعيفًا في جسده المُعَلَّق فمات، لكنَّه كان حَيًّا وقديرًا في لاهوتِه وفي شهادته عن الحق والحب (2كور13: 4). لمَّا كان ضعيفًا كان أَقوى من صالبيه. هكذا يكون المؤمن قوِيًّا ، بالله الذي يُقَوّيه (في4: 13)، إذا سار على درب الحق والحب، مهما كان ضعيفًا في مقاييس البشر(2كور12: 10). هكذا كان الشهداءُ في آلامهم وموتهم أقوى من قوَّة السيف الذي مزَّق أجسادهم. بثباتهم على الحق نالوا إكليل المجد الأبدي، بينما نال أعداءُهم الخزيَ والعار بفشلهم في القضاء على المسيحيةِ.

لا ننسى أنَّ الله لايُجَّربنا فوق طاقتنا (1كور10: 13) وآلامنا بسببه تقودنا الى المجد (رم8: 18) فتظهر حياة المسيح فينا (1كور10: 4). فقد أُعطينا أن نؤمن ونتألم (في1: 29)،لأجل الحق، وهو أفضل من أن نتألم ونعمل الشر(1بط3: 14-17)، لأنَّ الله لا يغيبُ عن حياةِ أحبّائه… يُنقذهم من المحنة ويحمل الصليب معهم وعنهم (2بط2: 9). هكذا فالشِدَّةُ والضيقُ في حياة المسيحي، بسبب إيمانه وأخلاقه، ليست ضعفًا أو خسارة. هي دليل الحياة الحَقَّة في حضور الله فينا ونور إيمان مستقيم ومحبة صافية. هي إختبارٌ لقوَّته وحكمته التي هي لا شيء إزاء قوةِ الله وحكمته. حياتنا لا تتحقق إلا إذا عشنا بمقياس الله وأُسلوبِه. فعلى المؤمن أن ينقادَ لإرادةِ الله بثقةٍ وبلا ترَدُّد، لأنه رسوله.