أهلا وسهلا بالأخ ريبوار داود
قرأ الأخ ريبوار، من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثية، ف11: عدد 5-16، وتهَيَّأَ له أن مار بولس يقسو جدًّا على المرأة ويحُّط من قدرها وكرامتها حتى حسبَ أنه يعتبرُها خادمةٌ للرجل لا أكثر. فكتب:” أجدُ أحكام الرسالةِ قاسيةً جدًّا على المرأة، كأنها خُلِقَتْ لتخدُمَ الرجلَ وتُشغِلَ وحدَتَه”. ويُضيفُ أنه يجدُ هذا متناقضًا مع ما قرأه في غير مكان عن مساواتها مع الرجل وعن” تكاملهما مع بعضِهما” إذ يصيران جسَدًا واحِدًا.
ماذا قال الرسول ؟
لكي نُدركَ الموضوع في العمق ونناقشه بعدالة نقرأُه معًا أولاً :
” 2 أمدَحُكم لأنَّكم .. تُحافظون على التقاليد كما سَلَّمتُها إليكم. 3 لكني أريدُ أنْ تعرفوا أنَّ المسيحَ رأسُ الرجل، والرجلُ رأسُ المرأة، واللهُ رأسُ المسيح. 4 فكلُّ رجلٍ يُصَّلي أو يتنبَّأُ وهو مُغَّطى الرأس يُهينُ رأسَه، أي المسيح. 5 وكُلُّ آمرأةٍ تُصَّلي أو تتنَبَّأُ و هي مكشوفةُ الرأس تهينُ رأسَها، أي الرجل، كما لو كانت محلوقَةَ الشعرِ. ..7 لا يجوز للرجل أن يُغَّطيَ رأسَه لأنه صورةُ الله ويعكسُ مجدَه ، وأمَّا المرأةُ فتعكسُ مجدَ الرجل. .. 9 وما خلقَ اللهُ الرجلَ من أجل المرأة، بل خلقَ المرأةَ من أجل الرجل. 10 لذلك يجب على المرأةِ أنْ تُغَّطيَ رأسَها علامةَ الخضوع ، من أجل الملائكة. 11 ففي الرَّبِ لا تكون المرأةُ من دون الرجل، ولا الرجلُ من دون المرأة. 12 لأنه إذا كانت المرأةُ من الرجل، فالرجلُ تلِدُه المرأةُ ، وكلُّ شيءٍ من الله. 13 فآحكموا ..هل يليقُ بالمرأةِ أنْ تُصَّليَ لله وهي مكشوفةُ الرأس؟. .. 16 فإن أرادَ أحدٌ أن يُعارضَ ، فما هذا من عادتِنا، ولا من عادةِ كنائسِ الله “.
تحفظون التقاليد .. وليس من عادتنا !
بدأت الفقرة وآنتهت بالتأكيد عن موضوع ” التقاليدِ والعادات “، الذي يشَّجع بولس قرَّاءَه على التقيُّد بها ويُبدي إمتعاضَه لمخالفتها. لا يدور الكلام على مبدأٍ إيماني حتى نأخذ الأمور على محمل الجد ونضعه على مستوى الأمور العقائدية فنعطيَ له بُعدًا لا يُفَّكرُ به الرسول. بولس يهودي وفريسي مُتزَّمت للشريعة والنظام فلا يوافق أهل كورنثية على التحرُّر خوفًا من الأنفلات. يريدُ أن يكسرَ كبرياءَهم (1كور1: 26؛ 2: 10-16)، وأن ” يكون كلُّ شيءٍ بينهم بلياقةٍ ونظام ” (1كور14: 40).
ما الله إلَهَ فوضىً، بل إلَهُ السلام ! 1كور14: 33
لا يخلو الأيمان إذًا من النظام. لقد خلق اللهُ الكونَ وما فيه بنظام. وحَدَّدَ نظامًا لكل كائن يحيا بموجبه فيُحَّققُ ذاتَه. ليس الأنسان من ركَّبَ طبيعة الكائنات حتى يُقَرِّرَ كيفَ تتصَّرف، أو نظَّم حياتها ليُحاسبَها ويُحَّددَ الصحيح فيها من الخطأ. بل هو الله، وعلى الأنسان أن يكتشفَ ذلكَ الصُنعَ ويفهَمَ قصدَ الله. والأنسان نفسُه أحدُ تلك الكائنات صنعه الله بشكل يُساعدُه على تحقيق ذاته وتأدية رسالته في تتميم عمل الله، وحسبَ تصميمه. فإذا كان الأنسان، كما نعرفُه من البدء، هو رجلٌ وإمرأة، أي ذكرٌ وأنثى، وأنَّ لكل واحد منهما ميزتُه الخاصّة و عمله المختلف، إلا إنَّهما ليسا سوى ” إنسانٍ واحد” تجاه الله ويؤديان معًا عمل الله الواحد بأداءِ كلِّ واحد دورًا مختلفًا عن الآخر لتتكاملَ أدوارُهما وينصَّبَ عملهما الواحد أصلاً في عمل الله الواحد.
الرأسُ .. و ..الخضوع !
بَرَّرَ بولس تفسيرَه للآداب المسيحية بهذه النظرة الى الأمور. فالرجل والمرأة ليسا إثنين كما قال المسيح بل إنسانٌ واحد. وما دامت حياتهما بأفعالها واحدة فيجب أن يُصدي سلوكُهما لهذه الوحدة. وحدة تكامل وليست وحدة إضافة. وهذه الوحدة تنبني على حلقات الخلق و تَتَابُعِها. الله موجود ويخلقُ كلَّ شيء، ويرعاه ويدَّبره. بالمقابل تخضع له كلُّ الكائنات كما تخضع أعضاءُ الجسم لقيادة الرأس. فالله رأسُ كلّ شيء، ويخضع له كلًّ شيء ، لا خضوع الإستعباد، بل خضوع النظام كالجسم للمخ. وهذا أمرٌ بديهي يجبُ إدراكُه. هكذا يخضع المسيح لله، والله رأسُه. فالناسوتُ إتَّخَذَه الله ليُحَّققَ خلاص الأنسان. فهذه الحالة تخضع للاهوت. وبنفس القياس يكون المسيح رأسُ الأنسان “لأنه البكرُ لأخوة كثيرين” (رم 8: 29). والأنسان أو الناسوت يُمَّثلهُ الرجل، أي آدم، حسبَ رواية الكتاب المقدس (تك2: 8 و15-20). فالأنسان آدم الذي سَيطرَ وحَكَمَ الخليقة لم يكن بوسعه أن يُحَّققَ ذاتَه ولم ” يجد بين جميع الخلائق مثيلاً له يُعينُه” ليُمَّدِدَ الحياة ويُكثرَ النسل البشري. تكوينه الفردي لم يكن يساعد على ذلك. تُعينه الكائناتُ الأخرى على كل عمل وتدبير، أمَّا على تكاثره فكانت غير قادرة في إعانته. وإذا لم يتكاثر، وموتُه أكيدٌ، فالكونُ لن يكتمل، وتبقى الخليقة ناقصة. لـذا كان أدمُ بحاجةٍ الى عون من نوع آخر، من جنسِه هو بالذات يُضفي عليه ما ينقُصُه، لا في التكوين بل في نظام الحياة. لم يخلُقِ اللهُ إنسانًا جديدًا. لأنَّ مقَّوِمات الناسوت وطاقاتِه كانت كلها متوفرة فيه. لاينقُصُه شيء. كان يحتاج فقط إلى تطوير كيانه وتغيير بُنيتِه ليُؤَّديَ كلَّ طاقاته بالتمام. فـجَزَّأَ الله الأنسان الكامل، وأخرجَ منه الجزء الأنثوي فكانت المرأة، مقابل الإمرِئ الجزء الآخر، ليتفاعلا مع بعضهما ، تماما كما فصل في بدء الخليقة العناصر الأساسية (تك1: 6-19)، لتسَّهلَ عملية التفاعل بينها فتنمو الحياة بنجاح وبشكل طبيعي. و بتجزئة الأنسان أصبحَ العمل الأنساني لا يكتمل إلا عندما يشترك فيه الجزءان بشكل أو بآخر. والأشتراك يكون بالتكامل وليس بالتداخل والأعاقة. وهذا يتطلبُ نظامًا خاصًّا. عندئذٍ أصبح الإمرِئ/الرجل الرأس لأنه منه أخذت المرأة، وهي تخضع له.
تُغَّطي رأسَها علامة الخضوع !
وُلدَ الأنسان من نفخة الله ، فخرج منه لذا هو صورته. والمرأة خرجت من الإِمرئ، ولدت منه فهي صورته ” إنها عظمٌ من عظمي ولحمٌ من لحمي” (تك2: 23). وكما يعمل الله من خلال صورته الأنسان هكذا يعمل الأنسان الرجل من خلال المرأة ، أو المرأة أيضًا تعمل بقوة الرجل كما يعمل الأنسان بقوة الله. وإن كان بولس قد سَمَّى هذا التفاعل بين الزوجين خضوعًا لأنه يتبعُ النظام ويُفَعِّلُه، إلا إنَّه دعاه أيضا إعكاسَ المرأةِ مجدَ زوجها كما يعكسُ الأنسان، هي وزوجها، مجد الله. إذا لم تتناغم المرأة وتتكامل مع الرجل لن تقدر أن تشترك في عكس مجد الله. لا يقدر الأنسان المُجَزَّأ أن يُمَّجدَ الله ويتابع فعله، بل الأنسان المتَّحد كليًّا ، فكريًا وعاطفيا وجسديًا. هذا نظامٌ إقتضته طبيعة حياة الأنسان. فلا هو إستعبادٌ ولا هو إستخدامٌ ، بل هو تناغمٌ وتفاعل. فالمرأة لا تشغلُ وحدة الرجل ولا تخدمه، وإنْ صَحَّ هذا بينهما بالتبادل، بل تؤدي فقط دورها ورسالتها حسب خصوصيتها بالتوافقِ مع دور الرجل. لذا فتغطية الرأس ليس سوى علامة هذا التفاعل والتعاون، والتناغم والتناسق بين الزوجين اللذين ليسا سوى إنسان واحد يتكامل بالعطاء الجزئي من قبل كل واحد منهما من أجل اكتمال الخير الذي ينشدانه معًا.
تُهــينُ رأسَها !
إنَّ تغطية الرأس علامة العبودية. وإن كان الناس قد إستعبدوا بعضَهم عن جهل إلا إنَّ الله لم يفعل ذلك. فالأنسان ليس عبدًا لله بل صورةً محبوبة منه وله :” أنا لا أدعوكم عبيدًا بعدَ الآن.. بل أحّبائي، لأني أخبرتكم بكل ما سمغتُه من أبي” (يو15: 15). ولهذا تقلَّد الرجلُ اليهودي أن يرفعَ غطاءَ رأسه عند الصلاة ويقف أمام الله لا كعبدٍ بل كما خلقَه حُرًّا مُعطيًا له المجد. أمَّا المرأة فأعطاها الله شعر رأسها غطاءًا ومجدًا يتمتع به الرجل. وفي اجتماع عام تقَّلدتِ المرأةُ اليهودية أن تُغَّطيَ رأسها علامة على زواجها، فلا يطمع فيها غريبٌ، و إحترامًا لزوجها الذي عن طريقه تُمَّجدُ الله، لأنها نالت حياتها الخاصّة أيضًا عن طريقِه. هذا ما يريدُ بولس أن يُعَّبرَ عنه وليس أن يُقَّللَ من كرامتها وآعتبارها شبه ” أَمَة “.
المرأةُ من الرجل، والرجلُ تلدُه المرأة !
وقد تساءَلَ السائلُ الكريم فعلا عن تناقضٍ بدا له بين إحساسِه وبين ما يُؤَّكِدُّه بولس من جهةٍ ثانية عن المساواة بين الرجل والمرأة. وذهب بولس أبعدَ من ذلك عندما قال :” في الرَّب لا تكون المرأة من دون الرجل، ولا الرجلُ من دون المرأةِ “. في الرب لا تعني فقط أنَّ الأنجاب والأيلاد فعلُ الزوجين معًا، ولكن أكثر من ذلك يريد الرسول أن يُفهمَنا بأنَّ حـياة المتزوجين لا تكتمل إلا عندما يكونان بآتفاق تام بينهما في كلِّ أعمالهما، المشتركة أو المنفردة، وحتى في أفكارهما ورغباتهما. فلا يشعر أيًّ واحد منهما يومًا بالعزلةِ أو الغربةِ أو الأختلافِ. وإلا لن يكونا إنسانًا واحدًا.
المرأة خلقت من أجل الرجل !
كما نوَّهنا لا يعني هذا الكلام أن المرأة لا يُبَّررُ وجودَها إلا خدمةُ الرجل، خدمةً مادية إلزامية لا مناص منها ولا أجرَ لها. إنَّ الخدمة التي تقدمها للرجل تُقاسُ بدورها الذي تلعبه بجانب الرجل ومعه من أجل تطوير الكون وترقيتِه، ومن أجل تحسين حياة الناس خَدَميًا و إجتماعيًا. وهي لمْ تُخلق على الأنفراد، وبعد الرجل. كلا. كانت هي جزء من الأنسان الذي خلقه الله، مضمومة داخل الرجل، كما هو الطفل جزءٌ من والدته قبل أن يُحبَل به. وما دعاهُ الرسولُ خَلقًا ليس إلا فصلاً فقط وإخراجًا من الكيان الأصلي. و” من أجل” تعني لكي يقدر الأنسان أن يُؤَّديَ عمله بشكل كامل وصحيح. ولذا حتى كلمة ” الرجل” لا تعني الزوج الفرد، بل الأنسان في جزئه الذكر، والمسؤول عن قيادةِ الكون.
فآحكموا أنتــم .. !
وبعدَ أن عرضَ بولس أفكارَه وأسبابه يدعو القاريءَ والسامعَ اللبيبين إلى الألتحاق به في التأمل في نصوص الكتاب المقدس والأحداث التدبيرية والتربوية في تأريخ الخلاص و محاولة فهمها كما أوحاها الله ونقلها لنا الكاتبُ المُلهَم. وللقيام بذلك نحتاج دوما إلى طلب أنوار الروح القدس ليُرشِدَنا الى الحقيقة التي أوحاها إلى غيرنا ” لأنَّ الروحَ يفحصُ كلَّ شيء حتى أعماقِ الله. فمن هو الذي يعرفُ ما في الأنسان غيرُ الروح التي في الأنسان؟ وكذلك ما من أحدٍ يعرفُ ما في الله غيرُ روح الله” (1كور2: 10-11).