أهلا وسهلا بالأخ ليث كــني
قرأ الأخ ليث تأمل رسالة أربعاء الباعوثة فأقلقت بعضُ الأسئلة مَضجَعَه فكتب وسألَ :
عن موقف الله تجاه اسماعيل وعيسو ، فقال :
- لماذا كسر الله عُرفَ البكورية في خبر عيسو ويعقوب ؟
- ولماذا عاد الى قانون العبودية ففضَّلَ اسحق على إسماعيل ؟
- إذا كانت ولادة اسحق بوعد من الله ، فهل كانت ولادة إسماعيل من الشيطان ؟
عن معرفة الله للمستقبل وسماحه بالشر، فقال :
- لماذا يدَعُ اللهُ الشرَّ يعمل ؟
- أ لا يبدو اللهُ { حاشاهُ } ناقصَ الرحمةِ والقُدرة ؟
- الله ربُّ المحبة والرحمة ، كيفَ يرحم البعض ويقسو على البعض ؟
- أ ما يكون قاسيَ القلب ؟
إسماعيل وعيســو !
إنَّ الكتاب المقدس ينقلُ لنا الوحيَ الألهي. والوحيُ يهدفُ إلى فتح عين الناس وفكرِهم على الحقيقة الكونية. والحقيقة أنَّ للكون وما فيه خالقًا ، ونظامًا إلَهيًا يسيرُ بموجبه نحو كمالِه، و هذا النظام لا يقبلُ التغيير. وإذا توقَّفَ النظام أو تغَّير تُصابُ فيه الحياة بالخلل، وهذا الخلل يقود في النهاية إلى الإساءة الى الكون وما فيه، وقد ينتهي كلُّ شيء. فالكتاب يُتابعُ أحداثَ سلوك الأنسان، الذي يتمَّردُ غالبًا على الخالق ليتبع فكرَ هواهُ، ويكشفُ له أَخطاءَه ويُذَّكرُه بمشيئته كخالق ومُدبرٍللكائنات. يكتشفُ الأنسان ، بعقلِه أو بالوحي، ماذا يريدُ الله. ولكن لا يصلُ دومًا ألى معرفة لماذا هكذا يريدُ الله وليس بشكل آخر. وهذا هو إعتراضُ مار بولس على من يعترضون على سلوك الله فقال” هل يقولُ المصنوع لصانِعه لماذا صنعتني هكذا” (رم9: 20). معرفة الأنسان ناقصة ولهذا يخطأ كيرًا في تقديراتِه وقراراته. أما الله، فلأنَّه هو مهندسُ الحياة وخالقُ الكائنات، فمعرفته كاملة ويعلمُ كيف يتصَّرف ليُحَّققَ الكونُ هدفَه. وقد قال بفم نبيّه إشعيا: ” أنا الذي أُعَّلِمُكَ ما ينفعُ ويهديكَ طريقًا تسلكُه ” (اش48: 17). و هذا هو ما فعله الله في إبنِه المتجَّسِد، المسيح، وقال :” إننا نتكَّلم بما نعلم ونشهد بما رأينا” (يو3: 11).
إسماعيل
نبدأ بإسماعيل. لا نتَّهِمُ الله، كعادتنا، قبل أن نتجَّلى الحقيقة. لم يَعُدِ اللهُ إلى ” قانون العبودية “، الذي يرفُضُه مبدإيًا وسوفُ يحُاربُه ويدعو إلى إلغائِه:” إذا إفتقرَ اسرائيليٌّ وباع نفسَه لك، فلا تستخدمْه خدمة العبيد بل كأجيرٍ ومقيم يكون معك و يخدُمك الى سنة اليوبيل، ثم يخرج من عندك، هو وبنوه معه ” (أح25: 39-41). ثم قَلَّصَ مدة الخدمة إلى” سِتِّ سنين، وفي السابعة يخرجُ حُرًّا بلا ثمن” (خر21: 2 ؛ تث15: 12). ولم يظلم اللهُ اسماعيلَ لأنه إبنُ أَمَة، بل كَرَّمه لأجل إبراهيم أبيه، فقال عنه:” أما اسماعيلُ فسمعتُ لك، وها انا أُباركُه وأُنَّميه وأُكَّثرُه..” (تك 17: 20). ويُكَّررُ إعتناءَه به عندما طلبت سارة إقصاءَه عن البيت :” لا يسوءُك كلام سارة عن الصبي وعلى جاريتِك … بإسحقَ يكون لك نسلٌ. وآبنُ الجاريةِ أيضًا أجعَلُه أُمَّةً، لأنه من صُلبكَ ” (تك21: 12-13).
لم يُفَّرق اللهُ بين الأخوة بسبب عنصريةٍ أو إنحياز. بل كان ما حصل أيضًا نتيجة قانونية حتمية. لم يكن لأبراهيم نسلٌ. وعده الله به. كيفَ سيتحَّقق وسارة عجوزة (90 سنة) و عاقر؟. فكَّرت سارة لربما يريدُ الله ان يُطبقوا شريعة حمورابي فتدفع جاريتها هاجر الى حضن زوجها لتنجبَ منها لنفسِها طفلاً. لكن الله لم يقل ذلك. بل عنى منذ البداية إبنًا من رحم سارة، وبمعجزة إلهية :” بل سارة إمرأتُك ستلدُ لك إبنًا وتسَّميه إسحق. وأُقيم عهدي معه، عهدًا مؤَّبَدًا لنسلِه بعده ” (تك17: 19). خطة الله ومشيئته أن يكون نسل أبراهيم معجزة لا يُجريها غير الله. بينما إفتهمت سارة أنَّ ذلك يتم بطريقة بشرية فآلتجَأت قانونيًا الى الخادمة. لم يُغَّير اللهُ خُطَّتَه بل نفَّذَها كما شاءَ. لم يُؤَّيد شريعة البشر الذين إلتجأوا إلى طُرُقٍ مُلتوية للتغَّلُبْ على خذلان الطبيعة.
ولم تكن ولادة اسماغيل بتدخل شيطاني مباشر. بل كان نتيجة تدخل الشيطان بدفع البشر إلى سَّنِ قوانين لا تحترم قدسية الزواج ولا وحدانية قطبيه كما أراده الله منذ البدء (تك2: 24). قد يكون إقصاءُ اسماعيلَ دينونةً من الله غير مباشرة لشريعة الناس. وسوف يدين المسيح وجهًا آخر لتشويه الزواج سمح به موسى، الطلاق، والهدف إسترجاع الزواج وحدته وقدسيته (متى19: 6-9). لم يخلق الله ذكَرًا واحدًا مع إناثٍ عديدات، وأنثى واحدة وعدد من ذكور. بل خلقَ إنسانًا واحدًا ثم فصَله جزئين ليتفاعلا بينهما ويُمَّددا عمل الله بإنجاب ناسٍ آخرين. لا يقدر كلُّ جزءٍ لوحده أن يُؤَّدي المهمة. يكفي أن يتفاعلَ الجزءان عن طريق الزواج ويعودَ الأنسانُ كاملاً قادرًا على أداءِ دوره المطلوب. وإذا خانت الطبيعة أُناسًا هناك غيرُهم يفيضون بالنسل. ليس الطفلُ هدفَ الزواج بل ثمرَه. ولهذا فالزواج الشرعي يرفضُ، حتى لو لم يُثمر، معالجةُ دائِه بطريقةٍ تقللُ من قدسية الوحدة بين الزوجين. وإذا سُمِح لثغرة ما، فستُصبحُ تلك الثغرة شارعًا عريضًا ” يُفَّوتُ جملاً “. ٍلذا اصَّرَ الله على خُطَّته ورفضَ خطَّة الناس، إنَّما دون أن يُسيءَ إلى ثمار تلك الخطة الأبرياء. وحتى إقصاءُ إسماعيل كان تابعًا لخطة إنجابِه، لأنه تمَّ أيضًا بموجب شريعة حمورابي السارية المفعول آنذاك. ما دام وُلد لسيدة البيت طفلٌ من رحمها لا حَّقَ لأي طفلٍ من رحمٍ آخر أن يرثَ معه شيئًا من أبيه. أما إسماعيل فكان أوفرَ حظًّا إذ تكَّفَله اللهُ نفسُه. ففي حين لم يُنجب اسحق غير طفلين أنجب إسماعيل إثني عشر رئيسًا لقبائلهم (تك25: 12-16).
عيسـو
أما عيسو إبنُ اسحق وإقصاؤُه عن حق البكورية، بأخذ مكانة ابيه في السيادة و وراثة ضُعفَي إخوتِه من أملاكِ أبيه، فليس الله من كسرَ العرفَ. بل لم يكن العُرفُ أصلاً عادلاً. فحيث فرَّق البشر بين الإخوة لأسباب بشرية يريدُ الله أن يكونوا متساوين في عين الوالدين وعنايتهم. ولكن هذا لا يمنع أن يختلفَ الأخوة بينهم في صفاتِهم وقدراتهم وأخلاقهم. وإذا كان الله قد إختار يعقوب فلم يكن خلافًا للعرف، لأنهما توأمان. و ولادة الواحد دقائق قبل الآخر لا يجعله أقدم في تكوينه. فقد تكونا في نفس اللحظة ومن نفس البويضة. لقد أخطأ البشر في تقييم الحياة بموجب الولادة الزمنية. إذ لا فضل لأحد في أن يكون الأول ولا عيبَ في أن يكون الأخير. هذه الحسابات تتبع العاطفة البشرية. يقول المثل العربي: ” لا تقُلْ أصلي وفصلي أبدًا. إنَّما أصلُ الفتى ما قد حصل”. يُقَّيمُ الأنسان بأعمالِه. و أظهرَ عيسو أنَّه ليس جديرًا أن يستلم مسؤولية العهد. لقد تنازل عن بكوريتِه و باعَها ” بطبق عدس” قائلاً: ” أنا صائرٌ إلى الموت، فما لي والبكورية”؟ (تك25: 32). بيما يعقوبُ يُخاطر بحياتِه من أجل ذلك. بالأضافة الى ذلك بينما يبحث يعقوب عن زواج امرأة تسنده في إيمانه وتريحُ والديه تزوجَّ عيسو من كنعانيات أزعجن والديه، وتزوج عمدًا من كنعانية ثالثة لإغاضتِهما (تك28: 8-9).
معرفة المستقبل ، والسماح بالشر !
فالصلاة حوار مع الله لتمجيده والأستغاثة به إمَّا للأعتذار عن الأخطاء أو لطلب حمايتِه أو لتلبية حاجاتٍ كالأشفية والعدالةِ أو للشكر والحمد وغيرها. فبالصلاة ندعو الله أن يكون إلى جانبنا ولا يسمح للشر أن يتغلَّبَ علينا ولا أن تقسوَ الحياة علينا فوقَ طاقتنا. إننا كالأطفال ندعو اللهَ أبانا السماوي أن يرافقنا في كلِّ أوقاتِ حياتنا. أمَّا دور الصلاة للعودة إلى الفردوس، والتشجيع عليها مع التوبة، فتلكَ دعوةٌ وَجَّهَها يسوع المسيح للناس لا عقابًا بل إستعدادًا لدخول الفردوس، مثل لِصِّ اليمين الذي إعترفَ بأنَّه خاطيءٌ وتائب وأضافَ فصَّلى الى الرب ليُخَّلصه فيأخذَه معه الى الفردوس. الرب يسوع دفع ثمن خطيئة الأنسان وطلبَ منه أن يتوبَ عن شَرِّهِ، ويسألَ رحمةَ الله في الصلاة ليُعينه على ذلك. لم تكن التوبة والصلاة قصاصًا بل سِلاحًا به يشترك المؤمن مع المسيح في كسر رأس ابليس ودفع ثمن خطاياه بالطاعة لله فيرضى عنه ويستقبله في راحةِ فردوسِه للأبد. فالتوبة والصلاة هما الطريق المُؤَّدي إلى الله فالإِتّحادِ به ، وبالتالي طريق الحياة الأبدية. أمَّا العقاب فهو دفع الثمن عن الجريمة. والمسيح دفع ثمن جريمتنا فعُّلِقَ على الصليب مثل مجرمٍ ملعون. أما نحن فبتوبتنا وصلاتنا ننتمي إلى المسيح ونرجو أن يشملنا بآستحقاقهِ و يُشركنا في نعيم فردوسه الخالد. ولهذا طلب منا الرب ألا نيأس عندما نخطأ أو نقع في ضيق أو نحتاج الى عونه بل أن نثق برحمته ولاسيما بوعده القائل: ” كلَّ ما تطلبونه بآسمي تنالونه ” (يو14: 13-14). لو كان يعاقبنا لما ألَّح علينا بالصلاة. بل لأنه يُحِّبُنا ويريد خيرَنا يدعونا إلى الأستغاثة به كما كان يفعله هو عندما كان يسبقُ الأزمنة الحرجة فينعزلُ للصلاة إلى الله الآب بآسمنا جميعًا و يطلب تدَّخلَه وعونه لينجح في مساعيه لخيرِنا.
يسمحُ الله بالشَّر ، لماذا ؟
أولُ أكبر شَّرٍ سمح به الله هو الطوفان. ليس الله من قاصص البشر الخاطئين. بل هو شَرُّهم وفسادهم. يقول سفرُ الحكمة: ” الله لم يصنع الموت. ولا يسُّرُه هلاكُ الأحياء. خلقَ كلَّ شيءٍ للبقاء، وجعله .. سليمًا خاليًا من السم القاتل. لكن الأشرار جلبوا على أنفسِهم الموت بأعمالهم وأقوالِهم” (حك1: 12-16). ومن أغواهم هو الذي جلب عليهم الطوفان لإفناء البشرية. سمح اللهُ بموت الأشرار لكنه أنقذ الأبرار، ولو ثمانية أشخاص ليبرهن للبشر أنه يرفض الشر ويحمي الأبرار، و أنه قادرٌ أن يبني البشرية بهذا العدد القليل. يقول مار بطرس بأنَّ الفلك الذي أنقذ نوح وعائلته الأبرار رمز للمعمودية التي تنقذنا من الهلاك. فالطوفان يقاس بالخير الذي أجراه الله بواسطته لا بالشر الذي أراده ابليس للأنسانية.
وثاني أكبر شر سمح به الله ربما يكون ما أصاب يوسف الصِدّيق ابن يعقوب من ظلم إخوته وأسياده في مصر. لكن ذلك الشَّر إستغَّله الله ليقودَه إلى تبوُّء السلطة في مصر، كما كشفها له عند طفولتِه وجلبت عليه نقمة الأخوة، ولإنقاذ الشعب المختار من هلاكٍ مُحَّتَم أراده له ابليس عدُّوه. فلما عَرَّفَ نفسَه لأخوته وعَرِفَ خوفَهم من إنتقامِه طمأنهم قائلاً: ” الشَّرَ الذي أردتموه لي أرادَه الله خيرًا كما ترون، ليُنقِذَ حياة كثير من الناس” (تك50: 20). أكتفي بهذين المثلين. وكان الله يعرفُ مُسَّبقًا أن هذه الأمور ستحدث. لأنه هو يسمح بها بهدف. ومع الهدف المذكور هناك كرامة الأنسان كونه صورة الله في العقل والأختيار. يريدُ الله أن يُمَّيزَ الأنسان مثله بين الخير والشر، وأن يختار بمحض إرادته الخير لكي يكون فعلا صورة واقعية لله، ويستحَّقَ بذلك مشاركته نعيمه ومجدَه. ولو لم يسمح الله بالشر فكيف يُمَّيز الأنسان الخير أو يختارُه؟. وإذا فقد الأنسان هذه الإمكانية فأين كرامته المُمَّيزة عن بقية الكائنات، وكيف كان يمكن أن يتصَّرفَ مثل الله؟. و أخيرًا هو الأنسان الذي إختار لنفسِه هذه الحرية في أول فعل مارسَه رافضًا تبعية الله ومحاولا أن يكون إلَهًا آخر!. وآحترم الله، ويحترم دومًا، قرارَه.
هل ينقصُ الله قدرةً أو رحمة ؟
بدا للسائل الكريم وكأنَّ الله غير قادر على مقاومة الشر. الله الذي خلق من لا شيء عظائم الكون ومُذهلاتِه أسهلُ عليه إبادتها من صُنعها. إذا كان الأنسان ، خليقة الله، يمضي سنين في بناء عمارةً ويُدَّمرها بيوم فكم بالأحرى يقوى الله على مقاومة الشر وإزالته. ومن أبادَ الأمبراطوريات وأسقط الطغاة عن العروش غير الله؟. لا يعود الأمر الى عدم قدرة الله، بل إلى عظمة رحمته التي تفوقُ عدالته. لأنَّ الله يُحِّبُ الأنسان الذي أوجدَه ولا يريد له الضيق والهلاك، يصبر على شَّرِه ويُعطيه فرصة التوبة وإصلاح السلوك. يقول في حزقيال النبي بأنَّه لا يفرح بموت الخاطي لذا لا يعاقبه بل يريد أن يتوبَ ويحيا أمامه. وعليه يُمهِلُه فرصةَ، بل فُرَصًا، للتوبة. لأنَّ الله رحومٌ ورؤوف منع قتل الأنسان حتى، الخاطيء المجرم ، بل محاولة إصلاحه عوض ذلك. لا يوجد والدان يسيئان إلى أولادهم حتى المجرمين بل يريدان دوما حمايتهم وإصلاحهم. شَرُّ الأنسان نفسُه هو يُميتُه ويُهلِكه والله يريد أن يُنقذَه فيُحَّررَه منه.
ينبع الشر من داخل الأنسان، من فكره وقلبه (متى15: 18-20)، فيدعو اللهُ الأنسان أن يُقاوم الشَّر في داخله والله يُعينُه في الإنتصار عليه. يدعو الله الأنسان الى القداسة بسلوك درب الحَّق والمحبة، وإلى التوبة وتغيير السلوك عندما يخطأ. يُريد الله أن يُقَّويَ الأنسان ليكون قادرًا على مقاومة الشر. يُسَّلحُه بالنعمة ولاسيما بوجود الروح القدس معه ليتحَّدى الشر. وعندئذٍ يفتخرُ بصورته أنَّه أهلٌ بمقامه ودعوته حتى لو دفعَ أحيانًا ثمنًا مؤلِمًا، تمامًا كما فعل مع أيوب (أي2: 3-10). و يسوع كان قادرًا على سجن يهوذا ومنعه من تسليمه للموت. لكنه وَعَّاه على شَّر نيته داعيًا إيّاه بذلك الى التوبة. كان موت يسوع لصالح البشرية ، أمَّا توبة يهوذا فلصالحه هو. يسوع قبل التحَّدي وتألم لكنه رفع شأن الحق. أما يهوذا فتخاذل ولم يتَّعِظ فأماتَه شَرُّه. وفي بستان الزيتون صَرَّح يسوع أنه قادرٌ على إبادة أعدائه، لكنه رفض مقاومة الشر بشر وفضَّلَ أن يقاوم الشر بالحب ويموت فداءًا عَمَّن أحَّبَهم. و أصبح ذلك شِعارًا للأنسانية ليُغلبَ الَّشَّرُ بالخير.
يرحم البعض ويقسو على غيرهم
وبدا للسائل الكريم وكأنَّ الله ليس عادلا إذ يرحمُ من يشاء ويقسو على من يشاء. وآستغربَ كيفَ يكون ” ربُّ المحبة والرحمة” قاسيَ القلب. قساوة القلب لا تعني أن يُؤلمَ اللهُ البعضَ أو يُسيءَ إليهم. بل لمَّا يسلكُ البعضُ طريق الشَّر ولا يسمع كلام الله بل يتمَّسكُ برأيه و رغبته بعناد لا يلُّح الله عليه بل يتركه لهواه ويسنح له أن يذهبَ بعيدًا في سلوكه، لعَّله في الأخير يرعوي، وإذا لم يفعل فعندئذ يسمح للشر أن يصيبَه هو كما فعل مع فرعون مصر الذي رفض خروج الشعب وقسَّى معه، فشملته عقوبات مصر ومات بكره فخضع للأمر الواقع. ثمَّ عاد الى سوئه فتعَقَّب بني إسرائيل لكن الله لم يمهله أن يُكَّمل شَرَّه بل أعاد مياه البحر الى قاعِها فأغرقته مع جيشِه. ليس الله من أرادَ موت فرعون بل شَرُّ فرعون نفسُه دفعه الى الهاوية ولم يحفظه الله عن ذلك. بينما رحم اللهُ الشعب الجاهل الذي أخطأ كثيرًا في برية سيناء لأنه كان مغلوبًا على أمره، ولأنَّه كان بين الشعب من يؤمنون بالله و يسمعون كلامه و يتشَّفعون لأخوانهم، مثل موسى وهارون ويشوع بن نون وكالب و غيرهم. وإن قال الكتاب ” يرحم الله من يشاء ويقسو على من يشاء” لا تعني أن الله يُفَّرق بين الناس فيُبَّرر حتى خطأة ويقسو حتى على أبرار. كلا. يبقى الله هو الخالق ولا أحد يأمرُ عليه. فلا يتقَيَّدُ الله بمشيئة البشر ورغباتهم. بل يتصَّرف هو بحريتِه بالطريقة الأمثل والأفضل ليقودَ البشرية الى الأيمان به والخضوع لوصاياه. لا يحيا كل الناس مثل بعضهم ولا يملكون نفس المواهب والقدرات. وحسب معرفته لهم يختار الله من يكلفه بخدمة معَّينة لبنيان البشرية ويدعو غيرَه الى مهمة مختلفة. إختار بطرس وآختار بولس لمعرفة الله بكفاءَتهما لمواجهة صعوبات مهامِّهما، تماما كما إختار يهوذا، رغم معرفته بشذوذه، معطيا له بذلك فرصة أن يخدم ملكوت الله. أما هو فظلَّ في قوقعة الطمع، ولم يلتفت إلى تحذيرات الرب إلى أن خنقتْه يبقى الله يتصَّرف دوما بمحبة ورحمة، إنمَّا حسب فكره وحكمته، ومعرفتِه أنَّه ينفع، وليس حسب فكر الأنسان ورغباته. والبون شاسعٌ بين فكر الله وطريقة معالجته للأمور وبين فكر البشر وطرقهم. البشر يميلون الى العنف بسبب ضُعفِهم، والى الحلول الآنية السريعة لقصر باعهم وعمرهم، ويقيِّمون كلَّ شيء بقياس الزمن والحياة الجسدية على الأرض. لا علاقة لهم بالروح. ويستندون الى القوميات والحضارات والمصالح والحقوق، أما الله فيقيس كلَّ شيء بالأبدية وحياة الروح الخالدة وقيم الحَّق والمحبة. كلُّ شيء آخر هو وسيلة ، في حين يقوم عند الأنسان مقام الهدف المنشود لذاتِه. لا يتعامل الله مع الأنسان على أساس سلوكه. على سلوكه سيحاسبُه. لكنه يتعامل معه على أساس إبنه وصورته ودعوته ليعيش معه للأبد في نعيم ومجد. ولاسيما يتعامل مع البشرية كعائلة واحدة أفرادها إخوة وأخوات، في حين يتغَرَّبُ البشر بعضُهم عن بعضٍ بحجج و لأسباب كثيرة. فسلوك الله يُبنى على محبته ورحمته كأب يساعد وليس على عدالة البشر كقضاةٍ يُحاسبون فيعاقبون. ولا تقليد عند الله ولا تراث ولا تمييز ولا عنصرية بل له مكيال واحد وحياة واحدة دون إزدواجية أو تغيير. فمن سار في طريق الرب يلقى الرحمة واللطف، أما من خرج عن طريقه فلا ملامة له على الله. لأنه ليس الله المُقَّصر بل الأنسان هو الذي إختار طريقًا مغايرًا لله. وليس من المعقول أن نلوم الله أو نطالبه أن يسايرنا في عقلياتنا وقناعاتنا. هو صار إنسانًا في شخص المسيح ويدعونا إلى أن نصبح آلهة معه في سلوكنا، فنعرفه كما يعرفنا، ونتعَّلم منه ما هو الحَّق.