أهلا وسهلا بالأخت ريتا اللوس.
قرأت ريتا لكاهن كتب يقول أنَّ قصص الكتاب المقدس لم تحدث كلها في الحقيقة. فأثار ذلك شكها بإيمان الكنيسة الكاثوليكية بحرفية الكتاب وقالت :” أنا أومنُ بحرفية الكتاب المقدس”. وعليه وجَّهت الأسئلة التالية :
هل تؤمن الكنيسة الكاثوليكية بحرفية الكتاب المقدس ، وتعلمُ ذلك ؟
هل تؤمن أنَّ قصة آدم وحواء حقيقية ، أم كلُ الكتاب رموز ؟
حل تعـترفُ بنظرية التطَّـور ؟
ما الفرقُ بين روايات العهد القديم :- خلق، سدوم وعامورة، نوح -: وأمثال المسيح ؟
هل هذه الأمثال وتلك الروايات هي نفس الشيء ، أعطاها الله للأنسان حتى يوصله الى هدف معَّـين ؟
حرفية الكتاب وروحيته !
أولا ، أبدأ بالتذكير بملفات سابقة بهذا الخصوص يمكن الرجوع اليها والأستفادة منها.
ثانيا ، أدعو قرّائي الكرام والسائلين الأكرم أن يطالعوا بأنفسهم الكتاب المقدس وتلك أحسن وسيلة لتغذية إيماننا وإيجاد الجواب لكل أسئلتنا.
ثالثا ، أقول للعزيزة ريتا ، أسألكِ : هل أنتِ تؤمنين بما تعَّلمُه الكنيسة الكاثوليكية، أم تريدين أن تؤمن الكنيسة عامة، كاثوليكية كانت أم غير كاثوليكية، بما تعتقدينه أنتِ بأنه الحق؟. فهل نحن المسيحيين نصغي الى الكنيسة ونسمع تعليمها ونحيا بموجبه أم نحن نُعَّـلِمُ الكنيسة ونريد منها أن تصغيَ إلينا وتوافقَنا الرأيَ والتعليم؟. إنه سؤال خطير وموقفٌ محرجٌ لا مفَّر من أن نطرَحه على أنفسِنا بنزاهةٍ حتى نصمن أننا نحيا في الحق.
إنَّ المسيح كلَّفَ الكنيسة بالتلمذةِ والتعليم. وقول المسيح صريح يفقأ العيون والآذان:” إذهبوا الى العالم أجمع: تلمذوا ، عمذوا، وعَّـلموا “(متى20: 19). وأضاف ” من سمع منكم فقد سمع مني. ومن لم يسمع منكم لم يسمع مني ” (لو10: 16). وقد وعدَ أنه يعصم الكنيسة من الوقوع في الخطأ من الناحية الأيمانية وليس الأفراد. فبطرس بصفته رئيس الكنيسة ، و الأساقفة مع بطرس:” ما يحلونه او يربطونه على الأرض يكون محلولا أو مربوطا في السماء” (متى16: 18-19؛ 18: 18). فالمسيح ينتظرُ منا أن نتعَّلمَ من الكنيسة، لأنها تنطق بآسمه ، لا أن نعَّلمَها.
ما كلمتكم به هو روحٌ وحـياة !
هذا ما قاله يسوع (يو6: 63). وقال مار بولس أنَّ” العهد الجديد هو عهد الروح لا عهد الحرف. لأنَّ الحرفَ يميت، والروح يُحيي “(2كور3: 6). والكتابُ كلام الوحي ، كلام الله. إنما لم يكتب الله هذا الكلام حرفيا على الصحف. ولا أسمعه الأنبياء ونقَّلَه لهم حرفيًا فكتبوه وآستنسخوه. أوحى الله أفكارًا وأوعزَ أعمالا. والكاتب الملهم هو الذي صاغ الوحي في كلام بشري يمكن أن يُعَّبر عن الحقيقة الروحية. فعليه يبقى الحرف من الأنسان. ما هو من الله هو التعليم الذي تحويه هذه الحروف وتشرحه لنا الكنيسة ، الموكلة على ذلك. هذا ما يؤكده مار بطرس ” الروحُ القدس حملَ بعض الناس على أن يتكلموا من قِبَل الله”. ولهذا ليس أيٌ كان مؤَّهلا لفهم معنى الحرف وتفسيره بل الكنيسة تقوم بذلك (2بط1: 20-21). وإذا قالت الكنيسة شيئا ، عجّبَنا أو لمْ يُعجِبْنا ، فهي تحملُ إلينا صوت الله وتفسّرُ مشيئتَه. والكنيسة تهتم بأن تُبَّلِغَنا وحيَ الله لا ظاهر حرف الكتاب. وقد يكون الحرفُ نفسُه أساسًا وطريقا الى المغزى المنشود.
تعليمُ الكنيسة !
وبخصوص فهم الكتاب وتفسيره يقول المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني :” بما أنَّ اللهَ قد تكلمَ في الكتاب المقدس بواسطة البشر وبطريقة البشر، ينبغي لمُفَّسر الكتاب المقدس أن يبحثَ بكل تدقيق عما أرادَ كاتبوا الأسفار أن يقولوه حقيقة ، وما شاءَ الله أن يُعلنه بواسطةِ كلامهم هذا ، حتى يرى جليا ما أراد الله نفسُه إعلانه لنا “( الوحي الألهي رقم 12). إذن هناك حرفٌ بشري ينقلُ كلاما ومشيئة الهية. ليس الحرفُ هو الأهم بل المعنى. وهذا لا يزيلُ الحرفَ. لأنَّ الكنيسة مؤمنة بأنه بهذا الحرف وليس بغيره وصلَ كلام الله إلينا. لذا فهي تُجّل الحرفَ نفسَه إنما دون أن تُعَّليه على المعنى. وتبحثُ عن المعنى دون أن تلغيَ الحرف.
وكلامُ الله نقل الينا بأساليب أدبية ، حرفية ، مختلفة ومتعَّددة. منها القصصي ومنها الرؤوي ومنها الروحي ومنها النبوي ، ومنها الرمزي ومنها التعليمي. ولكاتب كل سفر ميزة خاصة وموهبة مختلفة وبيئة وظروف وثقافة وحضارة أثرت في شخصيتِه وحتى في لغتِه. لذا تقول الكنيسة ” ينبغي لمفسر الكتاب أن يبحث عن المعنى الذي كان كاتبُ السفر المقدس يريدُ أن يُعَّبرَ عنه، والذي عَّبرَ عنه فعلا، في ظروفٍ محدودة، حسبَ أوضاعِ عصره و مستوى ثقافتِه ، مستعينا بأنواع الأساليب الأدبية المستعملة في ذلك الوقت”(المصدر السابق).
فالكنيسة الكاثوليكية تتمسك بنص الكتاب المقدس ولا تقلل من قيمة حرفِه ، انما تبحث لتكتشف الثمر الذي يخفيه في داخله والذي غلَّفه الحرف.
الروايات والرموز !
إنَّ قصة الخلقِ تستند الى خبر أوحاه الله ونقله موسى. لا يحاول النص ان يسرد لنا قصة تأريخية حدثت بتفاصيلها كما دَّونها الكاتب. بل حاول الكاتب حسب مؤهلاتِه أن يبلغ الينا تعليما مفادهُ أنَّ الكون وما فيه من خلائق من ضمنها الأنسان لم توجد من ذاتِها بل لها خالق. والخالقُ لم يخلق كلَّ شيء بكلمة واحدة وفي ذات الحين. بل تمت الأمور على مراحل زمنية متباعدة، ومع تدَّرج من الأبسط والى الأكثر تعقيدا، وقمة التعقيد هو الأنسان. فالأحداث الأولى تعتبر أساسية عليها قامت كنتيجة الأحداث التالية. فالكون مخلوق بدون نظام ولا حياة ، ثم تدخله الحياة وتنفصل العناصر الأربعة لكل حياة لتتفاعل مع بعضها، ثم تعقبها حركة الأجرام الكونية مما يسبب الفصول والأيام والأسابيع والأشهر أى يبدأ الزمن. بعده تظهرالحياة النباتية، ثم من المياه خلائق ذو خلية واحدة ثم الدبيبة ثم الطيور ثم البهائم و الحيوانات وأخيرا الأنسان. ويشدد على شبه الأنسان بالله لأنه روحٌ عاقلة ناطقة وحرة. فالكاتب عبر عن هذه الحقائق بأسلوبه وتعبيره.
فالخلقة ليست رمزا، بل هي حقيقة حدثت ولكن التعبير عنها ليس دوما حقيقة علمية. فمثلا الأيام الستة التي يذكرها الكاتب لا تعني فعلا ستة أيام من 24 ساعة بقدر ما تعني ستة مراحل زمنية تفصل بينها ملايين السنين. لأن نفس الكتاب يقول في مكان آخر: إنَّ يوما واحدا بحساب الله هو الف سنة بحساب الأنسان (2بط3: 8ح مز90: 4). وذكر موسى ستة أيام عمل ويوم سابع للراحة. لم يُعرف هذا حتى ولا في زمن ابراهيم. كتب موسى هكذا ليحمل الشعب على تطبيق نظام الأسبوع من ستة أيام عمل ويوم سابع راحة (خر23: 12).
التطــور !
للتطور مفهومان مختلفان: تطور يحدث داخل الكائن الحي حسب نوعه وطبيعتِه. وتطور يحدث بتغيير كائن الى آخر مختلف وأسمى. التطور الأول طبيعيٌ ولا أحد يستطيع إنكاره. الأنسان يتطور من نطفةٍ الى جنين فطفل فصبي فشاب فكهل فشيخ ، ولكل مرحلة ميزاتها الخاصة. وهذا يتم ذاتيا من الخلية التي إنطلقَ منها. هذا في جسد الأنسان. وفي عقله أيضا تطور، لا في كميته أو عمله بل في نضوجه وتحسين الأستيعاب والتفاعل والعطاء. هذا من طبيعة الأنسان ويتم لكل إنسان وبنفس الطريقة المرحلية مع البقاء في نفس النوعية.
أما التطور الأنتقالي أو التغيير الجذري الى نوعية أفضل فهذا قد يتم في بعض الكائنات و بتدخل الأنسان ، ويبقى لا يتكرر من ذاته ولا يعطي نوعية جديدة مثل نفسه لأن تطوره ليس طبيعيا. الموجود من ذاته كامل ولايحتاج الى التطور. الله وحده كامل. وما صنعه الله لا يقدر أن يتطور ويتغير من ذاته لأن ذلك غير موجود في طبيعة تكوينه. الله وحده قادر إذا شاءَ أن يُطَّورَه الى كائن أسمى ومختلف عن الأول. لأنه يضع فيه عندئذ تلك الطاقة المختلفة. ويكون عندئذ كائنا جديدا مختلفا. كما صنع الله الأنسان من تراب ونفخ فيه الحياة يمكن أن يطور عنصر أو كائنا الى ما تقتضيه مشيئته.
فنظرية التطور الداروينية لا تعترف بها لا الكنيسة ولا العلم الصحيح. وقد نبذها العلماء.
روايات الكتاب وأمثال المسيح !
إن روايات الكتاب المقدس كالخلقة والطوفان وسادوم وعامورة حقائقُ رواها التاريخ القديم وأمسى العلم يوميا أقرب الى الأعتراف بها ، بفحواها لا بحرفها. ليست روايتها تاريخا مثل تحقيق صحفي. بل هي معاينة واقع حصل ويقرأه الكاتب الملهم بشكل ديني مختلف عن غيره ويقدمه لنا بثوب قصة للتشويق والتعليم. ليست التفاصيل همُّه كالمؤَّرخ ، بقدر ما يهتم بالدرس الذي يتركه لنا من خلال ذلك التعبير الذي إختاره حسب ثقافته وطاقته. ولكن في الكتاب ايضا أسفار أو فصول تقدم تعليمها على شكل مثل. سفر الأمثال مثلا تعليم باسلوب حكمي. سفر يونان مثال تعليمي باسلوبٍ قصصي.
أما أمثال يسوع فلا مقارنة بينها وبين الروايات المذكورة. فالكاتب يعلن صراحة أن يسوع إستعمل اسلوب الأمثال المختلقة لأيصال تعليم معَّين. أي يقول بأنَّ الحدث لم يقع. هو إطار مصنوع فقط لآحتواء التعليم. بينما مثال يونان يختلف لأنه لم تختلق القصة. شخص يونان ونينوى أمور تاريخية. لكن يونان لم ير بعمره نينوى. عرفها من غزوات الآثوريين على مملكة اسرائيل. ونينوى وملوكها موجودون ولكن لم يسجل تاريخ نينوى ولا سطرا واحد مما روته قصة يونان وتوبة أهل نينوى. فيه درس إيماني مقدم بثوب قصصي.
هـدف الكتاب إيصال الوحي !
الكتاب ينقلُ ما سجلَّه الكاتب الملهم. وهذا يكتبُ ما أوحاه اليه الله بشكل أو بآخر. ليس المهم ان ينقل الوحي برواية او مثل. هذه الميزات تخص الكاتب. أما المهم من الوحي فهوالهدف. والهدف هو : إنَّ الله يكشفُ للأنسان ، مرحلة فمرحلة ، ذاتَه أي من هو وكيف هو، ومشيئته أي ماذا يريد من الأنسان وله. الله خلق الأنسان للسعادة. غشَّه ابليس وأغواه فأسقطه في خطيئة عدم إعتبار سيادة الله ومحبته ونعمتَه ومحاولة منافسة الله والعيش من دون علاقةٍ به. سبَّبَ هذا خسارة الأنسان صداقة الله ونعمة الألفة معه. وصار عبدا لشهواته. فطغت المادة عليه وغشي الجهل على فكره ففقد الحقيقة أو تشوهت وكادَ مع مرور الزمن أن ينسى الله. فعاد الله ليكشف ذاته والحقيقة للأنسان ليعيده الى كرامته والسعادة التي جبله من أجلها. بهذا الهدف أوحى الله الى بعض الناس أن يقرأوا التاريخ بشكل مختلف ويُعاينوا الآثار بطريقة متمَّيزة ليجدوا فيها إصبع الخالق فيستنتجوا الدرس ويقدموه بالشكل الذي يتماشى وشخصية الكاتب وموهبته الأدبية.