أهلا وسهلا بالأخ ريبوار ايليا داود
كتب الأخ ريبوار يقول بأنَّ الأديان جاءت لآصلاح أحوال البشر. ولم تعدهم بالثواب إلا على أساس ما يقومون به على الأرض. ولذا رأى أنه ليس منطقيا أن نتساءَل : ماذا بعد الحياة؟ وقال:” هذا سؤال خاطيء. لسنا نحن من يجيبُ على هذا السؤال، لأننا لسنا نحن من يقرر كيف ستكون. نحن نتحدث عن الحياة على الأرض لأنَّ هذه نقررها نحن”. فسأل :
# إذن منطقيا تعتني الأديان بالحياة على الأرض وليس بالحياة بعد الموت ؟.
أتيتُ لتكون لهم الحياة !
ما هي الحياة؟. هل هي المدة الزمنية التي نعيش فيها على الأرض؟. هل هي الطعام و اللباس والسكن؟. يقول الكتاب :” إنها نور الناس”(يو1: 4)، أفضل من الطعام واللباس وكل شيء. إنها تبدأ في الزمن ثم تتخَّلصُ من الحواس المادية الزمنية لتستمر بشكل روحي خارج الزمن الى اللانهاية، للأبد. وهذه الحياة الأبدية يقول يسوع أنها ” هي أن يعرف الناس الله، أنه هو وحده حق، وأنه هو أرسل يسوع “(يو17: 3). وصرَّحَ يسوع أنه جاء ليُعطينا تلك أفضل الحياة (يو10:10). لذا قال الوحي :” إنَّ الله منحنا الحياة الأبدية وهي إبنه. فمن كان له الأبنُ كانت له الحياة “(1يو 5: 11-12). فالأبن ” هو الحياة لكل موجود” (يو1: 4). وهذا الأبن نقتنيه إذا آمنا به. ولأجل الأيمان به شهد لنا الأنجيل على بعض أقوال يسوع وأعماله (يو20: 31).
الدين أو الديانة !
تُعَّرفُ قواميس اللغة كلمة ” الدِين ” وجمعها ” أديان ” بما يلي: الجزاءُ والمكافأة، القضاء، المُلكُ والسُلطان والحُكمُ، التدبير ، الحساب. أما ” الديانة” فتُحددها بـ” اسمُ لجميع ما يُتعَّبَدُ به الله”؛ وأيضا بـ “الملة والمذهب “. أما اللغات الغربية فتُعَّرفُ كلمة Religio اللاتينية بـ” مجموعة إعتقادات وممارسات موضوعُها علاقة الأنسان مع الأُلوهة او المُقدَّس. والكنيسة تعَّرفُ الدين بأنه إكتشافُ للحقيقة وآعتراف بالله الواحد الخالق والرب والمخلص والمحب والرحيم، أى ” معرفة الله ومحبته وعبادته” كخالق وراعٍ ودَيَّان. والدين ينبذ ما يخالف ذلك ويقتضي الثقة بهذا الله والألتزام بكلامه. ولا يجوز لا الأكراه على دين معَّين ولا التصَّدي له ومنعه بعنف لأن الأنسان حُرٌّ ان يتبع قناعاته الخاصة. ويقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية أنَّ ” كلَّ مُؤَّسَسةٍ تستوحي، وإن ضمنيًا، مفهومًا للأنسان ومصيره، تستمدُ منه مسندًا لحُكمها، وتراتيبيةً لِقِيَمِها، وخُطـَّة ًلسيرها. معظمُ المجتمعات تُسند مؤسساتِها إلى نوع من تفَّوقِ الأنسان على الأشياء. ولكن الديانة الموحَى بها إلـهيًا إعترفت وحدَها بوضوح بأنَّ اللهَ، الخالق والفادي، هو مصدرُ الأنسان ومآلهِ. والكنيسة تدعو السلطات السياسية الى إسنادِ أحكامها وقراراتِها الى وحي الحقيقة هذا عن الله وعن الأنسان” (الرقم 2244).
جعلتك نورا لهداية الأمم ! اش42: 6
قال الأخ السائل بأنَّ الدين جاءَ لإصلاح أحوال البشر. والأصلاح يعني تغييرًا في السلوك. وبعض المصلحين ألزموا الناس قسرا بما دعوا إليه. وهذا يخالفُ معنى الدين ومبدأَه و مغزاهُ. حتى المسيح دعا الى التغيير، ولكن دون فرض أو إكراه. بل دعا أتباعه، كما سبق وأوحى إلى إشعيا أن يُفصحَ عن جوهر الدين بأنه نورٌ للآخر، وسمَّاهم أيضا نورًا :” أنتم نور العالم “(متى 5: 14). أى الدين يصبو إلى إبلاغ الحقيقة وإشعاعها من خلال سلوك المُتدَّينين وليس من خلال دستور يُفرَضُ بالقوة. ولهذا أضافَ يسوع على كون المؤمن نورًا بأنه شاهدٌ على كلام الله وأعماله (أع1: 8)، ليكون بذلك نموذجًا يُقتدى به. فالدينُ الحقيقي يُصلحُ لا بالعنف بل بالتغلغل الفكري والروحي الى حياة الآخرين وتغييرها كالخميرة في العجين. والنور والملحُ (متى5: 13) والخميرة (1كور5: 8؛ غل5: 9) هي تعبير عن سلوك الأنسان المؤمن بالله والمتدَّين. إنها القيم الأخلاقية التي يجب أن تسود أو تطبع حياة المتدينين.
لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض ! متى6: 19
يقودنا هذا الكلام الى إعادة قراءة السؤال المطروح بتمَّعن. فهو قال:” إنه من المنطقي أن تعتني الأديان بالحياة الأرضية وليس بالحياة بعد الموت “. لقد أضاف يسوع الى قوله :” بل إكنزوا لأنفسكم كنوزًا في السماء ..”(متى 6: 20). إذا فسَّرنا عبارة السائل بأن الدين يهتم بأن يقود حياة الأنسان على الأرض ويُرشدُ الناس الى سبيل الحق، فلا خطأ فيها. ولكن إنْ فسَّرناها بأنَّه لا يهتم بشأن الحياة بعد الموت عندئذ نتوَّهم ونسهو سهوا كبيرا. لأن توجيه حياة الأنسان الأرضية ليس هدفه سوى تمديد هذه الحياة في الأبدية وضمانها بواسطة السلوك على الأرض ولو أحيانًا على حساب الحياة الأرضية بقبول الموت مثلا من أجل الحق وعدم التخلي عنه حتى لو أُضطر المؤمن الى سفك دمه والتضحية بالحياة الأرضية. فالدين يذكر المؤمن بأنه ليس من العالم بل يحيا في العالم مواطنا للسماء، لأنه ابنُ الله. حياته في الزمن/العالم قصيرة أما بعد الموت فلن تنتهي. وهي أهم. وضمان تلك الحياة أحَّق وأفضل من ضمان راحة الحياة على الأرض.
لقد خلقنا “الله، في المسيح يسوع، للأعمال الصالحة، التي أعَدَّها بسابق إعداده لكي نمارسَها “(أف2: 10)، لأنه” لم يدعُنا الى النجاسة بل الى القداسة” (1تس4: 7). ولهذا يؤثرُ المتدين حتى” أن يهجر هذا الجسد ليُقيم في جوار الرب”(2كور5: 8). فآهتمام الدين ليس إذن بحياة الأرض لذاتها، بل بضمان الحياة السعيدة بعد الموت مهما كلَّفَ الأمر. وهو يُرشد الحياة الأرضية الى السبل التي تقود بعد الموت الى الحياة للأبد. هذا ما علَّمَه الدين المسيحي : ” أقول لكم لا يهمكم للعيش ما تأكلون، ولا للجسد ما تلبسون. الحياة أثمن من الطعام والجسد من اللباس..هذا كله يطلبه الوثنيون. أما أنتم فآطلبوا الملكوت وبِرَّه ..”(متى6: 25-34). و أضاف :” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس. بل خافوا الذي يقدر أن يُهلكَ النفس والجسد معا في جهَّنم “(متى10: 28).
ماذا بعد الحياة ؟
إعتبر السائل الكريم هذا السؤال خاطئًا. وقد برر قوله بأننا ” لسنا نحن من يقرر كيف ستكون”. بل أقول بأنَّ الأنسان هو من يُقرر مصيره الأبدي. يقرره بسلوك حياته. أ لم يقل المسيح :” سوف يأتي ابنُ الأنسان.. فيجازي يومئذٍ كلَّ آمرىءٍ على قدر أعماله “(متى16: 27). والأعمال يقوم بها المؤمن على الأرض وهي طريقة حياته. و فسَّر مار بولس هذا الكلام : ” لا بُدَّ لنا جميعا أن نمثُلَ لدى محكمةِ المسيح لينالَ كلُ واحدٍ جزاءَ ما قدَّمتْ يده، وهو في الجسد، أ خيرًا كان أم شَّرًا”(2كور5: 10). أكد سفر الرؤيا على أنَّ كلَّ واحدٍ تتبعه أعماله (رؤ14: 13؛ 20: 12-13). فالحياة على الأرض ليست سوى سباق مع الحق و جهاد ضد الشر لنيل إكليل المجد الذي هَّيأه الله لمن أرضوه (1كور9: 25-27؛ 2طيم 4: 7-8). فمن عاش مثل الله في الحق والحب والخدمةِ والغفران والبذل، وهو على الأرض، سيضمن مجد الله أبيه وإرثَ خيراته الأبدية (رم8: 17). ومن لم يعرف الله أو أنكره قدام الناس على الأرض فسينكره المسيح ايضا أمام ملائكة الله (لو 12: 9) ، قائلا لهم :” أُبعدوا عني ..لم أعرفكم قط ” (متى7: 23). ومثالُ الغني الغبي العائش لخيرات الدنيا وشهوات الجسد والفاقد الأحساس بالفقراء والمتألمين خير مثال على انه هو قرر مصيره السيّيء المؤلم إذ لم يمارس المحبة والرحمة، وأمامه الفرصة كلَّ يوم لممارستها؛ بينما لعازر الفقير و المريض لا تشكى ولا تذمر لحاله ولا حتى دان الغني على سوء تصرفه وعدم إغاثته وهو مطروح عند بابه، وحياته مأساة. كان الجواب للغني بعد الموت : ” تذكر أنك نلتَ خيراتِك في حياتِك و لعازر بلاياه. أما اليوم فقد نال هو العزاءَ وأنتَ نلتَ العذاب “(لو16: 25). كذلك مثال العذارى العشر، خمس منهن نلن الحياة الأبدية وخمس خسرنَها، والسبب التصَّرف الجيد أو السَّييء اليومي في حياتهن على الأرض. تأخرت الجاهلات عن العرس بسبب كسلهن وآنشغالهن بأنفسهن وإهمالهن الله و وصيته في محبته ومحبة الآخرين (متى 25: 1-13).
المجاهدون يأخذون الملكوت عنـوة ً ! متى 11: 12
فحياة الأرض إذن هي المختبر والقياس الذي على ضوئه يتقَّررُ مصير الأنسان الأبدي. نحن نختار أفعالنا ونقرر أعمالنا ونثَّبتُ رغبتنا بل مشيئتنا ، وعلى ضوء ذلك يقبلنا الله أو يرفُضنا. لأن هابيل قرَّب أفضل الذبائح لله رضيَ عنه الله وآنتقم له من قاتله، أخيه قايين الذي رفض اللهُ قربانه من الثمار الخائسة. ولما رفض نصيحة الله له بعدم قتل أخيه أخبره الله بأنَّ الأرض تلعنه وتطالب بدم هابيل فآنهزم قايين تائها على وجهه مرفوضًا من حياة الأبد مع الله. ليس الله من قرر فأمر قايين ليقتل، بل قايين نفَّذَ شهوته في الدم رغم تحذير الله له. وبذلك قرر أنه لا يريدُ الله بل يفضلُ عليه شهوته الغريزية فخسر بذلك نعيم الحياة قربَ الله. ليس الله من عاقبه بل رفضته الحياة لأنه لم يحترمها. أما الله فرغمًا عن ذلك ترحَّم عليه وأمهله فرصة جديدة للتوبة، وهددَ كلَّ من يقتل قايين ويحرمه تلك فرصة الحياة، فقال :” كلُ من قتل قايين فسبعةُ أضعافٍ يُنتقمُ منه “(تك4: 15).
إذن تعتني الأديانُ بالحياة الأرضية وتنهيها عن التعلق بخيرات الأرض أو سكانها وتوجهها بالمقابل الى الأهتمام والأستعداد لكسب الحياة بعد الموت للأبد، وذلك بآستعمال خيرات الأرض وآستغلال زمن الحياة نفسه للإغتناء من نعمة الله. فالأعتناء ليس قائما لذاته بل وجود الأعتناء ومبرره هو الحياة بعد الموت. إذن لا يمكن حصر الدين فقط بشؤون الحياة الأرضية، إذ لا يمكن عزله عن هدفه. وكذلك الأنسان هو من يقرر مصيره الأبدي وليس الله. الله يريد الحياة الأبدية مجيدة وسعيدة لكل الناس. ولكن لا ينالها كلهم. ينالها من يشتهيها ويحيا ويجاهد لأجلها، ويُحرَم منها من يفضل حياة شهوانية ولا يُكلِفُ نفسه الأبتعاد من الشر والفساد. هدف الدين وآهتمامه إذن يبقى هو الحياة بعد الموت ، بينما الحياة على الأرض لها كثيرون من يهتمون بها وزائدًا عن اللزوم!.