أهلا وسهلا بالأخ نزار حنا.
لدى مطالعة الأخ نزار للعهد القديم شعرَ وكأنه في عالم غريب بلا روحية وفي إتجاهٍ شبه معاكس لما في العهد الجديد ، الذي يرتاحُ اليه فكريا وروحيا عند مطالعتهِ. فتسـاءَلَ عن ما هي علاقتنا به ، ثم سألني: ” لماذا نؤمنُ نحن المسيحيين بأنَّ العهدَ القديم هو جزءٌ من كتابنا المقدس”؟.
العـهــــد !
لأنه فعلا لا يشكلُ العهدان ” القديم والجديد ” سوى كتابٍ واحد ، محوَرُهُ ” العهدُ ” بين الله و الإنسان قديما وجديدا. عهدٌ واحدٌ يكتملُ على مراحل. لمَّا خلقَ اللهُ الإنسان وتمَّردَ هذا على الله ” وعـدَ ” اللهُ ، فـعهدَ على نفسِه أن يُنقذ الإنسان من الورطة التي سقط فيها ويُعيده الى كرامتِه و مجده الأول. بدأ اللهُ ينَّفذ خطتَه لإنقاذ الإنسان بتكوين شعبٍ يعرفه ويسمع كلامه من خلاله يظهر الفادي . فأختار ابراهيمَ المؤمن حجرَ أساس لهذه مسيرة تحقيق الوعد. و برمَ معه ” عهـدًا “: ” أنا اللهُ القدير !. أُسلُكْ أمامي وكن كاملا ، فأجعلُ عهدي بيني وبينكَ ، وأكَّثرُ نسلكَ جدًا” (تك17: 1-2). و أعطاهُ علامة ، في الجسد ، فلا ينسى العهدَ بل يمتثلَ له هو ونسله ، وهي أن يختتن هو ونسله (تك17: 10-11). إقتصر العهد على الأيمان بالله وأتباعه تذكره به إشارة حسّية.
وجدد الله العهدَ بعد 430 سنة على يد موسى وأعطاه الشريعةَ دستورا يقودُ حياةَ الشعبِ. و تلك الشريعة هي الوصايا العشر (خر20: 1-17) ، بالإضافة الى طقوس العبادة من تقديس الله والاعتذار منه عن الخطايا التي يرتكبها الشعب. وكتبَ موسى كلَّ كلام الرب بخصوص العهد ، ثم : ” أخذ كتابَ العهد وتلاه على مسامع الشعب ، فقالوا : كلُ ما تكلَّمَ الربُ به نعملُه ونأتمرُ به. فأخذ موسى الدمَ ( دم الذبيحة المقربة لله بهذه المناسبة) ورَّشهُ على الشعب وقال : هذا هو دمُ العهد الذي عاهدكم الربُ به على جميع هذه الأقوال ” (خر24: 3-8).
لكن الشعب لم يبقَ دوما أمينا لوعده. بل خان في الأخير عهدَه مع الله وتبعَ أهواءَه وأفكارَه. وقد سأم الله هذا الموقف منذ زمن إرميا وأعلن أنه سيُجَّددُ ” العهدَ ” ، فكتبَ أرميا :” ها إنها أيامٌ تأتي أقطعُ فيها لبني اسرائيلَ “عهدًا جديدًا . لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم…لأنهم لم يثبتوا على عهدي ، فأهملتهم..”(عب8: 8-9). ولمَّـا ظهر المخلصُ الموعود ، الآله المتأنس في شخص يسوع المسيح ، عقـدَ هذه المرة عهدًا أبـديا بدم جسده ، لا بدم الحيوانات ، حتى قال عندما أسس سر القربان :” هذه الكأس هي العهدُ بدمي الذي يُراقُ من أجلكم ” (لو 22: 20). ويُوَّضح مار بولس النص قائلاً :” هذه الكأس هي العهـدُ الجديدُ بدمي ..”(1كور11: 25).
وبنودُ العهد الجديد هي روحية وتُختصر بـ ” الحق والمحبة “. لقد جاءَ المسيح ليشهدَ للحق (يو18: 37)ويُعلمَّ الناس كيف يثبتون عليه ولو بشهادة الدم :” قدسهم يا رب في الحق ” (يو17:17)، و” الروح القدس يُرشدكم الى الحَّق كله ” (يو16: 13). ولم يُعطِ شريعةً جديدة غير المحبة التي بها ” يرتبط كلامُ الشريعةِ كلها و الأنبياء ” (متى22: 40)، : ” وصيتي لكم أن يحبَ بعضكم بعضا ، كما أحببتكم .. أثبتوا في محَّبتي” (يو15: 9-12). فالعهد الجديد بالمسيح رفع الإنسان الى مستواه الروحي الأصلي “صورة الله ” ،التي سقط منها الى صورةِ الترابي ، وأستعاد ” فلبس صورة السماوي” (1 كور15: 46-49). فكتبَ الله شريعته لا في آذان الناس بل في” ضمائرهم وقلوبهم ” (عب8: 10). فهذا هو العهد الجديد بالمسيح جاعلا العهدَ السابق بإبراهيم ثم بموسى ” قديمًا “(عب 8: 13).
تأريخ الخلاص إذن واحدٌ تحَّـققَ على مراحل مترابطة ومتكاملة. دَّونَ العهدُ القديم كل ما حدثَ قبل مجيءِ المخلص ويتعَّلقُ به ، من نبوءاتٍ وتعاليم. لقد ألهمَ الله أناسا أن يكتبوا ما حدثَ وأوحى إليهم أن يحرروا ما يريدُه وكيفَ يجبُ على الإنسان أن يسلكَ. فالكتابُ كله “واحدٌ من وحي الله ” (2طيم3: 16) ، يخص فادي البشرية ، قبل تجّسدِه وبعدَ تجسّده. ولهذا صرَّح يسوع بأنه لمْ يأت ” ليُـبَّطل الشريعة والأنبياء ، بل ليكمل “(متى5: 17).
حِسُّنا الروحي يرفضُ بعضَ ما جاء في القديم !
أما ما ذُكرَ في العهدِ القديم من مآسٍ أخلاقية : من قتل و زنى وكفر ونهب وسلب وتدمير .. ومواقف متناقضة فليس ذلك ليفتخرَ به ويُقَّدمَه نموذجا يُقتدى به. بل ليَدُّلنا على مأساةِ وخطورةِ سقوط الإنسان ، الى أى عمق أنزلق ، بحيث لم يستطع أن يرتفعَ عن سقطتِه ويرجع الى الأخلاقِ الصحيحة المثالية رغم كلِّ ما عملَه الله له. وإذ كان اللهُ يعلمُ ذلك من قبل أن يسقط الإنسان وعدَه بأن يتجَّسدَ هو منه فينتشله من وهدتِه ويُعيده الى مستوى الروح. وهذا هو ما تم في المسيح بالعهد الجديد بدمه. ولهذا يرتبط العهدان ، الجزءان من الكتاب ، بدون إمكانية التفريق بينهما. إذا لم نقرأ ونفهم العهد القديم لن نُدرك عمق العهد الجديد. وإذا اكتفينا بالعهد الجديد فينقصنا أساسُ بناء إيماننا إذ يقومُ عليه.
فهذا الأنس الساقط ، المريض ، جاءَ المسيح يُعالجه ويداويه. فأكل مع الخطأة والعشارين رغم انتقاد الرؤساءِ له ، وقال :” ليس الأصحاءُ بمحتاجين الى طبيب بل المرضى..وما جئتُ لأدعوَ الأبرار بل الخاطئين (متى9: 12-13). وسَّمى أناس زمانِه بـ ” الجيل الفاسق الخاطئ ” (مر8: 38). ومع ذلك ” بلغَ الله من حبه للعالم أنه جادَ بابنه الواحد لكي لا يهلك من يؤمن به ، بل ينالُ الحياة الأبدية “(يو3: 17). كما دعا بولس أهل فيلبي :” لتكونوا .. بلا عيب في جيل ضال فاسد تُضيئون فيه ضياءَ النيراتِ في الكون “(في2: 15).
هذا هو الإنسان ، ومن أجل هذا الإنسان الخاطئ تجسد الله ومات على الصليب ليفهم البشر عظمة محبته ورحمته. جاءَ ليُغَّير هذا الإنسان الأرضي. والوحي الكتابي يشهدُ لهذا الواقع الإنساني والآلهي معا.