أخواتي وإخوتي ، أصدقائي الأَعّزاء.
من عزلتي، بسبب العمر، أكتُبُ لأّعّزائي المعزولين مثلي عن ذويهم وجيرانِهم بسبب ظروف الوباء اللعين المؤلم. قال المثل :” عِيشْ وشُوفْ “!. عِشْنا وشفنا. منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن لم يحدُث ما نعاينُه اليوم ونعاني من طُغيانِه ، ” العُزلة القاتلة ” للناس، بالشكل الذي نمارسُه اليوم، لكسرِ شوكةِ الوباء. و لم نقرأ في كُتبِ التأريخ أنّ المسيحيين إحتفلوا بعيد القيامة في بيوتِهم، ولو سنةً واحدة من ألفي سنة. حتى عند الإضطهاد كانوا يلتمون على بعضهم، في بيتٍ ، في كهفٍ ، ويشتركون في ذبيحة موت وقيامة المسيح ويتناولون من وليمة الرب مُعترفين أنَّ الرَّبَ يسوع الذي نعم، عُذِّب صُلِب فمات وقُبر، لكنَّه قام في المجد ونشر فرح الخلاص في الكون. َلم يَخَفِ الناسُ من الموت. حتى اليوم لا يخافون منه بقدر ما يتجَّنبون ألا تؤولَ اللمَّةُ للصلاةِ فرصةً لآنتشار الوباء وحصد المزيد من النفوس.
لا أتصَّورُ موقفًا وحالةً أسوأ من وضعنا إلا حالة الرسل المُرعوبين بسبب وباء الكُره والعنف الذي أدَّى إلى عزل المسيح عن تلاميذه وعزلهم هم عن أقربائهم، فآنتهى يسوع على الصليب وأنتهوا هم في شبه سجون في أماكن إقامةٍ خفية خوفًا من ألا يَطالَهُم القـتـلُ في أيَّةِ لحظة (يو20: 19).
مَرَضُ حَسَدِ القادةِ وطغيانُهم وتنافسُهم على الجاهِ والسلطة، ومرضُ طمع غيرهم بالمال والثروة خلق الرُعبَ بين الناس وفرَّقَ بين الأحّباء. لكن تلك العُزلة لم تكن النهاية. لم تكن هي الهدف. بل كانت غربلةً في الفكر(لو22: 31) وخَضَّةً في و الروح. أرادها الشيطان تدميرًا، إِلّا إنَّ الله حوَّلَها نصرًا وتطهيرًا. فصارتْ بركةً وآنتهت بتمجيد الرب يسوع وبعودة الحياة الى التلاميذ بآمالٍ أفضل وأمجدَ. الحَّقُ آنتصر. الحياة غلبت الموت. عاد الراعي وآجتمع مع رعِّيتِه. و رعِيَّتُه إنتعشتْ. و رفع التلاميذُ رأسهم دون خوفٍ ولا خجل. أصبحوا الآن يفتخرون بمعلمهم و رَبِّهم ، يُعلنون” ونحنُ بأجمعِنا شهودٌ على ذلك ” (أع2: 32). لقد حدثَ تغييرٌ!. وتغييرٌ نحو الأفضل.
فالمسيحُ يسوع أثبتَ أنَّه الله. ولا قوَّة تقفُ في وجهه. والتلاميذ أثبتوا أنَّهم شهود الحقيقة، ولا قوَّة في العالم تقدر أن تمنعهم عن الشهادة لله (أع 4: 18-20). إنَّ مِحنةَ عزلِهم غيَّرتهم وقلَّبت ضعفهم الى قوة (متى26: 56، 69-75). ولا شيءَ ” لا شدَّةٌ ولا ضيق و..” يفصِلهم عن محبة المسيح، أوعن” محَّبة الله لنا في رَبِّنا يسوع المسيح” (رم8: 35-39). لقد تحَّول عزلُهم الى إختلاءٍ، وإعادة النظر في مجرى حياتِهم بإجراء غربلةٍ في المفاهيم وآلأُمنيات والصمود في الأمانة ليسوع. بالقيامةِ عرفوا الله حَّقًا كما عرفهم هو (1كور13: 12). لقد إختبروا هشاشةَ قواهم الأنسانية وغباوة تفكيرهم، وعاينوا قدرة الله ومجدَه.
هكذا عزلتُنا اليوم يريدُها ابليسُ تمزيقًا وإبادةً للأيمان بالمسيح وللوحدة الأنسانية. لكن المسيح لن يسمح بذلك. أُنظروا : كلُّ فِئةٍ مؤمنة عَبَّرت ، بطريقتها الخاصة، عن إيمانها وتعَّلقِها بالله وحُّبها ليسوع. منهم بالترتيل لقطع الدابر على اليأس. و منهم بالتطوع لخدمة المرضى. ومنهم بالتسَّوق للشيوخ والممنوعين عن التجَّول. ومنهم بالصلاة المشتركة حتى عن البعد بـالتواجد على موقعِ المراسيم. وحتى الأطفال الصغار شغلوا وقتهم برسم الصلبان والكنائس والرموز الدينية. وزيَّنوا بها جدران الكنائس والمعابد. إنَّها نهضةٌ إيمانية تُغَّذيها العزلةُ والحجرُ الصِّحي.
ظهور الوباء أفزع الناس وكادوا ييأسون من الحياة. لكن الروح أيقظهم أنَّ الحياة مُلكُ الله ومِنحةٌ للأنسان لا أحد غيرالله يتحَّكم فيها إلا إذا سلمَّ البعضُ قيادة حياتِهِ إلى عدو الله. أمَّا ذاك فسيندمُ مثل يهوذا، ولكن لاتَ ساعةَ مندم.
وعندما أُقْـفِـلتْ أبوابُ الكنائس تحوَّلت البيوتُ، كلُّ واحد منها الى كنيسة. وتحَّولً كلُّ مؤمن الى رسول. فتضافرت الجهود وآستغلوا التقنية الجديدة، المستعملة لطمس الحقيقة والدعاية للشر، حوَّلوها آلةً للعبادة والصلاة والتثقيف في البيوت. تواجدَ المسيحُ في البيوت كما في الكنائس. الله الذي كان غائبا عن بيوتٍ كثيرة عادَ يَسكُنُ في قلوب المؤمنين ويُغَّردُ على السنتهم ليُعلن الحق : المسيح وحدَه مُخَّلِصُ العالم. إِضطهدَ اليهودُ المسيحَ ثم الرسل. ثم زرعوا الكره ضدَّ المسيحيين . ثم حاربوهم بقساوة و وحشية. لم يُثْنِهم شيءٌ عن الأيمان. بل أصبحت دماؤُهم بذارًا للأيمان. فاليوم أيضًا لا ” الكورونا ” ولا السارس ولا غيرُها من الأوبئة و الفايروسات يُزعزعُ إيمان مُحَّبي المسيح. بل يدفعهم الى التجَّدد بروح الله.
هذه هي ثمارُ عزلة المسيح وثمارُ قيامته وآنفصاله عن الرسل نهائيًا إذ جعلهم ، بقوة الروح القدس ، كلَّ واحدٍ منهم مسيحًا آخر. الوباءُ سينتهي مثل غيره من الأوبئة. ورُعبُ الوباء وموتُ البعضِ هو أمرٌ طبيعي وفِداءٌ لغيره لكي لا ينخدعوا بوعود العقل والجاه والمال والسلطة. يُذَّكرُ الوباءُ بأنَّ الحياةَ الزمنية هي عبورٌ فقط، أمَّا البقاء فلله الأبدي. ويُذَّكرهم بالمزمور:” لا تتكلوا لا على السلطان ولا على الأنسان. لاَّنه لا خلاصَ بيده “(مز145: 3). أمَّا الله فهو ربُّ الحياة و “على كلِّ شيءٍ قدير” (لو18 : 27). الخلاصُ بيد الله وحده. ويريدُ أن ينتبه المؤمنون إلى ذلك. فآسهروا يا مؤمنين وصَلُّوا.
ليس ثابِتًا كم تدومُ معركة كورونا. إنما الثابت والمضمون هو أن الأيمان والعلاج المنطقي للوباء هو الذي يكسرُ شوكته لأنَّه شرٌّ وموت، أما الله فهو خيرٌ وحياة. سيتوَّقف الداءُ عاجلاً أم آجلا. فالعبرة ليست في مدة مفعوليتِه وقوَّتها أو حتى عدد ضحاياه. بل في الأيمان بحضور الله مع الأنسان والأتكال عليه والتقَّيُدِ بحكمته ” الوقايةُ خيرٌ من العلاج “. وأهَّمُ الوقايات هو من الخطيئة. إذن لنستغِّلَ عزلتنا هذه للسمو في قداسةِ الله، وللتثقيف الذاتي دينيا وعلميا وأخلاقيا وعمليًا. لِـنَـتسامَ في تقوية علاقتنا بالخالق ولنُدرَّبْ أطفالنا على محبة المسيح والتعَّلقِ به. لنجعل من حياتنا شهادةً ناطقة عن المسيح. العبرةُ في أن لا نستمِرّ في عزلتنا لا عن الله ولا عن بعضنا. وأنَّ وحدتنا بالروح أقوى من وحدة القرابة الدموية أو العِرْقية أو النفعية أو المكانية. لأن الأتحادَ الروحي هو عن طريق الله الذي هو روح، وهو دائمٌ وأمين. وكل إتحاد آخر زمني أو مادي نهايته الزوال. بالروح قام المسيح، و بالروح نُـؤَّبـدُ نحن المؤمنين. أمَّا سلوكُ سبيل الجسد والزمن فهو” تمَرُّدٌ على الله و نزوعٌ الى الموت” (رم8: 6-7).
في بيوتنا نصَّلي من أجل بعضنا. من أجل شفاء المصابين بالوباء. من أجل كلِّ الخَّيرين الذين يخدمون المُعوَزين ليحميهم الله ويجازيهم بالنعمة والعافية. نصَّلي من أجل القادة، مدنيين كانوا أو دينيين، ليُنَّورَهم الله فيتّخذوا التدابير الملائمة و القرارات الصائبة ويتعاونوا للتغَّلب على الوباء الغادر. مهما آتسَّع العالم ومهما آختلفت الشعوب وتباعدت أو تعدَّدت الثقافات والديانات، إلا إنها تبقى عائلةَ الله الواحدة. لا يرضى الله بهلاك أبنائها بل يريد أن يتوبوا من شَّرهم ويخلصوا جميعُهم. وإن كان قد سمح بظهور تجربةِ الوباء، إِلا إنَّه ” صادقٌ ولا يُكَّلفُكم من التجارب غيرَ ما في وِسعكم. بل يؤتيكم مع التجربة وسيلة النجاةِ منها بالصبرِ عليها ” (1كور10: 13).
بهذه المشاعر والأُخُـوَّةِ في المسيح أُبارك لكم قيامة رَبِّنا يسوع المسيح. المسيح قام. حَقًّا قام. قيامة الربِ عليكم. ومعه نقومُ كلُّنا لحياةٍ جديدة. نتغَّير ونتّجدد بروح الله نازعين عنّا روح العالم. نُعَّيدُ ” لا بخميرةِ الخُبثِ والفساد بل بفطيرالصِدْقِ و الحَّق ” (1كور5: 8). وأشكر أيضًا كلَّ الذين عَيَّدوني بهذه المناسبة متمنِّيًا لهم كلَّ بركةٍ ونعمة في الخير والعافيةِ والهناء، لاسيما حماية الرب لهم ولذويهم من وباء الـ ” كورونا “، والشفاء لكل مصابٍ ، ومجازاة الرب لكل من يخدمُ ” بآسم تلميذٍ للرب ” (متى10: 42).