الأحد الأول للقيامة : عيد القيامة المجيدة

عــيد القيامـة المجــيد

تتلى علينا اليوم القراءات : اش60: 1-7          ؛  1صم 2: 1-10 رم5: 20 – 6: 14   ؛   يو20: 1-18

القـراءة : اشعيا 60 : 1 – 7 :– بينما يُخَّيمُ الضِلالُ في العالم أَشرقَ نورُ الحَّق على يد يسوع المسيح بقيامته. إنَّه نورُ الخلاص وضمانُ الخلاص ومدعاةٌ للفرح والبهجةِ والهناء.

القـراءة البديلة : 1 صموئيل 2 : 1 – 10 :–  تُنشِدُ حِنَّةُ أمُّ صموئيل لله تسبيحَها و حمدَها ، وتُخبرُ بنصر الله القادم على العالم بالمسيح الملك الفادي.

الرسالة : رومية 5 : 20 – 6 : 14 :–  تكاثرُ الخطيئة سَبَّبَ تفاضُلَ النعمة. ولكن لا مُبَّررَ للخطأ، لأننا قد مُتنا عنهُ مع المسيح في عمادِنا ولا يليقُ بنا أن نعودَ إليه.

الأنجيل : يوحنا 20 : 1 – 18 :– يسوعُ قام. إختفى الجسدُ. أمَّا الأَكفانُ فموجودةٌ و مطوية. خافت مريم وآحتارَ الرسلُ. تأكدوا من الخبر. ولمَّا رأوه أمامهم لم يُصَّدقوا عيونَهم !.

الحيرة والحذر !

خبرُ آختفاءِ جسدِ يسوع زادَ في الطينِ بِلَّةً!. لم يكّد الرسلُ ليستفيقوا من صدمةِ الصلب المريع حتى باغَتَتْهم مُصيبَةُ الإختفاء. معَ أنَّ اليهودَ أمروا بحراسةِ القبرلئلا يسرقَ تلاميذُه جسدَه (متى27: 62-65). مُصيبةٌ جديدة. لقد خسروا يسوع حتى جسَدَه!. والآن ترى هل جاء، بعدَ المعَّلمِ، دورُ تصفية التلاميذ؟. سيُتَّهمون بلا شك بالسرقة (متى28: 13)، وبالتالي يحكمون عليهم أيضًا!. ماذا يُخبيءُ لهم القَدرُ؟. ولكن مهلاً. لمْ ينسوا كلَّ كلام يسوع. يتذكر بطرس أن المعَّلم أوصاهُ بأن  يُثَّبتَ إخوته عند المحنة (لو22: 32). وربما مريم لا تصدُق (لو24: 22). ربما حزنها الشديد أوهمها!. فقَرَّروا أن يتأكدوا أولاً وبحذر من صحةِ الخبر. ويتطوع للمهمة الخطيرة نوعًا ما بطرس ويوحنا. يوحنا يُضرمُه حُبُّه لمُعَّلمِه. يتضافرُ حُبّه مع شوقِه وطراوة جسده فيطيرُ كالنسر، يصلُ القبرَ سريعًا قبل بطرس. أمَّا بطرس فلهُ فوقَ الحمل علاوة!. ربما خار جسدُه تحت ثقل الزمن. ولكن ربما أيضًا أثقلَ ما في ضميرِه من ” علاوةِ خطيئة نُكرانه” حِمْلَ جسدِه الثقيل فتثاقلت خُطواتُه لنتلاتِ ضميره فكادت أنفاسُه تخنُقُه، بسبب ندمِه وتعبِه، فتأخرَ على يوحنا فوصل مكسورَ الخاطر، إنَّما عظيمَ الثقةِ بحُّبِ معَّلمه وسماحِه.

وبينما تتسابقُ الناس كما نعلم وتتزاحم فتتنافسُ في نيل قصب السبق في معرفة خبرٍ مهّم و إعلانه قبل غيرهم، عرفنا يوحنا لم يدخل القبر رغم وصوله وفضولِه، ورغم تخَّلفِ بطرس . لماذا تصرف يوحنا هكذا؟. وهذا السؤال يُثيرُ سؤالاً آخر:” لماذا جاءَ بطرس وقد نكرَه”؟.  قد يتبادر الى الذهن هذا الجواب:” بطرس رافق يسوع، مع يوحنا، حتى دار رئيس الكهنة ، ولم يتخَّلَ عنه إلا عندما واجه خطرالموت المباشر فنكره(يو18: 15-27؛ متى26: 69..).

حتى نعرف الجواب الصح يجب أن نتذَكَّر تأريخ كتابة يوحنا إنجيلَه. كتبه بين سنة95-100 م. وقد عبرت على موت بطرس ثلاثون سنة. وبعد موت بطرس خلفَه في روما القديس لينُوس (67-76م)، ثم أناكليتُس (76-88م)، ثم القديس إكليمنضُس (88-97م)، ثمّ القديس إيفاريتس (97-105م). وقد عايشهم يوحنا وهو الرسولُ الوحيد الباقي قيد الحياة. وقد شهدَ ظهورَ بِدَع ٍ مسيحية منذ ذلك الزمن. وقد قام رسُلٌ كَذّابون ومعَّلمون دَجَّالون (رؤ2: 2و14 -16). منهم من إعترضَ على أوَّليةِ كرسي روما في قيادة الكنيسة وطالبوا أن يكون يوحنا هو الرئيسَ الأعلى للكنيسة، وليس أُسقفُ روما. فأتى جوابُ يوحنا من خلال الأنجيل يُخبرُ بما نظَّمه يسوع نفسُه من أولية كرسي بطرس، تبعًا لأولية مُهِمَّتِه. ولا إعتراضَ لأحدٍ على ذلك. ولا يليقُ برسل المسيح وتلاميذه أن يطلبوا المناصبَ على هواهم. لأنَّ المناصبَ لا تقومُ على جدارةِ الشخص، بل على إختيار الرب للشخص. لأنَّ الرَّبَ يسوع هو يقود دَفَّـةَ كنيستِهِ ويختارُلها من يُناسبُه ويُجلِسُه على كرسي بطرس. ومن يخلف بطرس يقود الأيمان. وحتى نصُّنا (يو21: 15-19)، يصُّبُ في نفس الخانة، ليُثَّبتَ نفسَ الحقيقة. وقد أعلن يسوع تلك الحقيقة وذلك المبدأ ولم يتراجع عنه، بل ثبَّته بعدَ القيامة. وقد أكَّد لوقا أنَّ بطرس يبقى، حتى بعدما نكر، رئيسَ الكنيسة، ويتبعُه من يخلفُه في المنصب. هو يُعلن الحقيقة و يُثَّبتُ الرسلَ الجدد :” لقد دعوتُ لك ألا تفقُدَ إيمانكَ.وانت فمتى عُدتَ، تُبْتَ، ثَّبِتْ إخوتَك” (لو22: 31-32). لهذا نرى دومًا بطرس في الواجهة معلنًا إيمان الرسل، مُتَّخذًا القرارات  الحاسمة (أع1: 15؛ 2: 14: 3: 12؛ 4: 8)، لأنَّ الرَّب إختاره لآعلان الحقيقة” : تعرفون أن اللهَ إختارني من بينكم ليسمع غيرُ اليهودِ من فمي كلامَ البشارةِ ويؤمنوا ” (أع15: 7).

تلَّقيتُ من الرب ما بَلَّغتُه إليكم !  {1كور11: 23)

إحترامًا لهذا التعليم ولأولية بطرس وتأكيدًا لهذه المسؤولية يمتنع يوحنا عن دخول القبرَ أولاً ليدعَ بطرسَ يدخلُ أولاً، ويُعاينُ كلَّ شيء كما هو فيشهدُ بعدَه للعالم عمَّا رأى. ويُرَّكزً يوحنا على أن بطرس لاحظَ ” الأكفان على الأرض”. لقد إنتهى دورُها ولا تنفعُ لشيء. إنها علامة الموت. أما يسوع فهو حَّي. أما منديلُ الرأس فكان” ملفوفًا “، مطويًا بعنايةٍ و قصد، وكأنَّ صاحبَه سيعود ليأخُذَه ويستعملُه من جديد، دالًّا على أنَّ مُهِمَّتَه لم تنتهِ بالموت، بل حاضرٌ بين من يُعاينونه، الذين سيُجَّسدون حضورَه ويُمَّدِدونه. وبطرس هو الذي يُعلن هذا ويشهد به أمام العالم، حتى النهاية على يد خلفائِه.

مجدلية هي التي رأت أولاً القبر الفارغ، وسترى يسوع وجهًا لوجه قبل بطرس وتُكَّلف بأن تخبر بطرس بذلك، (يو20: 16-17)، وهو يُعلنه للعالم. ويوحنا رأى أولاً القبرَ الفارغ و تطلَّع فيه لكنه لم يدخل لأنه ليس المُخَّول للتحقيق والحكم. وحتى بعد موت بطرس. وحتى لا يُعيقَ عملَ بطرس إنتظرَه ليدخلَ الأول. بطرس هو الحكم. ويبقى كذلك حتى بعد موته في شخص خلفائِه أساقفة كرسي روما. أمَّا يوحنا والكنيسة فيرون، لكنهم يُؤمنون بما يُعلنه بطرس :” فرأى وآمن “.

المسيح هو رأس الزاوية !

فإيمان المسيحية بيسوع المسيح، بحياته وأعماله وأقواله وموته وقيامته، يستندُ إلى إعلان بطرس وشهادته، بشخصه وبخلفائه، الى نهاية العالم، وبقية الرسل يُبَّشرون بما أكَّد عليه بطرس. فاليوم كالأمس ليست الصحفُ والإذاعاتُ أو التلفزةُ أو المواقعُ الألكترونية، ولا حتى الحكوماتُ والدساتيرُ المدنية والفلاسفة ليسوا هم المُخَّولين بإعلان الحق والحقيقة. إنَّما الكنيسة هي المخَّولة في شخص رئيسها المنظور والأساقفة المتَّحدين به لأعلان الحقيقة الأيمانية والأخلاقية. وقد إختلفَ الرسلُ فيما بينهم بخصوص الختانة والمعمودية، وبطرس هو الذي فضَّ الخلافَ بإلغاءِ الختانةِ وتثبيتِ المعمودية لوحدِها. ولما تكلَّم بطرس فقرر سمع له جميع الرسل والتلاميذ (أع11: 2-18؛ 15: 12). وكما فعل يسوع مع بطرس و بقية الرسل، ما يزال يدعو” فعلةً لحصادِه “، ويقيمُ رسلاً لكل الأجيال ليتابعوا مثل بطرس ورفاقه رسالة المسيح الخلاصية، فيشُّعوا نور الحق في العالم ويدعوا الناس الى التوبة و السير على خطى يسوع.

ولمَّا تابع ابليس حربه ضد الكنيسة بإفساد التعليم صَدَّهُ يوحنا وذكَّر بتنظيم يسوع وأيدَّ سلطة خلفاء بطرس وخضع لها هو بنفسِه رغم انَّه، في زمانه، كان وحده رسول المسيح مباشرة بلا منازع. وبولس الرسول تلَّقى تعليمه مباشرة من المسيح مع ذلك لم يستنكف أن يعرضَ تعليمه على بطرس ليُثَّبتَه (غل1: 12؛ 2: 2). ولو تصَّرفَ مثلهما كلُّ الأساقفة في القرون التالية لما حصل إنقسامٌ في الكنيسة.

مريم.. لا تُمسكيني!. إذهبي الى الإخوة !

نعود الى المجدلية. تصَّرفت مجدلية بعواطفها ومشاعرها. حُّبُها ليسوع جعلها تُغامرُ فتخرجُ ليلاً لزيارة يسوع في القبر. لاسيما لتُكَّملَ تحنيطه. لم تكن وحدَها، ولو ذكرها يوحنا وحدها ، كانت تراقفها مريم أم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا المعروفين بـ” إخوة يسوع” (متى 13: 55)، وحنة (لو24: 10). غوَّشَ حُبُّها وحزنها رؤيتها وآضطربت حتى أفكارُها. ولمَّا لم تجد يسوع طار عقلها، وفكرت مثل كل إنسان أن أحدًا نقلَ الجثَّة الى مكان آخر. و رأت شخصًا غريبًا حسبته البستانيَّ وظنته هو أفرغ القبر، فطلبت منه عفويًا أين وضعه. أنساها حزنُها ما قاله يسوع عن آلامه وموته وقيامته. وأقام أخاها لعازر وصَرَّح لها ولأختها أنَّه هو” القيامة والحياة”.

إنَّ إحساسَها البشري طغى عليها. والمنطق الفلسفي يقول أن الأنسان لا يقدر أن يقوم بذاته. ولم يذكر التأريخ أن مَّيِتًا قام بنفسِه. وما عاينته فيه من آثار التعذيب لا يترك مجالا لتُفَّكر ولو للحظة بأنَّ جسدًا ممَّزقًا، مُهَّشَمًا، مُحَّطمًا، مسحوقًا، فارغًا من الدم ، يقدر ان ينتعش ويحيا من جديد. ومدى قوَّة إيمانها بلاهوت المسيح؟. لا أبعدَ من ايمان الرسل. لم يصل إيمان ولا واحد منهم الى ربع إيمان مريم العذراء، أم يسوع المكلومة و المفجوعة بآبنها، بحيث واجهت الأحداث القاسية المؤلمة بهدوءٍ ودون آضطراب.

كانت المجدلية ما تزال تواجه الأمور بشريًا بالمنطق الأنساني العام. فمن هلعها على ألّا تفقد جسد عزيزها، ومن شوقها الغامر لتحنيطه وتقديم آخر واجبٍ الدفنة المحترمة، سألت من إعتقدته قادرًا أن يدُّلها على جسده لتُكَّملَ تحنيطه. لم تفطن لملامح الواقف أمامها. بل و تحَّدثت معه وكأنه غريبٌ لم ترَه قط. فلم تعرف أنَّه هو الذي تبحثُ عنه. ولمَّا ناداها بآسمها ” مريم” إستفَّزَت روحُها وآنتفضَ إدراكها :” إنَّه يعرفني. يناديني بآسمي. بنبرة صديقٍ لا غريب. عندها إستيقظ حبُّها وهاجت عاطفتها فصرخت بدون وعي” إنَّه الرَّب ! إنَّه الحبيب “. هو الذي تذهب إليه فقد سبقها وأتى إليها. فآنفجرت من شفتيها كلمتها المفَّضلة “يا مُعَّلم”.

أنا القيامة والحياة !

الحياة لا تخضع للأحاسيس والمقاييس الأنسانية ولا حتى العلمية. هكذا هو شأن القيامة. القيامة تعني أن الأنسان هو ” قائم” أو واقف وحي لا ممدود ومَّيت. ولن يتأكَّد منها البشر ببراهين علمية ومادّية. الحياة لا تخضع للحواس، إنَّها شيءٌ روحي تحُّسُ به دون أن تتحَّكم فيه (يو3: 8). وحتى الجسد الذي ظهر فيه يسوع للتلاميذ لا يخضع للحدود الحسية المادية. لا يراه أيٌّ كان إلا من يريد الرب أن يكشفَ نفسَه له (أع10: 41). فقد يكون يسوع واقفًا أمامك تكَّلمُه ولكنَّك تجهلُ أنه يسوع. وكم حدث ذلك لأناس قديسين وابرار (لو24: 16 و 31). فلا فراغُ القبر يُؤّكدُ القيامة، بل من عاينوه وتبعوه في الحياة. ولا كلامُ الكتُبِ يضمنُ القناعة بالقيامة، بل إنفتاح الفكر والروح لله. ما دام القيامة هي” الحياة ” { لماذا تطلبن الحَّي بين الأموات}، والله هو القيامة والحياة، والله روح، فالحياة والقيامة تعملان في الباطن، من الداخل. القيامة هي فينا ما دام ملكوت الله في داخلنا (لو17: 21). محَّبتنا ليسوع إنطلاقا من أخلاقه وتعاليمه تسمح لنا أن نراه في داخلنا. علاقتنا الحميمة معه، مثل المجدلية، تجعلنا نلتقي به متى ما بحثنا عنه لأنَّه هو” معنا ” (متى28: 20) و” فينا ” (يو14: 23). بعلاقتها الشخصية بيسوع عرفته المجدلية من نبرة كلامه اللطيف والهنيء. وبعلاقتنا الشخصية به نعرفه ونتعَّرف عليه في الأشخاص الذين نتعاملُ معهم.