الصوم

دعاه شماسٌ بـ : فيتامين” ص“، لكونه الحرف الأول لـ” الصيام والصلاة والصدقة التي تكلَّم عنها المسيح (متى6: 1-18)، مضيفًا إليها ” صِلةَ الرحم، الصراحة، الصدق والصداقة ، الصمود  و الصبر، مُعطيًا الطوبى لمن يبحث عنها ويتناولها “.

الصوم ، هو الركن والعنصر الروحي للحياة.

 مارسَه موسى، إيليا، داود، دانيال ، استير، يهوديت، بني حننيا، الشعب اليهودي منذ سبي بابل ، والرسل. وأصبح في المسيحية ركنًا، بُعدًا أساسيًا للحياة الأيمانية الروحية. ذكره العهد الجديد بتبجيله له. قال عن النبية حنة فنوئيل أنها ” لم تكن تفارقُ الهيكل، مُتعَبِّدةً بالصوم والصلاة، ليلَ نهار(لو2: 37). وقال الرب أنَّ ابليسَ لا يمكن ُطردُه ” إلاّ بالصوم والصلاة ” (متى17: 21). وذكر مار بولس عن أصوامه الكثيرة :” بالسهر والصوم ..” ،” بالجوع والعطش والصوم الكثير “(1كور6: 5؛ 11: 27)

طبيعة الصوم

اول صوم كان لموسى لما إعتزل عمله الدنيوي، مُنقطعًا عن أحوال العالم والحياة المادية وتفَرَّغَ لشؤون الله. صام مرتين قطعيًا كل مرة مدة أربعين يومًا وهو يتحدثُ الى الله و يُحاورهُ. هناك إستلم الوصايا العشرة، وهناك علم عن كيفية خلق الله للكون فسجله في سفر التكوين. وهناك عقد الله العهد مع ممثل الشعب (خر20: 19-21؛ 34: 27-28).   

هدف الصوم

علاقة راحةٍ مع الله. الأنسان أخطأ. إبتعد عن الله حتى بات لا يعرفه. علاقته كانت سطحية فاترة. تحتاج الى تغيير وضعها وتصحيح مسارها. أرادَ الله منهم أن يكونوا مثله قديسين لأنَّهم صورتُه وهو قُدوس (أح19: 2). فأوصى الله بالصوم، يومًا واحدًا، للتذَّلل أمامه والتكفير عن خطاياهم بتقريب ذبيحة عنها :” تذَلِّلون نفوسَكم بالصوم ، ولا تعملون عملاً… لأنَّه في هذا اليوم يُكَـفَّرُ عنكم لتطهيركم… هو راحةُ عطلةٍ لكم ” (أح16: 29-31).

طريقة الصوم

يوم الصوم الواحد دُعيَ بـ:” يوم كيبور، أي الغفران” عند التكفير عن الشعب بتقديم” عجل لذبيحة الخطيئة وكبش للمحرقة ” (أح16: 3). القرابين هذه رمزٌ للإعتراف بالخطيئة و التوبة عنها، وقبول الله لها وغفرانها. فالتوبةُ هي الطريقُ الى الصوم. بالصوم إنقطع المؤمن عن شهوة الجسد، وبالتضحية بالحيوان تراجع عن شهوة الإمتلاك، وبالتذلل  أمام الله كسر كبرياءَ نفسِه بالتواضع والإعترافِ بذُلِّه وضُعفِه. وهكذا يقضي نهاره بأستعادة الراحة النفسية والطُمأنينة، والهناء مع الله.

فريضة دائمية

هذا الصوم للتوبة والغفران فرضه الله أبديًا. إنه رمزٌ وظلٌّ لما سيتم على يد ” موسى الجديد ” الذي يختم العهد الأخير والأصيل بقيمة غير متناهية لأنَّه يُلقي الرَبُّ ” كلامه في فمه ، فينقل .. جميع ما يكلمه به. وكلُّ من لا يسمع كلامه الذي تكلم به يُحاسِبُه عليه ” (تث18: 15-19).

وقال الرب يسوع :” موسى تكلم عني ” (يو5: 46)، مضيفًا وأنا :” أتكلم بما رأيتُ عند أبي … من رفضني وما قبل كلامي فله من يدينه. ..لأني ما تكلمتُ بشيءٍ من عندي، بل آلآبُ الذي أرسلني أوصاني بما أقولُ وأتكلم … فالكلام الذي أقوله ، أقوله كما قال لي الآب ” (يو8: 38؛  12: 48-50). واعطانا يسوع المثال بحياته.

يسوع نموذج الصوم

مع يسوع المسيح بدأ عهدٌ جديد. يُخلقُ الأنسانُ من جديد. كانت الخلقة الأولى مادية:” أنت ترابٌ والى الترابِ تعود” (تك3: 19). ولم يكن ممكنًا رؤية مجدِ الله ـ وجهه ( خر33: 20). أمَّا الآن فتكون من الروح :” خذوا الروح القدس. من غفرتم له خطاياه تُغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنعُ منه ” (يو20: 22-23). لقد رأى الأنسانُ الله في شخص المسيح (يو14: 9-10)، وقد ” رأه وسمعه وتأمله ولمسه ويُبَشِّرُ به ” (1يو1: 1-3).

الأنسان الترابي تمَرَّد على الله بشهوة الجسد في الأكل، وبشهوة الفكر في الكبرياء، وبشهوة المال في إقتناء العالم. إعترف يسوع بخطيئة الأنسان فأعتمد كخاطيءٍ على يد يوحنا للتوبة (متى3: 11)، وليحميَ توبته كي تثمر(متى3: 8) واجه تجربة ابليس مثل آلأنسان الأول. و آنعزل في البرية كأنَّه في مُخَيَّم روحي يصبو الى ما هو أفضل. صام فيه وصلَّى. إعتزل العالم وخدمة الجسد وتفَرَّغ للراحةِ مع الله. أفرغ نفسَه أولاً من التعَّلق بآلزمنيات الماديات ، وتصالح في ناسوته مع اللاهوت، وأعَّد نفسَه لقبول الخليقة الجديدة وعيشها في قداسةِ الحَّق والمحبة. ولأنَّ الصوم يُضعفُ الجسد فتضعفُ معه المناعة ضد الشر، إلتجَأَ الى الله ليعينه. جاهد من أجل إيمانه ورجائِه بالله لأنَّه أحَبَّه. قاوم كلَّ تجربةٍ بكلام من الله.

تزهَّد عن الطعام. لم يُخلق الأنسان للأكل، بل خُلقَ له الأكلُ ليُحقِّقَ بجدارة صورة الله. الجسد سيفنى. الروح تبقى. والروح تتغَذَّى من كلام الله لا بالأطعمة. وسيقول يسوع :” طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني” (يو4: 34)، فردَّ المُجَرِّبَ :” حياةُ الأنسان من الله وبيده. فيحيا بكلامه للأبد لا بقوة الطعام” (تث8: 3). ثم ردَّ على شهوة الكبرياء :” لا تُجَرِّب الربَّ إلهَك” (تث6: 16). ليس للأنسان مجدٌ ذاتي يفتخر به. مجدُه أنُّه صورة الله و وكيلٌ له على الكون. وفي الختام ردَّ تجربة الغنى والسطوة بالقناعة والإفتخار بعبادة الله الوحيدة الصحيحة والمُريحة :” لله وحدَه تسجد وإيّاهُ وحدَه تعبُد” (تث6: 13).

وهذه التجارب هي نفسُها يكمن بها ابليس للأنسان ليخدعَه ويُبعده عن حياة الراحة والمجد.             

وما إختبرَه الآن أبلغه لأتباعه فعَلَّمهم : التمَسُّك بالحّق، والعيش في المحبة، حتى قاد مثال الرسل في ذلك الى إيمان الكثيرين بتعليم يسوع والأنتماء اليه (أع2: 47)، وتبَّني خدمةِ الآخرين وممارسة الغفران. ولكي يثبت المؤمنون بإيمانهم ورجائهم صاموا وصلوا ، ولاسيَّما أعطَوا الصدقات بسخاء (أع2: 45؛ 4: 33-37).

لقد دعانا يسوع الى طلب ملكوت الله ومشيئتِه والى تخزين كنوز روحية  بممارسة الأيمان والرجاء والمحبة، ضامنًا لنا الخيرات الزمنية بوفرة (متى6: 20 و 33). دعانا الى توبة متواصلة للحفاظ على مكتسبات الحياة الجديدة (متى4: 17). هو صام لكنه لم يُلزمنا به. بل عرف أننا إفتهمنا الدرس، وأننا سنصوم مثله ومعه. فعلمنا بصومِه أَن توبةً صادقةً تكون بآلإستمرار بالصوم والصلاة والصدقات مدى حياتنا الزمنية. و ترك لنا نظامًا للصوم مُضاعَفًا : بالجسد عن الطعام وبالروح عن الخطيئة. فقالت الصلاة : بالصومْ والصلاةْ

وتوبةِ آلروحْ ، فلنُرضِ المسيحْ والآبَ والروحْ.

الكنيسة والصوم

والكنيسة مارسته على مر التأريخ، ودعت الى التوبة بآستمرار، سنة فسنة، بل في كل آلأوقات، لاسيَّما في الضيق والأزمات أو الأوبئة. إعتبرت الصوم”وقتًا خفيًا للإجتهاد و آلإرتداد للذات وتحسين العلاقة مع الله والقريب” (ت.م.ك.ك. 1434 و2043). وقدَّمت نموذج توبة يسوع، وأشفعته بمثال أهل نينوى. وعلى غرارها نظمت رتبًا وحددت فترات زمنية خاصَّة بها. منها الأصوام قبل الميلاد وقبل القيامة وصوم الرسل وصوم الأنتقال. وتذكر الكنيسة، الكلدانية خاصَّةً، ازماتٍ مرَّت بها دفعتها الى إقامة ” باعوثة ” خاصَّة للتوبة بالصوم والصلاة فآستجاب لها الله وأفرج عن ضيقها. منها باعوثة سنة 567م للنجاة من وباء الطاعون المنتشر في تلك الأيّام في شمال العراق، وعلى ذكراها نقيم حاليًا سنويا الباعوثة قبل الصوم الكبير. وباعوثة ثانية سنة 705م ، سُمِيَّت بباعوثة ” العذارى”، لمَّا طلب الخليفة عبد الملك بن مروان، من أسقف الحيرة المطران يوحنا الأزرق إرسال” أربعين عذراء” مسيحية من بنات الحيرة كجواري له في قصره بدمشق. طلب المطران مهلة ثلاثة أيام ، خلالها نادى بالصوم والصلاة وجمَّع المؤمنين في الكنيسة لصلاة مستمرَّة طيلة الأيام. وفي اليوم الثالث بينما يقرأُ الأنجيل أثناء القداس أوحى اليه الروح بأنَّ” نفس الملك قد أُخذت”. توقفَ عن قراءة الأنجيل وأعلن نبأ وفاة الملك. فشكروا الله إذ أنقذهم من تلك البلية. وتكَرَّرَ ذكراها بإقامة باعوثة توبة بالصوم والصلاة لقرونٍ طويلة، وذلك بعد عيد الدنح، في الأثنين والثلاثاء والأربعاء بعدَه.

يبقى صوم أهل نينوى صورةً ونموذجًا لكل توبة جماعية منظمة، ويبقى صوم يسوع واقعًا حيًّا لكل توبة فردية نصوحة. والهدف تغيير السلوك ليتماشى مع صورة الله وأُخُوَّةِ الأنسان. بالصوم يتدرب المؤمنون لكبح جموح شهواتهم الملتوية ومقاومة التجارب، بحرمان أنفسِهم من المرغوبِ والمغري، ومن ثمَّةَ السيطرة على آلمرفوض و الممنوعِ من النوازع والنواهي، وضمانِ العيش بكرامة كما تتطلبها إنسانيتُنا ، وسيرةٌ مسيحية فاضلة، عاشَ يسوعُ نموذجَها.

نحن في مُنتصَف الصوم. قالت الصلاة  : ( الأربعاء الماضي ، الرابع للصوم )

ها قَـد إنتَصَفْ : صومُ رَبِّـنا . طوبانا لو أَنْـــصَفْـنا سوءَنا *

صومُنا آنتصَفْ : نَصِّفُوا آلذنوبْ .  لمَّا ينتهي : تُنهون آلعُـيوبْ *

بالصومْ والصـلاةْ : أَزيـلوا آلخُطـوبْ . وآلرَبُّ يُعـينْ : كلَّ مَنْ يـتــوبْ *   

هَـنـيـئًا لِمَـنْ : بِصلاتِـهِ . محـا إِثـمَهُ :  وزَلاّتِــهِ *