أهلا وسهلا بالأخت أرخوان يوسف
طالعت الأخت أرخوان مقالات متضاربة عن الأحتشام في اللبس مع غطاء الرأس في الكنيسة والأماكن المقدَّسة. وتقولُ : إذا كان الأحتشامُ مطلوبًا فلماذا لا تتخذُ الكنيسة إجراءاتٍ صارمة في عدم السماح به وذلك عن طريق مثلاً منع “غير المحتشمات” عن التناول أو حتى عن دخول الكنيسة ؟. وســأَلت :ما رأيُــكم في هذا الموضوع ؟
الأحتشــام ؟
سبقَ وأجبتُ عن سؤال بخصوص اللبس القصير(أنظر تأريخ 22/8/2016). وقلتُ فيه أنَّ المسيحَ لم يتطَّرق الى نوع اللبس. ولا الكنيسة حدَدَّتْ شيئًا من هذا القبيل. لقد تطرَّق مار بولس الى غطاء الرأس وربطه بآحترام المرأة لزوجها ولوحدتِها معه وليس إحترامًا لله أو للقربان (1كور11: 3-5، 9-10). أما أن يكون للكنيسة حشمةٌ خاصّة وحَقٌّ على المؤمن أن يحترمَه فهذا لا جدالَ فيه. قد لا يكون إحترام قدسية مكانة الكنيسة دائما وفقط بالملبس. لكن اللبس جزءٌ من حياةِ المرء ومرآةٌ أحيانًا لِما يحملُ ويُغَّذي من خاطر. فأن يكون للملابس إحتشامٌ فلا غرابة في ذلك ولا شك. إن كان للباس هدفٌ وغاية فيجب أن يُحَّقِقَها. وإذا لم يُؤَّد اللبس ما أُوجِدَ من أجله يكون عندئذٍ عالة على مستعملِه نفسِه.
الثيابُ في الفكر الديني كِساءٌ لعُري الجسد. لقد خجلَ الأنسان من نفسِه، بعد ما أخطأ، وكسا عُريَه بورق التين (تك3: 7). وأيَّدَ الله فكرة الأنسان أنَّ الخطيئة عَرَّته من إمتيازِه و تمَتُّعِه بصداقةِ الله وعنايتِه. وإكساءُ عري الجسد دعوةٌ لإكساءِ عري النفس، للتخَّلص من الخطيئة والعودة الى كنفِ نعمةِ التمتع بمحبةِ الله ورعايتِه. فأعطى اللهُ آدمَ لباسًا من جلد يُقاومُ تقلبات الجو ويدوم طويلا (تك3: 21). وسيكسوه بمحبته ويُوَّسع له رحمتِه فيُعيده الى فردوسِه، بل ويرفعُه الى مقام إبنِه ” نازعًا عنه ثوبه القذر ومُوَّشِحًا إيّاه ثيابًا ناصعة البياض”(زك3: 4). لام الرب الفاترَ في الأيمان والمحبة لأنه “بائسٌ مسكينٌ فقير، عريانٌ وأعمى”، ثم دعاه الى التوبة وعرضَ عليهه العلاج : عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصَّفًى.. وثيابًا بيضاءَ تلبسُها لتسترَ عُريَكَ المَعيب “(رؤ3: 17-18). هكذا يستعيدُ التائبَ اليه لباسَ الكرامة للحفاظ على حشمتِه. فالحشمة ليست جزءًا ظاهرًا من الجسم بل هي إحساسٌ روحيٌ وفكرٌ باطني يعود الى النفس لا إلى الجسد.
اللباسُ وسيلةٌ ورمزٌ للأحتشام لا الأحتشامَ نفسَه. لكن الأنسان، كعادتِه في تشويه الحقائق وقلب المقاييس والموازين، حَوَّلَ اللبسَ مع الزمن الى وسيلةٍ للتظاهر و التباهي وجعلهُ عبدًا مقَّيَدًا بالموضةِ والتجارة. وتتبع الملابسَ الزينة والحِلِيّ. وقد أعطى فيها الرسل رأيهم. قال مار بطرس للنساء :” لا تكن زينتكن خارجية بضفر الشعر والتحَّلي بالذهب والتأَّنُقِ في الملابس، بل داخلية بما في باطن القلب من زينةِ نفسٍ وديعةٍ مطمَـئِنةٍ لا تفسد “(1بط3: 3-4). وأيَّده مار بولس بقوله :” أُريدُ أن تلبسَ المرأةُ ثيابًا فيها ” حِشمةٌ “، وأن تتزَّين زينةً فيها حياةٌ ووقار. لا بشعر مجدول وذهبٍ ولآليءَ وثيابٍ فاخرة، بل بأعمال صالحةٍ تليقُ بنساءٍ يعشنَ بتقوى الله “(1طيم2: 9-10). إذن تقوى الله، محبتُه والتعَّلقُ به، هي سببُ الأحتشام وعبارتُه.
الكنيــسةُ ؟
لكل إنسانٍ بيتٌ يقضي فيه حياتَه الزمنية. وله في الأبدية بيتٌ لم تصنعه أيدي البشر(2 كور5: 1). قال الكتاب :” ها هو مسكنُ الله والناس: يسكن معهم.. الله نفسه معهم”. إنها أورشليم السماوية التي اللهُ هيكلُها (رؤ21: 3 و 22). والكنيسة، وكل بيت عبادة، هي رمز اورشليم السماوية. وهي بالتالي بيتُ الله كما كان الهيكلُ بيتَ الله. ونعرفُ كيفَ أنَّ يسوع إنتفضَ غيرةً على بيتِ الله الذي دَنَّسه اليهود بالمعاملات التجارية فطرد التجار والباعة منه صارخًا :” لا تجعلوا من بيت أبي بيتًا للتجارة “(يو2: 16)؛ مكتوبٌ ” بيتي بيتٌ للصلاة ، وأنتم جعلتموه مغارةً للصوص” (متى21: 13). فبيت الله ليس قاعةً فيها يُعرضُ عريُ الأجسادِ وتتنافسُ فيه الموديلات المختلفة. إنه مكانُ تجَّمُعِ المؤمنين للآلتقاء بالله من خلال عبادةٍ جماعية. ليست الكنيسة صالونًا تُستَعرَضُ فيه الموديلات الجديدة، ولا هي مرسَمًا يُبرزُ فيه الرسامون تضاريس الأجساد، ولا هي ستوديو يُصَّورُ فيه الفنانون جمال الأجساد ومفاصلها وملامحها، ولا هي قاعة حفلات الزواج للرقص وعرض مفاتن الأجساد لقنصِ نظر الآخرين بغية إغرائِهم، ولا هي مسرح للتمثيل والتهريج.
الكنيسة مكان مُقَدَّسٌ بقداسةِ الله الذي نلتقيه فيه. لكل حاجةٍ بيتٌ خاص : للدرس بيت. للرسم بيت. للأكل بيت. للرقص والغناء بيت. لأوبيريتات موسقية بيت. للسباحة بيت. للمرضى بيتٌ. للمجرمين بيت. للسباق ميدان. للسفر وسيلة. وهكذا للصلاةِ والعبادة بيتٌ. ولكل بيتٍ خصوصيتُه ومستلزماته ودوره. وهكذا للكنيسة خصوصيتُها. ولها مستلزماتها الخاصة هي : اللبس المحتشم، الأحترام بالسكوت، الصلاة والتأمل والتثقيف الروحي. في الكنيسة نحن مع الله ولله ونتحرك بالله، بمشيئتِه. لسنا أحرارًا حتى نُحَّولها الى مقهى أو متجر أو نادي. المؤمنون مُلزمون، إكرامًا لله صاحب البيت وللمؤمنين الآخرين ضيوفِ الله، أن يحترموا الكنيسة ويتصَّرفوا فيها كما يُطلبُ منهم لا كما يلُّذُ لهم ويطيب. كلُ واحدٍ حُرٌّ أن يعمل في بيتِه ما يحلو له ويشاء. أما في الكنيسة فالكل يجب أن يتقَّيدَ بمقامها الخاص وبما ترمز أو تدعو اليه. ألا يحترم الناس دائرة حكومية ويتقيدون بنظامها؟ ألا يحترم الناس بيوت القادةِ والرؤساءِ ويقصدونها بلباس لائق؟. لماذا نقللُ من قيمة الكنيسة بيت خالقنا وديَّاننا ولا نعيرُ الأهتمام لأخوتنا المؤمنين فـنتجَّنبَ تشكيكهم وبلبلة أفكارِهم؟. لهم حَقٌ علينا و واجب أن نُكَّرمَ شعورَهم ، كما لأبينا الله حَقٌّ أن نستُرَ عُريَنا أمامه كما علمنا.
إجراءاتٌ صارمة !
إقترحَ السائلُ إتخاذ إجراءات صارمة ضد من يكسرُ حُرمةَ الكنائس ويُخالفُ آدابَ الحشمةِ. لقد إستعملَ يسوع سوطًا من حبال وطردَ به التجار. أما هنا فليسوا كم تاجرًا، ولا هم كم بائعَ الموضةِ. بل هم الأغلبية الساحقة للمؤمنين. فمن يطردون ومن يُبقون؟. ولقد أصبحت طريقة اللبس هكذا فمن يلومون ومن يدينون؟. مع ذلك ليس الشر والخطأ من الخارج في الملابس بل هو ينبع من الداخل (متى15: 18-19). ومن جهة أخرى نعرف أن يسوع كان يُخالطُ الخطأة حتى الزواني ليكسبَ مودتهم وثقتهم بالله. أما أنقذ المجدلية وزكا ومتى؟. إنّ الذين لا يلتزمون الحشمة ويهملون إحترام الكنيسة ليسوا كلهم أشرارا يتصرفون عن نية سيئة. بل أغلبهم يتصرفون عن ” لا وعي” وعن ” لا مبالاة”. وأمثالهم يحتاج الى التوعية والأيقاظ أكثر من عقوبة الحرمان عن الكنيسة أو عن التناول. يحتاجون فقط الى تجسيد إيمانهم والأنتباه الى جدية أفعالهم ونتائجها الأبدية. الزانية التي كانت تستحق الموت سامحها يسوع و طلبَ منها ألا تخطأ. يهوذا الذي سَلَّمه لامه يسوع وحَذَّرَه ولم يتخذ ضده أية إجراء . وقال أنه يريدُ أن يرحمَ الناس الخطأة الذين من أجل خلاصهم تجسَّدَ الله، ونحن كلنا خطأة، وليس أن يدينهم ويعاقبهم ؛ ” أريد رحمةً لا ذبيحة” (متى9: 13). يحتاج المؤمنون الى توعية والى حِسِّ الألتزام بالنظام، والى التمييزبين العبادة وبين الدعاية والريكلام. يحتاجون أن يتعلموا التوبة، وأن يتعلموا ألا يتبعوا مثل غنم في القطيع بل أن يتصَّرفوا بمنطقٍ سليم ومسؤولية و يختاروا بين الأيمان و روح العالم.