تتلى علينا اليوم القراءات : اش63: 7-16 ؛ { تث24: 9-22 } عب8: 1-7 (1-9: 10) ؛ يو3: 22-32
1* القـراءة : إِشَعْيا 63 : 7 – 16 :– اللهُ رحومٌ ورؤوف نحو الأنسان. فقد أنقَذَ شعبَه بحُّبِه العظيم وحنانِه من إبادةٍ محتومة، على يد موسى. أمَّا الشعبُ فلم يكن يبقى طويلاً وفِّيًا للعهد بل يُكثرُ من خياناتِه ومخالفاته فيناله الضيق فيرجع الى الله إلى حين. لكنَّ اللهَ سُنقِذُ الأنسان كُلِّيًا ويفديه نهائيًا على يد المسيح.
القـراءة البديلة : تثنية 24 : 9 – 22 :– يُثَّقِفُ اللهُ شعبَه ويُرشِدُه إلى السلوك المثالي الذي يُرضىه ، ويُذَّكرُه بأنَّه كان عبدًا فلا يحتقرْ هو ولا يُؤذِ غيرَه.
الرسالة : عبرانيين 8 : 1 – 9 : 10 :– يدورُ الكلامُ على تفَّوُقِ كهنوتِ المسيح وخدمتِه و وِساطتِه. إنَّه وسيطُ عهدٍ أسمى فأفضل ، عهدِ القلبِ والضمير.
الأنجيل : يوحنا 3 : 22 – 32 :– يُباشِرُ يسوع رسالتَه. ينشُبُ جدالٌ حول معموديتِه و معموديةِ يوحنا. يَفُضُّ يوحنا المعمدان الأمرَ بالتأكيدِ على أنَّ يسوعَ هو المسيح، ويقومُ الحَّقُ على طلبِ معموديةِ يسوع وتصديقِ تعليمه.
مُباركٌ الآتي بآسم الرَّب !
من طبيعةِ الأنسان أن ينطلقَ من حوّاسِه، لاسيما البصر والسمع والمعرفةِ الناتجةِ عنهما ، ليتفاعَلَ مع ما َحولَه، ويفهَمَه ويحكمَ عليه. وتخضعُ غلاقتُه بالإنسان أيضًا الى نفس القانون. ثم حتى يحكمَ على الآخر ينطلقُ، بعدَما تعَّرفَ إليه بواسطة الحواس، من فكرِه ومنطِقِه الذاتي، وهما نورُه الوحيد وهِدايتُه المُتنَّفِذة. أي يَزِنُ المُقابلَ ويقيسُه بما إفتهَمَه هو نفسُه عنهُ وبما يقوى على القبولِ به، وحسبَما يتوالمُ ويتماشى الآخرُ مع ما في داخِلِه من معرفةٍ و رغبة ومنفعةٍ. وعندئذٍ يتصادقُ مع مَن يتوالمُ مع تطلعاتِه، أويتباعدُ عمَّن يتناقضُ مع آمالِه وأحاسيسِه، أو يتجاهلُ مَن لا يتفاعلُ مع قِيَمِهِ ومبادِئِه. ويبقى الحكمُ دومًا مبنِّيًا مع نتائِجِه على ما ” أنا ” أَملِكُه من عِلمٍ وخِبرةٍ وقابليةٍ للحوار وغريزةٍ في البروز، وتغليبِ رأيي و وجهة نظري على الآخرين. وأكونُ، من دون أن أشعُرَ وأُدرِك، أُعلنُ نفسي سّيِّدَ الموقِفِ و المكان، ولا أُعيرُ إهتمامًا وقِيمةً لغيري.
كان اليهودُ ينتظرون المسيح المُخَّلِصَ من حوالي ألفي سنة. وتكَّونت عندهم معرفةٌ عنه و صورةٌ إِنطبعَتْ في ذاكرتهم فآعتقدوا أنَّهم سيتعَّرفون بها عليه عندما يظهرُ بين الناس. و تكَّونت هذه الصورة بناءًا على أمرين:1- وعد الله وتأكيد الأنبياء ؛ 2- الحياة التي عاشوها والظروف السياسية التي مَرُّوا بها. وأمَّا صورةُ المُخَّلِص فتشَّوَهَتْ في أذهان الناس فبدأوا يبتعدون ، قليلاً فقليلاً، عن خُطوطِها الألهية الأساسية الأَصيلة، وعن تقاطيعِها وملامِحِها البشرية الأولى، و حَلَّت محَّلَها صورةٌ أُخرى أقَّلَ وضوحًا وأبعدَ جذورًا لتصيرَ تعبيرًا عما يفهَمُه البشر ويتمَّنونه، وليس كما إرادَه اللهُ وأوحى به.
كانت صورتهم عن المسيح أنَّه يثشبهُ موسى نبِيًّا إلَهيًّا وقائدًا سياسيًّا يستعيدُ، بقُوَّةِ الله، أمجادَ دولتهم القومية والسيادية، المحض إنسانية. ولم يروامجالاًا ليُرفِقوا بتلكَ الصورة، ولو بخيط ، تحريرَ الأنسان من ذاتِه المتقوقعة على المادّية الزمنية، ورفعِه من ثمَّ إلى مستوىً روحي، وإلى سلوكٍ هو مدعى إليه ليكون صورةً حقَّة لخالِقِه، مُنتصِرًا بذلك على غريمِه ابليس و سالكًا مع الله دربَ المحَّبة والقداسة. وتجَّذرت الصورةُ المادّية المُشَّوِهةُ في أذهانِهم فلم يقووا على رؤيةِ الحقيقة. لأنَّهم إنطلقوا من ذاتِهم ولم يُحاولوا الأرتفاعَ الى فهم كلام الله و التفاعلِ معه لخلاصِهم إبتعدوا عن الله ومشيئتِه مُعتقدين أنَّ خلاصَهم بفكرهم الخاص و رغبتهم، وعلى أيدي من يُقَّررونه أنَّه المسيح. فيكون المسيح مَن يُلَّبي مطاليبَهم ويسلُكُ طرُقَهم ويُحَّققُ مأرَبَهم وآمالهم وليس من يدَّعي أنَّه مُرسَلٌ من الله.
هذه هي المأساة التي قادت اليهود إلى رفض يسوع الناصري، رغم الأَدّلة الألهية على كونه المسيح المُنتَظَر، ومُحاربتِه فصلبوا مُخَّلِصَهم المسيح. لم تكن هويته مشابهة لهويتهم ولا سلوكُه لتقاليدهم فلم يتعَّرفوا على المسيح الألهي، مُفَّضلين مسيحًا أرضّيًا. نظروا إليه بعيونهم لا بفكرهم وإيمانهم، وسمعوه بآذانِهم لا بقلوبِهم كما قال الكتاب: ” هذا الشعبُ يتقَّربُ مني بفمهِ ويُكرمُني بشفتيهِ، وأمَّا قلبُه فبعيدٌعني. فهو يخافُني ويعبُدُني بتعاليمَ وضعَها البشرُ” (اش29: 13؛ مز78: 36-37؛ مر7: 7). ولو نظروا إليه” بالروح ” وأَنصَتوا إلى “الحكمة الألهية”، التي جهَلَها قادةُ العالم، لعرفوهُ “وما صلبوا ربَّ المجد” (1كور2: 6-9).
نظروا الى يسوع وكأنَّه من الأرض !
كان آدمُ ، الأنسان الذي خرجَ من الله، مجبولاً من ترابِ الأرض ولكنَّه يحيا من نسمةٍ إلهية نفخها فيه الله (تك2: 7). وجاءَ أوَّلُ تصَّرفِه المصيري أيضًا نابعًا من حوّاسِهِ تابعًا لشهوتِه الحِسّية (تك3: 6). إنَّهُ أَرضِيٌّ :” ومن كان من الأرضِ فهو أرضِيٌّ ويتكلَّم بكلام أهل الأرض”. وهكذا لم يرَ اليهود في يسوع سوى ما إدَّعوهُ مخالفاتٍ لِـ” شريعتِهم” (متى15: 2 )، او لشريعة موسى(يو5: 18؛ 9: 16؛ لو13: 14). أمَّا إذا كان ما يفعلُه مطابقًا لشريعةِ الله السماوية، وأنَّهم هم المقاومون لها، فلم يُبالوا بالأمر ولا إعتبروه (متى15: 3؛ 23: 13 و23؛ لو11: 42). ظلوا يحكمون “حكمَ البشر” (يو8: 15)، لأنَّهم رفضوا فكرَ الله ليتبعوا أَفكارَهم (متى16: 23)، ونقضوا وصايا العهد وتوجيهَ الله، ليُقيموا سُنَّتَهم ويتمَّسكوا بها (مر7: 8-9). وبرهنوا بذلك أنَّهم لم يعرفوا حتى ولا اللهَ نفسَه (يو7: 28). إِدَّعوا لأنفسِهم المعرفة وآحتكروها (لو11: 52)، وحسبوا أنفُسَهم أنَّهم وحدَهم يُبصرون الحقيقة (يو9: 41 )، وأنَّهم يملكون حَقَّ تقريرِ مصير جميع الناس (يو9: 22؛ 5: 18؛ 11: 46-53). فلم يُصغوا جَيِّدًا إلى كلام المسيح ليفهموه (يو12: 49-50)، لأنَّه لم يتعَّلم في مدارِسِهم (يو7: 15-16)، ولا تأمَّلوا أعماله ليروا فيها قدرةَ الله، وهي تشهدُ له (متى11: 4؛ يو9: 31-33؛ 14: 10-11). يسوع لم يتكلم ولم يعمل ما يرضاهُ البشر بل كما يفعلُه الله وما يُرضيه (متى 3: 17؛ 17: 5) :” من يأتي من السماء يشهدُ بما رأى وسمع “(يو3: 11). ويسوعُ جاءَ من السماءِ مُعَّلمًا (يو3: 2)، وخرجَ من الله ليشهدَ للحق (يو3: 11؛ 18: 37). فإن كان آدم الأول إبنًا لله (تك5: 1؛ لو3: 38)، فكم بالأحرى آدمُ الثاني هو إبنُ الله كما كما صرَّع يسوع، و”مساويًا نفسَه بالله” (يو5: 18؛ 10: 26؛ 16: 27)، وجعل اللهُ كلَّ شيءٍ بين يديه (يو3: 35). تعاملَ قادة الشعبِ مع يسوع كأنَّه ” من الأرضِ”، في حين كان هو وحدَه ” الأبنُ الآتي من السماء ” (أف4: 10).
جعلَ كلَّ شيءٍ في يده !
لما خلقَ اللهُ الأنسان أعطاهُ الروحَ، لكن” بحساب”. أي له حدود لا يجوزُ أن يتعَّداها، ويُنهى
عن أعمال لا يليقُ به أن يتعاطاها لأنَّها تتبعُ الغريزة الطبيعية وقد يُساءُ إستعمالُها بشكل تؤذي الأنسان،: ” وأوصى الرَّبُ الإلَهُ قال: مِن جميع شجر الجَّنة تأكل. وأمَّا شجرةُ معرفةِ الخير والشر فلا تأكُل منها. فيوم تأكلُ منها موتًا تموت” (تك2: 16-17). وسيُحاسبُ اللهُ الإنسان على مخالفتِه،:” وقال اللهُ لآدم: لأنَّكَ سمعتَ كلامَ إمرأتِكَ .” ( توَّهمتَ فأخطأتَ ).. تكون الأرضُ ملعونةً بسببك. بكَّدِكَ تأكلُ خبزَكَ.. فأحرجَ الربُّ آدم من الجنة.”(تك3: 11-23).
أمَّا المسيحُ يسوع فأفاضَ اللهُ عليه “الروح” بغير حساب، لأنَّه مِرسالُ الله (لو4: 18)، وهو الذي رضيَ عنه :” هوذت فتايَ الذي إختَرتُه، حبيبي الذي رضيتُ عنه، أُفيضُ روحي عليه فيبَّشرُ الأُممَ بالحَّق. لن يُشاغِبَ ولن يصيحَ ، ولن يسمعَ أحدٌ صوتَه في الشوارع. قصبةً مرضوضة لن يكسر، وفتيلةً مُدَّخنة لن يُطفيء، حتى يسيرَ بالحَّقِ إلى النصر، وعلى إسمِه تتوَّكلُ الأمم “(متى12: 18-21؛ اش42: 1-4). وقد شهدَ يوحنا المعمدان أنَّ الروحَ حَلَّ عليه كاملاً وآستقَرَّ فيه (متى3: 16؛ يو1: 32-34).
إنَّ روحَ الله مع يسوع بالكمال والتمام. لأنَّ يسوعَ لا فقط لم يخطأ ولاخالفَ إرادةَ الآب، بل ولأنَّه يُشَّكلُ أصلاً مع الروحِ والآب ” اللهَ الواحد”. ومن فيض هذا الروح الألهي الذي يمتلكُه سيسكبُ هو أيضًا منه على تلاميذِه يوم العُنصرة. ولا فقط أعطاهم الروح بل وأيضًا ” أوسعَ على الناسِ العطايا” (أف4: 8)، بحيثُ” يتلَّقى كلُّ واحد من تجَّليات الروح” (1كور 12: 7) موهبةً خاصّة مختلفة عن غيره تساعدُه على أن يحيا كما يريدُ منه الرب ز ” يبني الكنيسة ” (1كور14: 12).
وهكذا إن كان اللهُ قد أخضعَ لآدمَ الكون المادي كلَّه ليرعاهُ (تك1: 28)، أمَّ المسيحُ فقد جعلَ اللهُ ” كلَّ شيءٍ في يدِه”، حتى الأنسانَ نفسَه. و” أولاهُ سلطةَ القضاءِ كلَّها لأنَّه إبنُ الأنسان. وبـ” السلطة كلها” عنى الكتاب ” السُلكان على الحياةِ نفسِها “(يو5: 22-27) فيحكمُ بالهلاك
أو بالخلاص الأبدي لكل إنسان. فهو الذي بعدَ قيامتِه ” جلس عن يمين القدرة” الألهية (مر 16: 19)، يدين البشرية جمعاء (متى25: 31-46)، ملكَ الملوكِ ورَبَّ الأرباب (رؤ19: 16)، بيده مفاتيحُ الموتِ والجحيم (رؤ1: 19)، لأنَّه هو الطريق إلى ضياءِ الحَّق ونبع ِ الحياة (يو14: 6). لذا من يؤمنُ به ـ هو الأبن ـ ويتبعُه له الحياةُ الأبدية “.
و بعد ألفي ســنة ؟؟
وبعدَ ألفي سنة كيفَ يُصَّورون يسوع المسيح؟ وما هو رأيُهم عنه؟. هل ينظرون إليه بعيون البشر المُغَّوشة وبفكرهم المُلَّوث بمباديء العالم أم يرتفعون عن ارض العالم ويسمون بالروح إلى فضاءِ الله فيروا فيه اللهَ المُتجَّسد والحاضر مع الأنسان؟. هل يريدونه مسيحًا ” كما هو” ويحفظون كلامَه ، أم يُغَّيرون تعليمه ويُؤَّولون مشيئتَه فيمسخونَه جاعلين منه ” مسيحًا على هواهم” يتماشى مع رغائبهم ونزواتِهم؟ فلا يكونون شاذّين عن حياة أهل العالم! . هل يسمحون لروحِه القدوس، الذي أفاضَه عليم في سِرِّ الميرون، أن يُوَّجهَ حياتَهم، فيثقوا ويتكلوا على موهبتِه الخاصة لكُلِّ واحد، ويبنوا كنيسةَ الله، أم يسُّدون منافذَ حياتهم ، فكرهم وقلبهم، أمام روح الله ليقودَهم روحُ ” أهلِ الأرض” ويبقون يزحفون على الأرض رافضين أن يرتفعوا مع المسيح إلى فوق ، الى السماء ؟.
لا ننسى أنَّ الوعدَ بالحياة المريحةِ مدى الأبد يضمنُه ” الأبنُ وحدَه “. والأبنُ إذا آمَّنا به كما أعلنه الأنجيل، وكما عرفَه الر سل وقَبِلَه المؤمنون الأوائل، وكما تُعلنُه الكنيسةُ اليوم على خُطاهم. المسيحُ واحدٌ، تأريخِيٌّ معروفٌ، ولن يتغَيَّرَ حتى لو صَوَّرَه ملايينُ الناس بشكلٍ مختلف. يبقى هو الأبنُ الذي أحَّبَ البشر إلى أقصى حَّد (يو13: 1)، ومات على الصليبِ شاهِدًا أمينًا للحَّق ونموذجًا للحب، ثم قام مُنتصِرًا مُمَّجَّدًا.