تتلى علينا اليوم القراءات : أع1: 15-26 ؛ في1: 27 – 2: 11 ؛ مر16: 14-20
الرسالة : فيلبي 1 : 27 –2 : 11
بولس سجينٌ في روما بسبب بشارته بالمسيح. وقيودُه تُخَّيبُ بعضَ المؤمنين الضُعفاء ، و تُبهجُ الأنتهازيين الذين ينافسونه في فيلبي ويكيدون لسقوطِه. لكنها تُشَّجعُ أغلبَ المؤمنين ” فيزدادون جُرأةً على التبشير بكلام الله غير خائفين” (في1: 14). يكتبُ لهم ليفتخروا علنًا بالمسيح و يصمدوا في إيمانهم، لأنَّ الحياة الحقيقية هي إقتناء المسيح والإقامةُ معه.
أُثبتوا في الجهاِد في سبيل الأيمان !
لقد إعتاد الناسُ على صراعاتٍ بالأيدي وبالسلاح تنتهي دومًا ببهجة الغالب وشقاء أو حتى هلاكِ الخاسر. ويقودها أغلب الأحيان التنافس أو الحقدُ. لكنهم قلَّما عايشوا صراعًا فكريًا بتطلب صمودَ الأرادة والثبات على المبدأ بدون غالبٍ أو خاسِرإجتماعيًا وزمنيًا. إنَّه صراعُ الثقافات والحضارات. يُشبهُها صراعُ الديانات. لأنها تنتمي إلى دائرة الفكر والروح لا الى الجسد. الحضارات تتعاقب وتتكامل، أمَّا الديانات إمَّا تستمِرُّ أو تختفي. وظهور المسيحية بفكر جديد ومناهضٍ، بل متناقض، مع ما سبقه لقيَ رفضًا قاطعًا وآضطهادًا دمويًا ذرَّ قرنَه ضِدَّ المؤَّسس نفسِه وتوَّسعَ وآشتَّدَ مع مرور الزمن ضدَّ المنتمين إليه. إستعملَ البشر كالعادة العنفَ والترهيب والتنكيلَ للقضاء على الجسم الجديد. ولكن المبدأ الجديد كان أقوى من سلاح العدّو، وصمَدَ حتى تغلَّبَ، بدون سيف بل بدمائه المسكوبة، ومصداقيةِ ما نادى به. و آمن بولس بأنَّ هذا النصر مضمونٌ لأنَّه فكرُ الله مبدعِ الكون نفسِه، ولأنَّ دماء الصِدقِ عند البارين أقوى سلاح في وجه العدو الدّجال. لقد إختبرَ بولس ذلك عندما كان يضطهدُ كنيسة المسيح وعرف أنَّه لا يقدر أن يرفسَ المهماز !.
لكن الأضطهاد الدموي الجسدي ربما لم يكن قد بلغ بعدُ بلاد اليونان. ما كان يُؤلمُ أهل فيلبي هو الأنقسام بين أعضاء الرعية أنفسهم. لقد إختلفت فئة منهم على بولس، عن حسدٍ وخبث ، وصاروا ينافسونه بالتبشير بنيّةٍ سيّئة للأيقاع ببولس وزيادة ضيقه وآلامه (في1: 15-17). إنَّهم” يسيرون سيرة أعداءِ صليب المسيح ” (في3: 18). وقد يُضعفُ هذا إيمان البعض. يُدركُ بولس خطورتَه. ولا يريدُ الأنقسام في الرعية ولا الجهل بالحقيقة. فيُبادرُ إلى تخفيف وطأة ذلك، ويُشَّجع الأمينين لتعليمه إلى الثبات على الوحدة بينهم، والجهاد معًا بنفسٍ واحدة للحفاظ على إيمانهم، وعلى عدم الخوف من خصومِهم، الذين لن يحصدوا من فعلتهم إلا العارَ الهلاك.
هذا الجهادُ يتطلب تضحياتٍ ويُسَّببُ آلامًا. لا شَكَّ في ذلك. المسيح أيضًا واجه الصعوبات من أجل فِدائِهم، وتحملَّ الضيق والألم بل حتى ذبيحة حياته بسفكِ دمه للبقاء وفيًا لمبدإه و أمينًا لرسالته. وبإيمانهم به والمعمودية بآسمِه صاروا واحدًا معه. و عليه إيمانهم جزءٌ من حياةِ المسيح والجزءُ الآخر هو قبول الألم والتضحية مثله. وذلك فضلٌ ونعمةٌ من الله أن يتشبهوا به. فذكرَّهم بذلك قائلاً: ” أُنعِمَ عليكم أن تتألموا من أجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فحسب” (آية29). وهذا يسري على كلا الأضطهادين: من الداخل و من الخارج. وليُقنعَهم أكثر ذَكَّرهم بقيوده الخارجية القديمة وقد تحملها مع سيلا (أع16: 16-40) وأيضًا الحالية، وبآلامه الداخلية الحالية، وكيف آلتا إلى سعادة بولس بخلاص الآخرين. سلاح الأيمان هو الثبات في الألم والتضحية. لكنه يوعدُ بنهاية مجيدة يفتخرون بها، كما تمجَّد يسوع بقيامته و نفتخرُ بها نحن. وحتى نشارك مجد تلك القيامة سيُذَّكرهم بولس بعدَه :” إذا عرفتُ المسيح وعرفت قوَّة قيامته وشاركته في آلامه وتمثَّلتُ به في موتِه لعلي أبلغ القيامة..” ويُضيفُ :” إقتدوا بي” (في3: 10-11، 17). فبما أنَّهم يشاركونه نعمة الأيمان فـليسلكوا أيضًا مثله.
حافظوا على الوحدة !
يبدو أن الخلاف والأنقسام بين أبناء الرعية أقلقَ بولس فتدَّخل ليُقَّلمَ أظافره. فناشَدَهم ” بآسم المسيح، وبحَّق قوَّةِ المحبة في الأقتناع وإقناع الآخر، وبأسم الروح الواحد الذي يجمعهم، و آمتثالاً للرحمة والرأفة ألا يُخَّلوا خاطِرَه بل أن يُفَّرحوه..”. إنَّها علَلٌ وأسباب لا يُغامرُ أحدٌ أن يتجاوزَها أو يُعارِضَها. إعتبارُها واجبٌ ثقيلٌ بمستوى خطورة الحالة السائدة. لا يريدُ بولس أن يتفاقم الشَّر. لقد تعَّلم من سَيِّده أن يغلبَ الشَرَّ بالخير. ويتمنى فيدعو تلاميذه إلى الأقتداء بالمعَّلم كما يفعله هو نفسُه. وهدفُ تقديم كلِّ هذه المُبَرِّرات أن يوَّفقَ بينهم فيكونوا ” على رأيٍ واحد، ومحَّبة واحدة، بقلبٍ واحد وفكرٍ واحد “. وهذه الوحدة منطقية وضرورية: ” لأنَّ المسيحَ الرَّب واحدٌ، والأيمانَ واحدٌ، والمعموديةَ واحدةٌ، وإللهَ واحدٌ أبٌ لجميع الناس” (أف4: 5-6). ينبُذُ التنافسَ النفعي، والتعالي على الآخر، والأنانية المقيتة، ويُقَّدمُ لهم دومًا نموذج المسيح فيدعوهم إلى تبَّني أخلاقِه.
وتحسُّبًا أن يكون إيمانُهم بيسوع قد تغَوَّشَ يُذَّكرُهم بولس بهوية المعَّلم ويُعَدِّدُ صفاتِه مُشِّدِدًا على التي تسند جهادهم في الظرف الراهن. ويقول : ” لم يتباهَ المسيح بمجدِه الألهي ولا بمساواتِه للآب، كمن يكون قد إغتنمها من عدُّوٍ. لم يتمَسَّك بحقوقِه، بل تخَّلى عنها، و تنازلَ هو الرب والسيد فآتَّخذَ صورة العبد. تواضعَ فخدمَ وأطاعَ إرادة الله الحَّق، وقبل التحَّدي و تألم “. كلُّ ذلك ليصون الحق ويعيشَ الحُّبَ ويُعَّلم الأنسان كيف يتغلب على الشر بالحب و اللطف لا بالكره والعنف. حافظ المسيح على وحدته مع الآب الحق والروح الحَّي، مُتحَّـديًا الشر حتى غلبَه. تنازل عن إرادته ولَذَّتِه وحتى عن جسدِه من أجل أن يُنقِذَ غيرَه وأن يكسبَه للمجد الأبدي.
رفـعَـه اللــــــه !
لم يكن تجَرُّدُ المسيح وتلاشيه هدفًا بذاته ونهايةً أَقفَلَ الزمنُ عليها. كان وسيلةٌ لهدفٍ أسمى وأفضل. كانَت قِمَّةُ ذُلِّ حال المسيح في آلامه وصلبِه. لقد ذاق الإهانات والعذاب فالألم ما لم يحدث ولن يتكرر مع غيره. وكان الألم النفسي أقسى من أوجاع الجسد. انتَ تُحِّبُ، ومن تُحِّبُه يصلبك كمجرم ويبصقُ في وجهكَ كفاسد ويتجَّنبُكَ كنَجِسٍ. لكن المسيح دعا زمن وقوع هذه المآسي بـ ” ساعة المجد” ورَحَّب بها بكل هدوءٍ :” أتت الساعة التي فيها يُمَّجدُ إينُ الأنسان” (يو12: 23). لقد ذُلَّ الأنسان يوم طُردَ من الجنة بسبب خطيئتِه. هذا الأنسان سيدفع فدية الخطيئة بطاعته لله ونكران ذاتِه وتكفيره فيموت على الصليب. لكنه سيقوم حَّيًا مُنتصرًا مُستعيدًا مجدَه الأول وصداقته مع الله. وسيقول مار بولس ” إنَّ آلام هذا الدهر لا يُقاس بالمجد المزمع ان يتجَّلى فينا” (رم 8: 18). وبهذا يُؤكدُ بولس لأهل فيلبي أنَّ تلاشي المسيح كشفَ قدرة الله ومحَّبته العظيمة إذ عالج الشر بالدواء الناجع، وأكَّـدَ أنَّ تضحياتِهم في جهادهم لن تزول سُدًى، بل سيعقبها المجد مع المسيح.