الأحــد الرابع للدنـح !

للعلم : هذا الأحد لا يُصَّلى هذه السنة بسبب تقَّدُمِ عيد القيامة نحو شهر آذار و وقوع عيد الدنح في بداية الأسبوع، وشهر شباط كبيس بـ 29 يومًا. تقعُ عادةً بين الدنح والقيامة ، في الوضع المثالي، أربعة عشر أحدًا. ويُتركُ من سابوع الدنح، في بعض السنين، ثلاثة أحاد كما حصل سنة 2008م. في تلك السنة وقع عيد الدنح يوم أحد، وكانت السنة كبيسة ، و وقعت القيامة في 8 نيسان. فحصلت عشرة آحاد فقط بين الدنح والقيامة. فلم يُصَّلَ الآحاد الثاني والثالث والرابع من الدنح، وآعتُبرَ 6/ 1 عيدًا وأولَّ أحدٍ للدنح.

تتلى علينا اليوم القراءات : عدد11: 23-35 ؛ { اش46: 5-13 } عب7: 18-28 ؛ يو1: 43 – 2: 11

القراءة : عدد 11 : 23 – 35

يُظهرُ الله جبروتَه لموسى والشعب لمَّا تذمروا عن قلَّة الطعام الدسم. وأرسلَ لهم من البحرِ سلوًى فأكلوا بشهوةٍ ولذَّة حتى الشَبَع.

القراءة البديلة : إشَعْيا 46 : 5 – 13 :– يلومُ اللهُ الشعبَ إذ يميلُ إلى عبادةِ الآلهةِ الوثنية التي هي أصنامٌ جامدة وعاجزة بدون حياة، في حين هو الألَهُ الحَّق و الحَّي القدير، والذي يهتَّمُ بالأنسان ويُساعِدُه ويُوَّجِهُهُ ويُحَّققُ له كلَّ ما وعدَ به.

الرسالة : عبرانيين 7 : 18 – 28

يسوعُ كاهنٌ ، لا من صُنع البشر، بل موجودٌ من الأزل وكهنوته يدوم للأبد والوسيطُ الوحيد في خلاص الأنسان. يسوعُ حّيٌّ وقديرٌ وقدّوسٌ وبارٌ وكـامل.

الأنجيل : يوحنا 1 : 43 – 2 : 11

اللقاءُ الأول ليسوع بفيلبُّس ونثنائيل الذي ينبهرُ بعلم يسوع ويؤمنُ بأنه المسيح، ثم يُخبرُ يوحنا عن أولى معجزةٍ ليسوع أجراها في قانا إِستجابةً لطلب أُمِّهِ مريم، لأجل سعادةِ أهل العُرس وإيمان تلاميذه.

أبعـادُ مُعجزة قانا !

أجرى يسوعُ أولى معجزاتِه في عرس قانا بناءًا على طلب مريم أُمِّه. وحبك الأنجيليُّ الخبر في تعابيرَ كتابية لها دلالاتُها الخاصّة، مُضيئًا عِلَّةَ إجرائِها ومُثَّبِتًا الهدفَ المنشود والنتيجةَ المحصودة. وهدفُ الكاتبِ أن يكشفَ للقاريءِ وجهَ يسوع الناصري، أنَّه المسيحُ الموعود، وأنَّ لأُمِّه دورًا في رسالته الخلاصية، ولتلاميذه مُهِّمةَ الشهادةِ له عند متابعة رسالته.

اليومُ الثالث .. !

الثالث بعد عماد يسوع. إلتقى يسوع في اليومين الأولين بمجموعة من تلاميذ المعمدان ، الذين سيُصبحون رُسُله المُقَّرَبين ومعاونيه في العمل الذي إنتدبَه اللهُ إليه، والذي سيستلمونه ويُتابعونه من بعدِه. ولكن لليوم الثالث معنًى أبعدَ وأعمقَ من هذا في حياةِ يسوع . لقد تخَّلفَ عن ذويه في الهيكل ثلاثة أيام (لو2: 46)؛ ولازمته الجماهيرُـ أكثرَ من أربعة آلافِ !ـ ثلاثة أيّام فأشبَعها بسبعةِ رغائف خبز(متى15: 32)؛ و يواصلُ عملَه ” اليومَ وغدًا و في اليوم الثالث يتمُّ بي كلُّ شيء (قصدُه ثلاث سنين التبشير)، فعَليَّ أن أسيرَ اليومَ وغدًا واليوم الذي بعدَهما..”(لو13: 32-33)؛ وفي اليوم الثالث بعدَ عماده أو مِن بدء كِرازتِه تكتملُ رسالتُه، سيُقتَل لكنَّه سيبني هيكلَ جسده في ثلاثةِ أيام (يو2: 19؛متى26: 61؛ 27: 40)، لأنه سيقومُ من بين الأموات في اليوم الثالث (متى16: 21؛ 17: 23؛ 20: 19).

فاليوم يرمزُ الى الزمن. لقد دخلَ اللهُ زمن البشر. يعملُ بينهم ومعهم. ولزمن الله مع الناس مركزٌ. ويُرَّكزُ يوحنا على القيامة على أنَّها مبدأُ الخلاص ونقطةُ الأِشعاع (يو2: 22؛ 7: 39)، لذا يربطُ بدءَ رسالةِ يسوع بالقيامة، وكأنَّ القيامة بدأت من هنا. فأولُ فعلٍ في حياتِه وآخرُهُ هو إعلانُ مجدِه الألهي ليعرفَه الناس ويؤمنوا به، ويَضمنوا لأنفسِهم الحياةَ الأبدية. وهذه هي الأُمنية التي يختمُ بها يوحنا إنجيلَه (يو20: 31).

كان عُرسٌ ..!

والعرسُ فرحٌ وآبتهاج، راحةٌ وهناء. وقد خلقَ اللهُ الأنسان للفرح والراحة. خلقه في الجَـنَّة ، فردوس أحلام كلِّ إنسان. كان الأنسانُ فيها بلا هَّمٍ ولا غَّم، بلا وجعٍ ولا قلق، بلا كَّدٍ ولا تعبٍ ولاشقاء. خسَرَها بجهلِه وبسبب إنغوائِه. لكنَّ اللهَ لم يتنازل عن مشروعِه ، ولم يُهْمِلْه. وقد إستعملَ اللهُ على لسان الأنبياء كلمةَ ” العرس” أو الزواج ليَدُّلَ به على علاقتِه بالأنسان وتصميمِه على إسعادِه وإراحتِه من كابوس الخطيئة الذي أثقلَ عليه طويلاً. يكتُبُ إِشَعْيا ” إنَّ زوجَكِ خالقَكِ (أورشليم/ الشعب المختار).. دعاكِ كعانِسٍ مهجورةٍ محزونةِ الروح، كأُنثى هُجِرَتْ في صِباها، وقال: هَجَرْتُكِ لحظةً، وبرحمةٍ فائقةٍ أَضُّمُكِ. في هيجانِ غضَبٍ حجبتُ وجهي عنكِ قليلا، وبرأفةٍ أبدية أَرحَمُكِ ..” (اش54: 5-8). ويكتبُ هوشَع عن فم الله :”.. فما هي إمرأتي ولا أنا رجُلُها لتُزيحَ زناها عن وجهِها.. سأُسَّيِجُ طريقَها بالشوك .. وأُعاقِبُها على سوئِها..” ويُضيف ” سأَجيءُ بها.. وأُخاطبُ قلبَها.. في ذلك اليوم أقولُ أنا الرَّب، تدعوني زوجي.. وأقطعُ لها عهدًا.. وأتزَّوَجُكِ إلى الأبد. أتزَّوجُكِ بالصِدقِ والعدل، والرأفةِ والرحمة. أتزَّوجُكِ بكلِّ أمانةٍ فتعرفين أَني أنا الرَّب ” (هو2: 4-22).

لقد شَبَّه يسوعُ نفسُه ملكوتَ الله بوليمةِ عرسٍ دعا إليها البشرية جمعاء (متى22: 3-12). كما سيُشَّبِهُ الرسول بدورِه علاقةَ اللهِ بالأنسان بعلاقةِ الرجل بآمرأَتِه من خلالِ عرس، و علاقةٍ مبنيَّةٍ على المحَّبة والبذل والثقة والطاعة (أف5: 22-32). وعلاقةٍ ينتُجُ عنها الفرحُ والهناءُ والراحةُ والسعادة.

هكذا يبدأُ يسوعُ رسالتَه بعملٍ مُفرِحٍ، وفي أجواءٍ كلُّها إبتهاجٌ و هناء، ليَدُّلَ على أنَّ الخليقةَ الجديدة أيضًا تبدأُ في فردوسٍ كما في البدء. هناكَ وجدَ الأنسان نفسَه مزروعًا في جَنَّة، تتوَّفرُ لهُ كلُّ وسائلِ الراحةِ دون أن يكون له في ذلك إرادةٌ أو حتى ولا دورٌ. كان عليه أن ينهلَ فقط من تلك الحياة السعيدة. أمَّا هنا فالأنسانُ نفسُه يبحثُ عن توفير راحتِه ويشتركُ في ضمان مستلزماتِها :”إملأوا الأجاجين ماءًا”. لكنه لا يقدر أن يوفيَ كلَّ حاجاتِه. سيَنقُصُه هنا الخمرُ. والخمرةُ التي يصنعُها الأنسان لا تصلُ إلى جودةِ خمرةِ الله. إنَّ عملَ اللهِ أصيلٌ وخمرتُه أجوَدُ ما تكون:” لقد أَخَّرتَ الخمرةَ الجيِّدة إلى الآن”. يريدُ الله السعادةَ للأنسان و يضمنُها له ، بشرط إنْ يُصغيَ إليه ويُطيعَه :” إِفعَلوا كلَّ ما يأمُرُكم به “. لا تناقشوه. لا تُعارضوه، ثقوا به، إسألوه ونَّفِذوا أمرَه. يريدُ يسوع أن يفرحَ المؤمنون به في ملكوتِه. يوَّفرُ لهم ، كما في الفردوس ، كلَّ الخيرات التي أخبر عنها الأنبياء ، ” القمحَ و الخمرَ والزيتَ ” (هو2: 24)؛ بكثرةٍ ومجّانًا :” تعالوا.. أُطلبوا خمرًا ولَبَنًا مجَّانًا.. إِسمعوا لي وكُلوا الطَّيِبات وتلَّذذوا في طعامكم بالدسم ..” (اش55: 1-2). وفي قانا حوَّلَ يسوعُ الماءَ خمرًا وبكثرة، سِت أجاجين !، كما سيُكَّثرُ الخبز ويُشَّبعُ آلافًا وآلاف (متى14: 14-21؛ 15: 32-38). هكذا بدأَت مع قانا وليمةُ المسيح، عُرسُه مع الكنيسة (المؤمنين به ).

ما لي ولكِ يا آمرأة ؟

ولكن قبل تلبية طلب مريم وأثناء الحوار معها كُنَّا نتوَّقعُ أن يُناديَ يسوعُ مريم بـ ” أُمّي”، كما يفعلُ كلُّ إنسانٍ مُهَّذَب. ونستغربُ أنَّه سَمَّاها ” يا آمرأة “!. لو كان دعاها ” مريم” لكنا سكتنا لأنَّ كثيرين ينادون أُمَّهاتِهم بأسمائهن نتيجة وضع الأُسرة. أمَّا أن يدعوها ” يا آمرأة” فيثقلُ السمعُ علينا. يبدو من سياق الخبر أنَّ مريم دُعيت إلى العرس على إنفراد لا مع إبنِها. ويسوع قد إنفصلَ وآستقَّلَ عنها وآنضَّمَ إلى تلاميذه. لقد تكَرَّسَ كلّيًا لمهّمته. وقد سبق وفعلَ ذلك مرَّةً أُخرى، وعمرُه إثنتا عشرة سنة، تخَّلفَ عن والديه دون علمهما. ولمَّا قلقا عليه و عند وَجَدانِه ومعاتبته ردَّ عليهما: ” لمَ بحَثْتما عّني؟. أ لمْ تعلما أنَّه يجبُ عليَّ أن أكون عند أبي” ؟ (لو2: 19). رُبَّما نأخذُ ردَّ يسوع محملَ الجد ونعتبرُ أنَّه لمْ يبقَ له معها علاقة فلا تتدَّخل في شؤونه. أو ربما نفَّكرأنَّه عنى” ماذا عليَّ أن أفعل أنا وماذا عليكِ أن تفعلين”؟. لم يُسَّجلْ يوحنا تفاصيل الحوار، لم يكن مهّمًا فآكتفى بالتنويه إليه. عرفَ يسوع أنَّ نوايا أمِّه مريم لم تكن، كما قد يُخَّمنُها البعض، إنحيازية ومصلحية بسبب علاقتها بالعريس. عرفَ أنَّها نوت، ما لم يعرفه غيرُها ، أن تُكَّملَ فقط دورَها كمعاونة له في إتمام رسالتِه ، لذا لم تنتظر قرارَه العلني بل طلبت حالاً من الخَدَم أن يُنَّفذوا أوامرَه دون آعتراض أو جدال. وقصدَ يسوع بعبارته ” يا آمرأة ” أن يكشفَ ، ولو قليلا ، سِرَّها ودورَها معه.

نرى فعلاً في التركيز على إنجيل يوحنا أنَّه إستعملَ هذه العبارة عند بدءِ رسالته هنا، وفي نهايتها وهو يُنازعُ على الصليب (يو19: 25). وكما إنَّ يومَه ” الثالث” مرتبطٌ بالقيامة ، هكذا علاقته بأُمه أو علاقتُها به مرتبطة بالقيامة أيضًا، وبآختصار بمُهّمتِه الخلاصية. هي معه من البداية وحتى النهاية. وهي معه أكثر من أُم. فحتى نفهمَ البُعدَ الحقيقي لكلمة ” يا آمرأة ” يجب أن نعودَ إلى بدءِ الخليقة. بدأَ يوحنا إنجيلَه كما إبتدأَ السفرُ الأول من الكتابِ المقدس: ” في البدء خلق الله ..”(تك1: 1)ــ “في البدءِ كان الكلمة” (يو1: 1). وقرأَ في الفصل الثاني أنَّ الله صنعَ مُعينةً لآدم. لن يخلق إنسانة جديدة. بل فصلَ الأٌنوثة من الذكورة داخل الأنسان الواحد نفسِه، فأخرجَ المرأة من الرجل، فأصبح الأنسانُ الواحد جزءَين: آدم وحوّاء. فدعا آدمُ أُنثاه ” امرأة ” لأنها اُخذت من إمرئ (تك2: 18-23). وليسا إثنين بل هُما إنسانٌ واحد (متى19: 5). وكلاهما معًا تمَّرَدا، بفعل واحد، على الله. وسجَّل يوحنا بالفصلِ الثاني أولَّ فعلٍ مشترك بين مريم ويسوع، وفي كلا الخبرين الأنثى بادرت الى الفعل. وفي النصَّين دُعيَت الأُنثى ” امرأة “. فيسوع هو” الإمريء” ومريم هي ” المرأة “. هنا رأى الأنجيلي يسوع الأبنَ وأُمَّه. آدم مدَّدَ الناسوت الى حواء، ومريم مدَّدت الناسوت إلى يسوع. فمريم هي أكثر من أم. إنها حواء الجديدة معينة آدم الجديد، يطيعان كلاهما معا لله، فلا يبحثان عن راحتهما بل يعملان معا من أجل راحة الآخرين. وسيُعَّبر مار بولس عن هذا بطريقته فيقول:” كما أنَّ زلَّة إنسانٍ واحد ـ آدم وحواء ـ جرَّت الهلاك على جميع الناس، كذلك بِرُّ إنسان واحد ـ يسوع ومريم ـ يأتي جميعَ الناس بالبر الذي يهَبُ الحياة” (رم 5: 18). فمريم تُشَّكلُ مع يسوع ” الأنسان الواحد الكامل مُمَّثلَ البشرية كلَّها ” الذي أطاع الله. وهكذا تكون مريم مع يسوع المرأة التي أعطت “الإمرِئ”، وتعاونت معه في خلاص الأنسانية. فلخلاص البشرية إشتركت بحمل الإمرئ يسوع. ولهذا تدعوها الكنيسة مريمَ ” الشريكة في الفداء”. لهذا لم يدعُها يسوع ” أُمّي” لئلا يحسبَ الناس أنَّها تتوَّسط عنده عن محسوبية. بل دعاها ” يا امرأة ” لنفهمَ أنها تُؤَّدي دورها كشريكة في الأهتمام بالأنسانية التي من أجل خلاصِها تجَسَّد الله وأخذ من مريم ناسوته لأنها تعاونت مع خطة الله. وإذ قال لها ” ما لي ولكِ” كأنَّه يقول بأية صفةٍ تخاطبيني؟ هل كأم أم كمعينتي في مُهَّمتي”. فدورُها كأُم شبهُ مُنتهٍ لأنه لا يحتاجها كإِبِن، بل كمُخَّلِص. وأُمُّه وإخوتُه هم الذين يسمعون كلام الله و يحفظونه (متى12: 49-50؛ لو8: 21). أمَّا دورها كمعينة فبدأ تَـوًّا من قانا، وسيستمِرُّ الى موت المسيح على الصليب. بل سيتعَّداه إلى ما لا نهاية لأنَّ يسوع يبقى حَيًّا في جسده السِرّي/ الكنيسة، وستبقى مريم أُمًّا حتى لهذا الجسد ” يا آمرأة هوذا إبنكِ ” (يو19: 22) ، لتُعينَه وتواصل تعاونها مع المسيح عبر الأجيال. وتكون لذلك وبحَّق” أُمًّا للكنيسة “. تبقى متَّحدَةً بآبنها روحيًا وتواصلُ العمل معه، من السماء، لأغاثةِ المؤمنين المعوَّزين والمتألمين والمتضايقين.

ويكون بهذا قد سَجَّل يوحنا تأكيدًا قوّيًا لا مثيلَ له لكرامةِ المرأة ودورها كمعينةٍ للرجل، في كلِّ مجالات بناء الحياة الألهية على الأرض، وليس كخادمةٍ أو آلةِ إستمتاع. إنَّها تشَّكلُ معه ” إنسانًا واحدًا “. هذا ما سيُؤَّكدُه يسوع عند كلامه عن المتزوجين (متى19: 6). وقد سجَّلَ الأنجيليون مواقف عديدة ليسوع يعترفُ فيها بكرامة المرأة، حتى الخاطئة، فيدعو بعض النساء ” يا امرأة” ، منها الزانية (يو8: 7) والسامرية (يو4: 21) والكنعانية (متى15: 28) والقوساء (لو13: 12).

لم تأتِ ساعتي بعدُ .. !

مع يا “آمرأة ” سجَّلَ يوحنا هذا الجواب. ولأول وهلة نتصَّورُ وكأنَّهُ رفضٌ لطلبِ مريم. و لكنَّه سرعانَ ما يُلَّبي الطلب بعدَ أن هيَّأت له مريم الجَّو، وفتحت الطريق أمام المعجزات. لقد قدَّمت له العون المطلوب، وأعطت حتى التعليمات للخَدَم. ماذا عنى إذًا بأنَّ ساعتَه لم تأتِ بعدُ؟. وأيًّا هي تلك الساعة؟. نحتاج هنا أن ننتقل الى الفصول الأخيرة من إنجيل يوحنا ، التي تُخبرنا بأحداثِ أيام يسوع الأخيرة بعد أن قرَّر الرؤساءُ قتله والتخَّلُصَ منه (يو11: 53؛ 21: 10). عندئذٍ يُصَّرحُ يسوع بأنَّ ” ساعته” قد أتت، ويُضيفُ ” التي فيها يتمَّجدُ إبنُ الأنسان” (يو12: 23). ساعةُ يسوع هي إذًا ساعة مجده في إنهاءِ مهمته بآنتصار. ومجدُ يسوع أن يعترفَ به الناس إلَهًا مخَّلِصًا ويقبلوا تعليمه. فالساعة هي عندما يتبَّينُ لاهوت يسوع بقوَّة بحيث لا أحد يقدر أن ينكرَه. فساعتُه هي عندما تأخذُ كلُّ أعمالِه بُعدَها الحقيقي ويعترفُ به الناسُ أنَّه وحدَه بدون خطيئة “يو8: 46؛ متى26: 59-60)، وحدَه أرضى الله (متى17: 5)، وأنَّ هذا ” فكان حَّقًـا إبنَ الله” (متى27: 54). يبدو يسوع لحظة وكأنه يستثقلُ تلكَ الساعة لأنَّها مؤلمة، فيسأل الله:” يا أبتِ، نجَّني من تلك الساعة”. إنَّها ساعة قلقٍ وألم وضيق وشِدّة. سبقَ وأنبأَ عن أنَّه سيتعَّذب كثيرًا على أيدي القادة، سيقتلونه. مع أنَّه لمَّا عرفَ بقرارهم هذا تهللَّ فرحًا وسماها ساعة المجد. وآستطرد فقال:” لكني ما أتيتُ إلا لأجل تلك الساعة” (يو12: 27). وسيقول في بستان الزيتون” إن كان ممكنًا أن تعبرَ هذه الكأس. ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك “(متى26: 39). مجدُه أن يشرب كأس تلك الساعة بمُرِّها ومجازاتها. إنَّها ساعة إنتهاءِ حياته الأرضية لينتقلً الى الآب (يو13: 1) ويتمجَّدَ معه” بالمجد الذي كان له عنده قبل أن يكون العالم” (يو17: 5). ولمَّا إنطلقَ يهوذا لتسليمه قال يسوع :” الآن تمجَّدَ إبنُ الأنسان.. وسيُمَّجدُه اللهُ في ذاتِه بعد قليل” (يو13: 31). وأنهى يسوع كلامه عن ساعته في صلاته الأخيرة بسؤاله الآب: ” يا أبتِ، قد أتت الساعةُ. مَجِّدْ إبنَكَ لكي يُمَجِدَّكَ إبنُك” (يو17: 1)، بما معناه أنَّ مجدَ الآب والأبن واحدٌ.فالأبنُ هو الله مثل الآب. و” من رأى الأبنَ رأى الآب” (يو14: 9) لأنَّ كليهما واحد (يو10: 30).

فلمَّا قال يسوع في قانا أنَّ ساعته لم تأتِ بعدُ عنى أنَّه ليس الآن وقتُ إعلان لاهوتِه، أي لن يكون لعمله الأعجازي مفعولٌ عظيم بحيثُ يكتشفُ المجتمع أنَّه الله. سيبقى تأثيرُ المُعجزة محدودًا. لن يعرفَ بالأمرغيرُ أُمَّه والخدَم الذين إستقوا الماءَ وملأُوا الأجاجين ثمَّ سقوا منها خمرًا، وتلاميذُه الذين إنشَّدوا إليه لأنَّ المعجزة أكَّدت لهم هويتَه المسيحانية. وآستبَقَ يسوع ساعة مجدِه في موته وقيامته، ليُثَّبتَ التلاميذَ في إيمانهم به، ” وآمن به تلاميذُه”. ولكي يفتح الطريق أمام كِرازتِه فلا يصُّدُه عنها لا أعداؤُه ولا تلاميذُه بحجَّة التمَسُّك بالتقاليد. سيكون إخلاصُ تلاميذه له وإيمانُ بقيَّةٍ قليلة من الناس خيرَ دعمٍ لساعةِ مجدِه الكبرى الأصيلة. و لأنَّ ساعة مجده العُظمى كانت ستكون، في بدايتها، محنةً قاسية للتلاميذ أظهرَ لهم يسوع، من الآن مجدَه الألهي، الذي سيدعمه بتجَّليه، ليبقوا إلى جانبه رغم تخاذلهم وآنهزامهم من أمام الموت. إذًا من قانا يظهرُ مجدُ يسوع الناصري لتلاميذه. وسيسندُ هذا المجدُ مسيرتهم المغامراتية. وإيمانهم بمسيحانية يسوع سيتكَّللُ بالقيامة ويكتملُ بإيمانهم بلاهوته :” رَّبي و إلهي” (يو20: 28). في قانا إذًا يتأكدُ التلاميذ أن يسوع هو المسيح، وفي القيامة أنَّه الله. فآيةُ قانا، سُوَيعَتُها، عَبَّدتِ الطريقَ للرسل إلى القبول بساعة آلام الصلب، وبساعة ألامهم.

وســاعتُنا نحنُ ؟

لقد إعترفَ الرسلُ والمسيحيون الأوائل بأنَّ ساعةَ مجدِ يسوع حَدَّدتْ لهم أيضًا ساعةً فيها يتمَجَّدون. وتلك الساعة هي عندما يُحرَجون في إيمانهم وأخلاقِهم لا يضعفون بل يشهدون ليسوع ولا ينكرونه ولا يعارضون تعليمه حتى لو كلَّفهم ذلك آلامًا وتضحيات، بل الموتَ نفسَه. ساعتهم عندما يُعلنون بشارة الأنجيل بإيمان وحماس ويلتزمون بمحتواها. ساعتهم عندما يقاومون الكذب والأنانية والنفاق ويحيون في المحبة والتآخي والحوار والسلام، و يستعملون الغفران وقبول الآخرين دربًا لبناءِ مجتمعٍ بشري يعيشُ في حضورِالله، وبقُـوَّةِ كلمتِه. وساعتنا أن نتعَّلمَ من شهود يسوع ونقتديَ بهم فنشهدَ ليسوع في عصرِنا بحياتنا ونُبَّلغَ العالم رسالة الحب والإخاء.