للعلم : هذا الأحد يُصَّلى لزامًا قبل ثلاثة أسابيع من الصوم. تتبعهُ الباعوثة مباشرةً. يليها أحدان ثم يبدأ الصوم. تبَعًا لذلك، وللتنسيق مع القيامة، تُهملُ آحادٌ قبله مثل هذه السنة ، أو يُقدَّم الأحدُ السادس للدنح على الخامس، ويُصَّلى الأحد الثامن للدنح، ذلك عندما تتأخر القيامة، كما حصل سنة 2019 ، ووقعت في 21 نيسان.
تتلى علينا اليوم القراءات : تث18: 9-22 ؛ { اش48: 12-20 } عب6: 9-19 ؛ يو3: 1-21
القـراءة : تثنية 18 : 9 – 22: يُحَذِّرُ اللهُ الشعبَ الأقتداءَ بالوثنيين في إيمانهم وأخلاقِهم. ويتنَّبَأُ موسى فيُخبرُ عن مجيء قائدٍ آخر أعظمَ منه هو المسيح الذي يُعَّلمُ الحَقَّ ويُخَّلِصُهم، له يجبُ الخضوع.
القراءة البديلة: اشعيا 48 : 12 – 20 :– إنَّ عدوى عبادةِ الأصنام تصيبُ شعبَ الله. يُذَكِّرُه اللهُ بأنَّه هو خالقُهم وهو وحدَه مُنقِذُهم لأنه يمتلكُ الحًّق ويُنَّفذُ ما يُريد. وهو الذي يُرشِدُه إلى سبيل حياة الراحة.
الرسالة : عبرانيين 6 : 9 – 19 :– يُشَّجعُ الرسولُ المؤمنينَ على الثباتِ في الخدمةِ والرجاء. لقد وعد الله بالبركة وهو صادقٌ أمين لا يكذبُ ولا يُخالِفُ وعودَه.
الأنجيل : يوحنا 3 : 1 – 21 :– يستقبلُ يسوعُ نيقوديمُسَ ويُحَّدِثُه عن الولادة الجديدة الروحية الضرورية للخلاص بالمعمودية. الله هو الحياة، وهو روح. ومن يريدُ الحياة عليه أن يُفَّكرَ مثل الله ويتبَّنى أُسلوبَه في حياته العملية.
الولادة الثانية من الماءِ والروح !
لمَّا وَلَدَ آدمُ حوّاءَ أعطاها ما كان له : الأنسانية. ومثله يُعطي الأبَوان لأبنائِهم تلك الحياة الأنسانية التي نفَخَها اللهُ فيهما. كانا وما يزالان صورةً له يتمَّتعان بروحٍ ناطقة، حُرَّة، و خالدة. لكنَّ تلكَ الروحَ مُغَّلَفةٌ بالجسد المادّي، وتُمارسُ حياتها ونشاطَها عبرَالحواس: المادية بكيانها والروحية بفعلها. علاوةً على ذلك خضَعَ الأنسانُ لآختبارٍ ربَّما لم يكُن قادرًا على التغَّلبِ عليه، لآنعِدامِ خِبرَتِه ولوجودِ قُوَّةٍ خفية شِرِّيرةٍ دفعَتْه إلى التعامل مع الأشياء، ومع غيرِه، إنطلاقًا من حَوَّاسِه لا من فكرِه. فخرجَ الأنسان عن الطريقِ السوي ليغرَقَ في المادّيات الحِسّياتِ غيرَ مُنتَبِهٍ إلى، ولا مُهتَّمٍ كثيرًا بالفكريات الروحانيات، أي بما هو”فوقَ” الجسدِ والحِّس.
الحــياة الروحـية !
وها هو يسوعُ يُطالبُ اليومَ مُحاورَه بضرورةِ الإرتفاعِ إلى” فوق” من حيثُ نالَ نسمةَ الحياة. لا يليقُ بالأنسان أن يستمِّرَ بعدُ ويزحَفَ في” الأسفَل”. ولا يُحَّقِقُ ذلكَ لا حياته ولا سعادتَه. لا يكفي الأنسانَ أن يولَدَ فقط بالجسد من والديه البشريين. لأنَّ والديه بالذات لا يملكان الحياةَ من ذاتِهم. لقد نالوها من” فوق”، من الله. فالحياةُ الحقيقية إذًا تكون تلكَ التي تجري، بواسطةِ الحواس، في جدولها الأصلي الألهي. تكون حياةً حَقّة إذا صَوَّرَ الأنسانُ فأشَّعَ في أعماله المادية حياةَ الله الروحية، وعاشَ ما يعيشُه الله. اللهُ لا يأكُلْ ولا يشربُ ولا يلبسُ ولا يسكنُ دارًا محْدودة. الله هو المحبة. الله هو الحَّق. فعلى الأنسان أن يكون شُعاعًا من حُّبٍ وحق. بعيشِهما يكتملُ الأنسانُ ويُحَقِّقُ هدَفَه.
لماذا تلزَمُ الحياةِ الروحية ؟
لمَّا يولَدُ الأنسان بالجسد ينالُ كلَّ ما يلزمُ حياةَ الجسد ويتعَّلمُ من والديهِ كيفَ يتصَّرفُ حتى يُحَقِّقَ الحاجات الجسدية والزمنية. بالمُقابِل، وبما أنَّ اللهَ مصدرُ حياتِه، يحتاجُ ‘لى ولادةٍ روحية، فكرية وخُلُقية، من اللهِ نفسِه حتى لا يفقُدَ توازنَه الجسدي والروحي ولا يخسِرَ بُعدًا من حياتِه بالتركيزِ على البُعدِ الآخر. فلا تتغَّلبُ المادّيات على الروحانيات ، خاصَّةً وأنَّ المادياتِ زائلةٌ، وما يبقى للأبد هو ما يأتي من الله، الحَّق والمحبة: ” لا يَهُّمُكم للعيشِ ما تأكلون، ولا للجسدِ ما تلبسون. إنَّ الحياةَ أثمنُ من الطعام، والجسد من اللباس” (لو12: 23؛ متى6: 25). وتمَّشيًا مع هذا المبدأ قال الله: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا في الأرضِ .. بل إكنِزوا لأنفسِكم كنوزًا في السماء..” (متى6: 19-20). وحَذَّرَ الرَّبُ من الوقوعِ في شِباكِ الحاجاتِ والثروات المادّية وإهمالِ الروحية :” حَذارِ وإيَّاكم كلَّ طمعٍ، لأنَّ حياةَ المرءِ، وإِنْ أيسَر، لا تضمنُها أَموالُه”، مُضيفًا قولَه للغني” يا جاهِل ! في هذه الليلة تُسْترَّدُ نفسُكَ منكَ. فلِمَن يكونُ ما أَعدَدْتَه؟. هكذا يكون مصيرُ من يجمعُ لنفسِه ولا يُغنَى بالله ” (لو12: 15-21).
لا تُـنالُ الحياةُ الروحية بالجسد !
لقد توَّهمَ نيقوديمُس بما قصَدَه يسوع. لنقُلْ لم يفهم ما قصَدَه بقولِه: ” يجب أو تولدوا ثانيةً “. ظلَّ يحسبُ الأمر ويستوعبُه بالجسد ، عن طريق الحواس. لم يُسَّلطْ ضوءَ الروح والأيمان على تفكيره ليفهم مقصَدَ يسوع. وفعلاً لا يمكن لأنسانٍ مولود من زمان أن يرجعَ الى بطن الأم و يُصبحَ جنينًا ويولد ثانيةً. يستحيل هذا نظرًا الى الجسد. تمامًا كما كان يستحيلُ أن يفهمَ آدم أنَّ ثمرةُ الشجر” الطيِّبةِ للمأكل،والشهيَّةِ للعين، والباعثة للفهم” (تك3: 69) تكون سَيِّئةً تُسَّببُ موت الأنسان. كما أيضًا لم يتوَّقعا أن ينظرا إلى أجسادِهما بنوعٍ مختلف. كانا يُلاحظان عُريَ جسدِهما دون شهوةٍ حِسّية. لكنَّ ما تعَّلماهُ بعدَ السقوط كان مُختلِفًا ، ولم يتوَّصلا إلى معرفتِه بالحواس. ولو علما به لما خالفا إرادةَ الله. وحتى يتخَّلصا من ذلك ” العمى” الحِسّي ، أو بالحري حتى يرى المرءُ الأمورَ بالفكرِ والروح قبلَ الحواس، عليه أن يَقبلَ ولادةً جديدة روحية من الله نفسِه، ليستطيعَ أن يتعامل مع الحياة كما يتعاملُ معها اللهُ أوَّلاً، ثمَّ كما يحتاجُها الجسد.
المعمــودية !
لقد أرشَدَ الله الأنسان إلى طريقةِ الحصول على تلك الحياة الروحية الآتية من الله وهي: أن يولدَ ثانيةً، ومن إرادة الله مباشرة. وبما أنَّ اللهَ روح وكلُّ أموره تتم روحيًا فقد أرشَدَ إلى كيفية إجراء الولادة الثانية، وهي : بالماء (توبةِ الأنسان )، وبالروح (غفران الله).
1- المـــاء !
الماء مادَّةٌ مُطَّهِرة بالإضافة الى مغاعيلها الأخرى، منها قُدرتُها على إبادةِ الحياة نفسِها. فهي تُغرقُ من يقعُ فيها، وبالغرق تنتهي حياةٌ كانت قائمةً. ففي مياه المعمودية يغرقُ الأنسان الخاطيء، نسلُ الأنسان الخاطيء، ويزول معه الشر والخطيئة المتلَّبس بها، كما مات يسوع على الصليب بسبب الخطيئة فأماتها معه. ثم لما قام، قام شخصًا جديدًا بارًّا و مُمَّجَدًا. يحدث مثلهُ للمُعتمِد: تزولُ حالته الخاطئة القائمة (تغتسل!)، وتفسحُ المجال لحياةٍ جديدة بارة تأخذ مكانَ الأولى. يقول مار بولس :” أما تعلمون أننا حين تعَّمدنا لنتَّحِدَ مع المسيح يسوع، تعمدنا لنموت معه، فدُفِنَّا معه بالمعمودية، وشاركناه في موته، حتى .. نسلك نحن أيضًا في حياةٍ جديدة”؟ (رم6: 4). وهكذا ترمز المعمودية الى توبةِ قابلها وموته عن الخطيئة التي سقط فيها وهو ذَرَّةٌ في أبيه الأول الخاطيء، وتطهيره منها. ولما أفرغ ذاتَه منها أصبح قادرًا على إملاءِ ذاته ببديلٍ جديد. وفي هذا الجديد يقدر المُعَّمَدُ أن يتصَّرف بشكل أفضل يرضى عنه الله. وهذا الغسلُ بالماء المُطَّهِر أشارت إليه مياهُ الطوفان التي أغرقت الخطأة الأشرار من جهة، ومن أخرى غسلت وأنقذت الأبرار(1بط3: 20-21). فالماءُ إذًا رمزٌ لتطهير الأنسان، بقوَّة الله، من الشر الذي أصابه منذُ البدء. لا علاقة للماء بالخطيئة. يبقى الماءُ رمزًا فقط للتوبة التي تُهَّييءُ للتنقية الروحية التي يجريها الله قابلاً توبة الخاطيء. هكذا قال يوحنا المعمدان :” أنا أُعَّمدُكم في الماء من أجل التوبة “. أما الغفران فبيد الروح الذي يُعطيه المسيح الآتي بعدَه (متى3: 11). ويسوع دخل الماء معترفًا بخطيئة الأنسانية ونادمًا عليها وتائبًا عنها بآسم البشرية و فاتحًا الطريق أما توبة شخصية لكل إنسان.
2- الــروح !
كان الرسُل في البدايةِ جهلة وخَوّافين يعترضون على كلام يسوع وتصَّرفاتِه. لم يستسيغوها لأنها لا تطابق فكرهم وعاداتهم وما يفعله كلُّ الناس. كانوا ما يزالون تحت نفوذ الخطيئة. يوم صعوده أخبرهم :” أمَّا أنتم فتُعَّمَدون في الروح القدس بعد أيام قليلة ” (أع1: 5). سبق يوحنا فأخبر أن يسوع ” الآتي بعدهُ يعَّمد في الروح القدس والنار”(متى3: 11). نار الروح القدس تُحرقُ الخطيئة مثل الزؤان (متى13: 30) وتُحِّلُ عوَضَها القداسة والمعرفة. وحلَّ الروح على الرسل بشكل ألسنة من نار.. وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم (أع2: 3-4). لقد تغَيَّرَ وضعُهم وصاروا يرون الأمور بمنظار الله ويقوون على ما كانوا غير قادرين عليه. حدث إنقلابٌ جذري في حياتهم : فكرهم وسلوكهم. لقد تحرَّروا من ظلام الخطيئة و نيرها وسيفها. وآمتلأوا من روح الله، روح القداسة والمعرفة والقدرة. إندهش فيهم الرؤساء وآحتاروا. لقد “عهدوهم أمّيين لا علمَ لهم ولا حول ” (أع4: 13)، وأُعْجِبَ الناسُ بسلوكهم (أع2: 47). هذا التغييرُ في حياتِهم أجراهُ الروحُ القدس بمواهبه وتوجيهاتِه. صار تعليمُهم لذيذًا للسمع يُنعِشُ سامعهيم. كان اللهُ حاضِرًا فيهم ، وهم يعيشون معه كأبناء. لقد نالوا في المسيح حياة جديدة، صاروا يُفَّكرون مثله، ويتصَّرفون كأنهم آلِهة (يو10: 34).
هذا هو ثمرُ الولادة الثانية بالروح. بعدَ تنقيةِ الأنسان من آثارِ ضُعفِه وجهلِه يتِمُّ تزويدُه بنورٍ إلَهي يُنيرُ فكرَه وبقُوَّةٍ تُسَّلحُه فلا يقوى عليه الشّرير كما في البدء. بعدَ المعمودية يرى المؤمن الأمورَ كما يراها الله، لا كما يُريدُها ابليسُ ويُقَدِّمُها. يفهمُ المؤمنُ أنَّ الحُّبَ هو دربُ الحياة الحَقَّة مارًّا بالمسامحة والبذل. لقد رأى في يسوع نموذج ذلك. ولمَّا عرفَ الحَقَّ الذي كشفه اللهُ في المسيح لا يقوى أحدٌ بعدُ على غشِّه وخِداعِه. كما لا يحتاجُ الى نبِيٍّ جديد (يو4 : 42). وبعدَما عرف المؤمنُ الحقيقة يقدرُ أن يختارَ السلوكَ الصحيح، ويعيشَ حياتَه مع الله من الآن، فيكون الملكوتُ في داخلِه (لو17: 21)، وهو في الملكوت من الآن. ولا شكَّ في أن المعمودية هي الولادة الجديدة الثانية التي تمَّت “بغسل الميلاد الثاني لحياةٍ روحية جديدة بالروح القدس” (طي3: 5؛ 1بط1: 23؛ أف5: 26).