تتلى علينا اليوم القراءات : خر40: 1-16 ؛ عب8: 1- 9: 5 ؛ متى12: 1-8
الرسالة : عبرانيين 8 : 1 –9 : 5 { أنظر الأحد السادس للدنح }
إنَّ هيكلية الأدارة الكنسية الدينية والعبادة الروحية الجماعية تعكس كثيرًا ما تمَّ تنظيمه على يد موسى بإيعازٍ سماوي. ومن جهته لن يترَّددَ كاتبُ هذه الرسالة في القول بأنَّ ما نظَّمَه موسى :” كان صورة وظِلًّا للحقائق السماوية ” التي تلَّقاها من أمرٍ إلهي (آية5). ما يدُّلُ على أنَّها ليست ثمرة محضِ فكر الأنسان ومشيئته. الله نفسُه هو مُهندسُ الحياة الأيمانية، كان ذلك على جبل سيناء مع يهوى وبوساطة موسى (خر3: 7-17)، أو على جبل طابور مع المسيح وبوساطة بطرس (متى17: 1-8). يُؤَّكدُ مار بولس ذلك بخصوص القربان المقدس حيث قال :” بَلَّغتُ إليكم ما تلَّقيتُه من الرب” (1كور11 : 23). وما حدثَ في العهد القديم ” كان مثلاً لنا وكُتِبَ لتعليمنا ” (1كور10: 11؛ رم15: 4) . وهذا يدُّلُ على أن الوحي، في الكتاب المقدس، من الله الواحدِ نفسِه، وأنه يمتَّد عبرَ الأجيال. فالله نفسُه قائدُ المسيرة الخلاصية لشعبه المؤمن به، وبالتالي إنَّ الله ما يزالُ مُستمِرًّا في عمله من أجل خيرالأنسانية، كما قال الرب يسوع :” إنَّ أبي ما يزالُ يعملُ، وأنا أيضًا أعملُ” (يو5: 17).
لنا حبرٌ جلس عن يمين الله
مقارنةٌ يجريها الكاتب، بوحيٍ إلهي، بين يسوع المسيح وموسى. موسى هو عاقدُ العهد الأول مع الله بآسم الأنسانية، نفَّذه ” بدم الثيران والتيوس” (عب10: 4)، الغير قادرة على أن تمحوَ الخطايا” (عب10: 11). أمَّا المسيح فهواللهُ العاقدُ عهدًا جديدًا مع البشرية ” بدمه، وكسبَ لنا فداءًا أبديًا ” (عب9: 12)، و” جعل الذين قَّدَسَهم كاملين أبدًا “(عب10: 14). وبينما لم يكن موسى إلاّ ” أمينًا على بيت الله ” (عب3: 5)، ونال حينًا تأنيبًا من الله (عدد20: 12)، نالَ المسيح مدحًا وتأييدًا أنه ” الأبن الحبيب الذي به سُرَّ الله” (متى3: 17). وقد إعترف موسى بتفَوَّق المسيح عليه فطلب سماعَ كلامه (تث18: 15)، بينما أعلن الله مشيئته وأمرَبالخضوع لشريعةِ المسيح (متى17: 5). وتبعًا لهذا الواقع يعترفُ الوحيُ أنَّ المسيح هو الكاهن الأعظم ، الحَبْرُ الوسيط الأوحد بين الله والناس (1طيم2: 5). فالمسيح هو المخَّلص الموعود، الكلمة الألهي الذي حَّلَ في الناسوت ليُحَّققَ مشيئة الله وخُطَّتَه لراحة البشرية. فباطلاً يتقَّيدُ البعضُ بشريعة موسى والمسيحُ الرَّب تحَّداها وخالفَها.
نال المسيح خِدمةً أفضل !
يواصلُ الرسول مقارنته بين المسيح وموسى. قامت المقارنة الأولى على هوية الشخصين. أما هذه المرَّة فتشملُ خدمتهما. فبينما إقتصرت خدمة موسى وشريعته على الجسد وحاجاته تعَّدتها شريعة المسيح وتعالت الى خدمة الروح. والخدمة مرتبطة بالكهنوت. إقتصر كهنوت هارون وخلفائِه على تقديم الذبائح والقرابين. لم يكن له دور في تغذية الروح وإنارة العقول. رغم أن الله طلب قداسة السيرة وسُمُوَّ الأخلاق لكنَّ الكهنة تمسَّكوا بحرف الشريعة وأهملوا روحَها. حتى وصفهم المسيح بـ “القادة الجُهَّال العميان.. الذين أهملوا ألزَمَ ما في الشريعة ، روحَها: العدلَ والرحمة والوفاء” (متى23: 16-20)، وآلتزموا بنظافة الجسد والأواني وحتى الأسرة حسب تقليد الشيوخ مهملين شريعة الله بنظافة الفكر والروح (مر7: 1-9). أمَّا المسيح فتوَّخى، في تعليمه، أن يُنعشَ الحياة بالتركيز على الروح (يو6: 63) على الضمائر والقلوب (آية10). إهتمت خدمة موسى بالمأكل والمشرب والملبس وشهوة الجسد، بينما” ليس ملكوت الله أكلا وشربا بل بِرٌّ وسلام وفرح… بها يُنالُ رضى الله وحُظوةُ الناس” (رم14: 17). حتى عبادته كانت بالشفاهِ والباطل، وعن جهل (اش29: 13؛ متى15: 8-9؛ يو4: 22). أمَّا خدمة المسيح فأولتْ إهتمامها بالروح، بالمحبة والصوم والصلاة والصدقة ، ببناء ملكوتِ الله وبِرِّه (متى6 : 33)، وبعبادة صادقة ” بالروح والحق ..لأنَّ الله روح ” (يو4: 23-24).
عهدُ المسيح أفضل من سابقه !
ركز الرسول على أنَّ الشخصَ والخدمة مرتبطان بالعهد. أمرٌ بديهيٌ مفهوم : لو كان العهدُ الأول كاملاً وحقَّقَ خلاص الأنسانية فحَرَّرها من قيد الخطيئة وأعاد إليها حَقَّها في التمتُّع بخيرات الله، فآستعادت فردوسَها المفقود، لما صارت الحاجة الى عقد عهدٍ جديد. ولو إلتزم الشعب بالعهد رغم ضعفه لما وعدَ الله بعهد جديد. ولمَّا كان العهد الأول مؤَّقتًا، تدريبًا على معرفة الأله الحَّق ومحبته وحفظ وصاياه وتهيئة لرفع المستوى الروحي للأنسان كان مُنتظَرًا أن يعقبَه عهد جديد ثابت يضمن كشف الحقيقة كلها وتسليمَ الأنسان حريتَه ومسؤوليته عن مسيرة حياة الراحة والفرح والهناء برفقة الله.
وكما رأينا كان قائد العهد الأول إنسانًا محضًا وخدمته جسدية محضة. ومن الطبيعي أن يبدأ كلُّ شيء بالبسيط أولا ثم يرتقي ألى الأسمى والأعقد. كان ذلك ضرويًا قبل أن يأتي القائد الألهي وينشر دعوته يالأرتقاء الى مراتب الروح ويباشر خدمته الروحية. يرتقي الأنسان من الأدنى الى الأسمى، يولد طفلاً ثم ينمو ويشتَّدُ عودُه ويُنتجُ ما يبني الحياة الأجتماعية. كذلك الشجر ينبت ثن ينمو ثم يُثمر. هذه سُنَّة الخالق لكل كائناته. هكذا مَّـرَ العهدُ بمراحل عديدة وطويلة قبل أن يبلغ شكله النهائي. بدأ مع آدم بوعدٍ ثم مع نوح فإبراهيم فموسى حتى إكتمل ىالقائد الروحي المسيح، في الله ذاته المُتأَّنس، ليُنَفِّذَ وعده بالرحمة (لو1: 55، 78)، وبإعادةِ السلام و الراحة إلى الأنسان.
هذا ما وعدَ به الله :” أقطع لبني يهوذا عهدًا جديدًا..لا كالأول الذي لم يثبتوا عليه .. أجعلُ شريعتي في ضمائرهم وأكتُبُها في قلوبهم” (إر31: 31-34؛ آية 8-10). لا ينقشها على ألواح من حجر. لا يكتبها بحِبْرٍ بل بروحه الحَّية وبدمه الفادي وعلى ” ألواح من لحم ودم ” (2كور3: 3). سيجعلُ الله مقامه في فكر المؤمنين وفي قلوبهم، ويكون لهم نورًا يُضيءُ لهم درب الحق والبر(يو14: 23). ولن يُعاقب ذنوبَ الآباء بالأبناء ممن يبغضونه (خر20: 5)، بل” يصفح عن آثامهم، ولن يذكرخطاياهم من بعد” (آية12). وهذا ما أكَّدَه المسيح ” أريد رحمةً لا ذبيحة ” (متى9: 13؛ 12: 7). وهذا ما فعله إذ أحَّب الناس ‘لى أقصى حَّد ممكن، فرحم الناس وبذل نفسَه عوضًا عنهم، ودفع ثمن خطاياهم على الصليب، وغفر لهم هناك: ” يا أبتاه إِغفِر لهم ..” (لو23: 34). هكذا رأى الرسول أن ليس صحيحًا بل مَخذولاً أن يرغبَ اليهودُ المتنصرون التشَّبثَ بموسى وبشريعته وبخدمته، لأن المسيحَ أعظم منه وألغى عهده (متى 21: 43). وقد وقف موسى بجانبه كخادم (متى17: 3).