الأحــد الأول للكـنيـسة ! ” قذمايى “

للعلم : هذا السابوع الأخير من السنة الطقسية تتعَّلق بدايتُه، مع بداية سابوع البشارة الذي يليه، وهو الأول منها، بعيد الميلاد. يبدأُ دومًا في الأحد الثامن قبل العيد. لأنَّ العيد يتحَّكم في بدء السنة الطقسية، بحيث تحتفلُ الكنيسة الكلدانية، بأربعة آحاد قبل العيد. وهذا يتحكم بدوره في بدء سابوع الكنيسة، بأربعة آحاد أخرى قبل البشارة. يقع دومًا بدء هذا السابوع بين 30/ 10 و5/ 11. ولهذا السبب تُعَّومُ آحادُ موسى الأحتياط ويُحتفَلُ كلُّ سنة بعدد مختلف منها حتى لا تُعيق بدء سابوع الكنيسة.

تتلى علينا اليوم القراءات : اش6: 8-13 ؛ 1كور12: 28-13: 8 ؛ متى16: 13-20

الرسالة : 1 كورنثية 12 : 28 – 13 : 8

تحَّدث بولس عن المواهب الروحية. وأكَّد أنها لبناء الحياة العامة إنسانيًا وإيمانيًا. ويُؤَكِّدُ هنا أنها تختلفُ في مهمَّتِها حتى تتسامى بعضُها على غيرها. فتتسامى مثلا مهمة الرسول على النبي أو المعَّلم. وقياسًا بها تكون موهبة الرسول أهَّم من موهبة النبي أو المعلم. ولهذا يؤَّكد بولس أن يسوع أقام رسلا أولاً ثم أنبياء وثم معَّلمين. وإذ كان المؤمنون يتوقون إلى التحَّلي بالمواهبـ، وربما تاقَ البعضُ إلى عدد كثير منها، نصحهم بولس بأن لا ينخدعوا بمظاهر الموهبة، التي تجذب النظر والتقدير أكثر من غيرها، مثلاً التكلم بلغات أو صنع المعجزات، بل أن يتوقوا إلى التي هي أفضل. ويقول أنه هو يدُّلُهم على الأحسنِ بينها.

إن لم تكن ليَ المحَّبة فأنا لا شيء !

وضع بولس المحَّبة في قمَّة المواهب وأعظمهن. وصَفَها : أولاً :في جوهرها فسمت فوقَ كلِّ المواهب. ماذا ينفعُ الكلام حتى بقوَّةِ الروح القدس إذا كان لا يبني مملكة الله في حياة الناس؟. إنَّه ليس أفضل من آلةٍ موسيقية تنفخ فيها فترُّنُ ثم يزول لحنها!. أو ماذا ينفع أنْ أتكَّلم بلغة لا يفهمها غيري فأتباهى وأفتخر وأتعالى على الناس؟. عملت هذا الشيء ليمدحني الناس. و الناس مَجَّدوني عليه، فسُررتُ. وأخذتُ أجري عليه كما قال الرب (متى6: 5-6).ماذا بقي عندي منه لله ؟. لا شيء. بل عوض تقريبي من الله أبعدني عنه. ولو تصَّدقت بكل أموالي للمحتاجين أوتبَّرعتُ بها للكنيسة وللمشاريع الخيرية. ماذا تنفعني إذا إشترطتُ إعلانها و إثباتها ليعرفها جميع الناس ؟ والرَّبُ يقول ” لا تعرف شمالك ما تصنعه يمينك؟ (متى6: 3). وحتى لو كان لي إيمان ” ينقلُ الجبال” أو قدَّمتُ ” جسدي ليُحرق “، بسبب إيماني. نعم ولكن لكي أفتخر بنفسي وأحتقر الآخرين وأدينَهم ، كما فعل فرّيسيُّ الأنجيل (لو18: 9-14). أين مجدُ الله؟ وأين محَّبته ؟. موسى، عندما أمره الرب بإخراج الماء من الصخرة فعلَ ذلك لكنَّه شكَّ بكلام الرب ولم يُعطِ المجدَ لله فكلَّفه ذلك حرمانَه، هو وهارون، دخول أرض الميعاد التي من أجلها وحُّبًا بها تحَّملا مسؤولية قيادة الشعب وأخطاءَه (عدد20: 1-13).

وأعظمُهُنَّ المحَّبة !

ثانيًا: وصف بولس المحبة في أعمالها. فرأى ميزانها أثقُلَ من بقية المواهب مُجتمعَةً. فقال : ” المحبة تتأَّنى، ترفقُ .. تصفح، تُصَّدق، ترجو، تتحَّمل وتصبر”. فالمحَّبة حياةٌ تعاش وليست فعلاً أُدِّيَ فآنتهى. إنها لا تصنع شيئًا يُستخدَم فيسوف ويزول. بل تبني ما يبقى ويكون مصدرًا لقوَّى أخرى تُثمر. إنها إجابيةٌ في كلِّ إيحاءاتها. وتنفي كلَّ شيءٍ سلبِيٍّ من إيعازاتِها. فهي: ” لا تحسُد، لا تتكبَّر ولا تفتخر بنفسِها، لا تغضب، لا تحقُد، لا تُسيءُ الظن بأحد ولا إلى غيره بشيء، لا تطلب ما لنفسِها، لا تفرح بالظلم، ولا تتشَّفى بمصائبِ أعدائها “، ولا تشمت أبدًا (أم 30: 10). ولم يُعرَفُ أحدٌ قَّط بهذه الصفات ما عدا الله. وقد إختصَرَ الله أخلاق الأنسان بالمحبة :” أحبب الله بكل قلبك وبكل فكرك وبكل قوَّتك..” (تث6: 6)، و” أحبب القريب كنفسِك ” (أح 19: 18). وأكَّد عليها يسوع المسيح وأعلن أنَّها لُبُّ أوامر الشريعة وتعليم الأنبياء (متى22: 37-40؛ رم13: 8-10)، ولا وصِّية أعظم منها (مر12: 28-31) ، و أضافَ بأنها ضامنةٌ للحياة (لو10: 25-28)، وأنها علامة فارقة {ماركة مسَّجَلة} للمؤمنين بالمسيح (يو13: 35). وأكَّد الرسول يوحنا بأن محبة الله والأنسان هي واحدة لا تتجَّزَأُ ولا تنقسم الى درجات ولا تختلفُ. كما أكَّدَ أيضًا بأن محبةَ القريبِ دليلُ صِدق ِالمحبة لله (1يو4: 20). فالأنسان إِمَّا يُحِّب أولا يُحِّب!، فهو إمَّا ” حّارٌ أو بارد “، أما الفاتر فيتقَّيأُه اللهُ من فمه (رؤ3: 16). المحبة تُحيي، والمحبة تُعطي كلَّ شيءٍ قيمَتَه، وبدون المحبة لا ينفعُ شيءٌ.

المحَّبةُ لا تـزول !

ثالثًا : دوام المحبة. قال المُزَّمر” أُذكر كيف أنا زائل؟.. أَ يحيا الأنسانُ ولا يموت؟ ” (مز89: 48-49). ويقول الحكيمُ :” لا عملٌ ولا تفكيرٌ ولا معرفةٌ ولا حكمةٌ في عالم الأموات الذي أنتَ صائرٌ إليه ” (جا9: 10). فقط ” ما يعملُه اللهُ وحدَه يدومُ للأبد” ( جا3: 14). هذا ما أكَّده الرسول في رسالته للكورنثيين المُتباهين بحكمتهم :” النبوءاتُ تبطل. اللغات تنتهي. المعرفةُ أيضًا تبطل” لأنها كلُّها ” ناقصةٌ “. ومتى جاء الكاملُ زالَ الناقصُ”. الله وحده كامل. أما ما يكسبُه الأنسان عن طريق الحواس فيبقى محدودًا وناقصًا وزائلًا، عند الموت، أمام كمال معرفة الله وقدرته. إنَّ معارف الأنسان ومقتنياتِه حسِّية زمنية وقتية تنفع فقط لحياة الزمن. إنها نورٌ وطاقة تنَّظمُ و تقودُ مسيرة الأنسان. ليست هي التي تُحييه. ما يُحييه هو نسمة حياةٍ إلهية منحَها اللهُ للأنسان ليشُّع صورة الله في الكون (تك2: 7). الأيمان نفسُه ينتهي عند ” رؤية الله وجهًا لوجه “. حتى الرجاءُ أيضًا يزول عندما يصلُ الأنسان الحياة الأبدية، حيث لا رجاءَ في تغييرالمصير (لو 16 :26؛ متى25: 46 و12؛ 7: 22-23).

أمَّا المحبة فلأنها من جوهر الحياة الألهية ، واللهُ أزليٌ أبدي، والله هو محبة (1يو4: 8)، و عليها مجبولةٌ نفس الأنسان الخالدة، فـ” لن تزول”. إنَّها االبذرة الألهية في روح الأنسان . إنها حياته مثل الله. ولهذا نصح بولس تلاميذ المسيح أن يُجاهدوا في سبيل إقتناءِ المحَّبة و ممارستِها أكثر من إقتناء أيَّةِ موهبة أخرى. لأنَّ المواهب الروحية كلها لخدمة الأنسان تُعينُه في عيش حياته الزمنية بشكل مُريحٍ مُرضٍ، و تُـعدُّه لآقتناء الحياة الأبدية.

الله واحد، كذلك الأنسان في طبيعتِه. وتأتي المحَّبة لتُكَّمله في سلوكه. فالمحبة الألهية تجمع البشرية كلها في محبة الله الآب والأبن المتبادلة و وحدتهما مع البعض (يو10: 17؛ 14: 31؛ 17: 22-23 ) ومع المؤمنين (يو14: 23؛ 17: 21). فالمحبة هي الوجودُ نفسُه، وهي الحياةُ أوالعملُ المشترك بين الله والأنسان، لتمديد هذا الوجود ولآشتراك الأنسان في راحة الله الأبدية ونعيمه الذي لا يزول.